هل يتعارض الدعاء (يا محمد يا علي اكفياني فانكما كافيان) مع قوله تعالى (أليس الله بكاف عبده)؟
مناقشة هذه الإشكالية تتطلب فهم العلاقة بين التأثير الفعلي للأسباب التي يستعين بها الإنسان في كل شؤون حياته، وبين إيمانه بان الأمور كلها بيد الله سبحانه، وبمعنى أخر هل يتعارض تعلق الإنسان بالأسباب والاستعانة بها مع إيمانه بكون الله هو الفاعل الحقيقي أم لا؟ أن الإجابة على هذا السؤال هي التي تحدد إذا كان طلب النصرة أو الكفاية من رسول الله أو أمير المؤمنين تتعارض مع كون الله هو الناصر والكافي أم لا.
المسلمة التي نرتكز عليها هي أن الوجود وبكل ما فيه من أسباب ومسببات يجري بمشيئة الله وأمره، والمسلمة الثانية هي أن الإنسان لا يمكنه الاستمرار في الحياة بدون الاستعانة بالأسباب سواء كانت طبيعية أو غير طبيعة، وعليه فإن الإنسان إما أن يتصور بأن هذه الأسباب لها استقلالية بمعنى أنها مؤثرة شاء الله أو لم يشاء، كما هو موقف الماديين، وإما أن يعتقد أن هذه الأسباب تقع في طول إرادة الله ومشيئته وحينها لا تتعارض مع مشيئة الله تعالى، ومن هنا نؤكد على المسلمة الثالثة وهي أن اجماع المسلمين قائم على أن استعانة العبد وتوسله بالأسباب لا يتعارض مع توحيده لله تعالى.
وإذا نظرنا للقرآن الكريم وجدنا أنه تارة ينسب التأثير لهذه الأسباب وتارة ينسبها إلى نفسه، وإليك أمثلة من ذلك.
قال تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) فهي تؤكد ان الرزق بيد الله. وإذا نظرنا إلى قوله (وارزقوهم فيها واكسوهم..) نجدها تنسب الرزق إلى الإنسان.
والزراعة التي هي مهنة الإنسان نجد أن الله نسبها لنفسه في قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون). وفي آية أخرى يؤكد نسبتها للإنسان قال تعالى: (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار).
وفي آية يجعل الله وفاة الانفس بيده قال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها). وفي آية اخرى يجعلها فعلاً للملائكة، قال تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).
وفي آية يعتبر القرآن الشفاعة حقاً مختصاً بالله وحده، قال تعالى: (قل لله الشفاعة جميعاً) ويخبر في آية أخرى عن وجود شفعاء غير الله سبحانه كالملائكة قال تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله).
وفي آية يجعل الله الاطلاع على الغيب أمراً مختصاً به، قال تعالى: (قل لا يعلم ما في السموات والارض الغيب إلا الله) ونجد في آية أخرى أن الله اختار من عباده رسلاً لاطلاعهم على الغيب إذ يقول: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء). وغير هذه من الآيات.
فالناظر لهذه الآيات من أول وهلة ومن غير تدبر يشعر أن هناك شيئاً من التناقض، وفي الواقع إنها جميعها تؤكد على أن الله سبحانه هو المستقل بفعل كل شيء وأما بقية الأسباب التي تقوم بنفس الفعل إنما تقوم بها على نحو التبعية وفي ظل القدرة الإلهية، وقد اجتمعت هذه الحقيقة في آية واحدة وهي قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) فمع أن الآية اثبتت فعل الرمي إلى الرسول إلا أنها في ