كيفَ تتعاملُ معَ التّنوّعِ في الإعتقادِ.
الإختلافُ بينَ البشرِ حقيقةٌ واقعيّةٌ وبخاصّةٍ فيما يتعلّقُ باعتقاداتِهم الدّينيّةِ، فإذا كانَت التّبايُناتُ الفكريّةُ تعودُ إلى التّباينِ في طبيعةِ التّفكيرِ البشريّ بسببِ تدخّلِ مجموعةٍ منَ العواملِ المُؤثّرةِ في عمليّةِ الفهمِ والإدراكِ، فإنَّ الإختلافَ العقديَّ أكثرُ تأثُّراً بهذهِ العواملِ، حيثُ تتدخّلُ البيئةُ والوراثةُ والثّقافةُ والمُجتمعُ مُضافاً للمُحيطِ السّياسيّ والإقتصاديّ في صياغةِ إنتماءاتِ النّاسِ وإعتقاداتِهم، والدّارسُ لتاريخِ الأديانِ والمذاهبِ يقفُ على عُمقِ تأثيرِ هذهِ العواملِ على الإختياراتِ الدّينيّةِ والعقائديّةِ، ولحساسيّةِ أمرِ العقيدةِ وأهميّتِها ولصعوبةِ وصولِ البشرِ بشكلٍ مُستقلٍّ إلى الحقِّ مِنها، بعثَ اللهُ الأنبياءَ والرّسلَ مِن أجلِ هدايةِ النّاسِ وتوجيهِهم إلى الصّراطِ المُستقيمِ، وقَد جاءَت جميعُ الرّسالاتِ بشرائعَ مُختلفةٍ ولكِن بعقيدةٍ واحدةٍ، الأمرُ الذي يدلُّ على كونِ العقيدةِ غيرَ قابلةٍ للتّعدّدِ والتّباينِ؛ لأنّها تُعبّرُ عَن حقائقَ واقعيّةٍ مثلَ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ مُضافاً للإعتقاداتِ الكاشفةِ عَن نوعِ العلاقةِ بينَ الخالقِ والمَخلوقِ مثلَ الإيمانِ بالرّسلِ والكُتبِ السّماويّةِ وما يتجلّى عَن كُلِّ ذلكَ مِن تفاصيل، ولتحقيقِ العقيدةِ الواحدةِ بينَ الجميعِ عملَ الإسلامُ على مُحاربةِ كلِّ المَنهجيّاتِ الظّنّيّةِ وعملَ على تحصينِ الأفرادِ مِن تأثيرِ الأهواءِ والشّهواتِ، حيثُ نجدُ مُعظمَ الآياتِ التي أدانَت إنحرافَ المُجتمعاتِ عنِ العقيدةِ تنسبُ ذلكَ إمّا لأهواءِ النّفسِ وإمّا إلى تأثيرِ البيئةِ والثّقافةِ المُجتمعيّةِ، قالَ تعالى في ما يخصُّ إنحرافَ النّصارى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اختَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ)، وقال تعالى: (وَمَا لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغنِى مِنَ ٱلحَقِّ شَيـًٔا) وهكذا حذّرَ القُرآنُ منَ الإعتقادِ بشيءٍ لَم يكُن عَن علمٍ، قالَ تعالى: (وَلا تَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ ۚ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا) وفي ما يخصُّ تقليدَ المجتمعِ والآباءِ قالَ تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَل نَتَّبِعُ مَا أَلفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَو كَانَ آبَاؤُهُم لَا يَعقِلُونَ شَيئًا وَلَا يَهتَدُونَ) أمّا ما يخصُّ الأمراضَ النّفسيّةَ التي تحولُ بينَ الإنسانِ وبينَ معرفةِ العقيدةِ الصّحيحةِ نجدُ الآياتِ أشارَت إلى كثيرٍ مِن هذهِ العواملِ مثلَ قولِه تعالى: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوتُهُم لِتَغفِرَ لَهُم جَعَلُوا أصابِعهُم فِي ءَاذَانِهِم وَاستَغشَوا ثِيَابَهُم وَأَصَرُّوا وَاستَكبَرُوا استِكبَاراً) وقالَ في سببِ كُفرِ قومِ عادٍ: (فَأَمَّا عَادٌ فَاستَكبَرُوا فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَن أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَم يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُم هُوَ أَشَدُّ مِنهُم قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجحَدُونَ) وغيرِ ذلكَ منَ الآياتِ التي تُعالجُ أسبابَ الإنحرافِ عنِ العقائدِ الحقّةِ، وعليهِ فإنَّ العقيدةَ في نفسِها أمرٌ غيرُ قابلٍ للتّباينِ والإختلافِ، وفي نفسِ الوقتِ شديدةُ التّأثّرِ بالأهواءِ والمصالحِ وغيرِ ذلكَ ممّا يُؤكّدُ أنَّ كلَّ الإنحرافاتِ العقائديّةِ تسيرُ في إتّجاهٍ مُعاكسٍ للعلمِ والمنطقِ السّليمِ، وإذا وصلَ البشرُ إلى مُستوىً منَ التّجرّدِ عَن هذهِ العواملِ وحكّموا منطقَ العقلِ لتوصّلوا جميعهم إلى إعتقادٍ واحدٍ يُعبّرُ عنِ الحقيقةِ والواقعِ، ولِذا كانَ طلبُ القرآنِ منَ الجميعِ أن يتعقّلوا، ولا أظنُّ أنَّ هُناكَ فِكراً يمتلكُ في نفسِه الثّقةَ إلى درجةِ أنّهُ لا يطلبُ منَ المُخالفِ سِوى تحكيمِ عقلِه بعيداً عنِ الأهواءِ والرّغباتِ الشّخصيّةِ، وهذا ما فعلَهُ الإسلامُ معَ جميعِ البشرِ وفي كلِّ الأزمانِ، فقَد تردّدَ في القرآنِ أكثرَ مِن 49 مرّةً عباراتُ (لعلّكُم تعقلونَ)، (أفلا تعقلونَ)، (إن كنتُم تعقلونَ)، (أفلَم تكونوا تعقلونَ) وغيرُ ذلكَ منَ العباراتِ التي لَم تُكلِّف البشرَ أكثرَ منَ الرّجوعِ إلى العقلِ والتّحاكمِ للبُرهانِ والمنطقِ، ولِذا أكّدَ علماءُ الإسلامِ على حُرمةِ التّقليدِ في العقائدِ وضرورةِ تحصيلِ العلمِ بها بالأدلّةِ القطعيّةِ، الأمرُ الذي يكشفُ عَن كونِ العقيدةِ تُعبّرُ عَن حقائقَ واقعيّةٍ غيرِ خاضعةٍ للظّروفِ أو الميولِ النّفسيّةِ، وبالتّالي أيُّ إنحرافٍ يقعُ بينَ البشرِ سببُه عدمُ إحتكامِ الجميعِ إلى البُرهانِ العلميّ والدّليلِ المنطقيّ، ولِذا لَم يُطالِب القرآنُ المُخالفينَ بغيرِ البُرهانِ لكونِه الطّريقَ الحصريَّ للإعتقادِ، قالَ تعالى: (تِلكَ أَمَانِيُّهُم ۗ قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ) وقَد صنّفَ القُرآنُ حُججَهُم بكونِها مُجرّدَ أماني وظنونٍ نفسيّةٍ ثمَّ ذكّرَهُم بالبُرهانِ كطريقٍ حصريٍّ لإثباتِ أيّ مُدّعى.
وعليهِ فإنَّ التّعدّدَ في العقيدةِ أمرٌ غيرُ مُبرّرٍ لكونِها مُعبّرةً عَن واقعيّةٍ غيرِ قابلةٍ للتّعدّدِ، أمّا مِن جهةِ الإنسانِ فإنَّ التّعدّدَ العقديَّ أمرٌ ظاهرٌ وملحوظٌ للعيانِ، والتّعاملُ الذي تفرضُه الضّرورةُ الإجتماعيّةُ والعيشُ المُشترَكُ يقتضي قبولَ هذا التّنوّعِ، وذلكَ لكونِ الإعتقادِ شأناً فرديّاً ومسؤوليّةً شخصيّةً ولا وجودَ لأيّ سُلطةٍ يمكنُ أن تفرضَ تصوّراً عقديّاً على الجميعِ، ولو كانَ هُناكَ جهةٌ مُهيّئةٌ لهذا الدّورِ لكانَت الأنبياءَ والمعصومينَ ومعَ ذلكَ لَم يفرضوا عقائدَهُم على النّاسِ، قالَ تعالى: (قَالَ يَا قَومِ أَرَأَيتُم إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحمَةً مِّن عِندِهِ فَعُمِّيَت عَلَيكُم أَنُلزِمُكُمُوهَا وَأَنتُم لَهَا كَارِهُونَ)
اترك تعليق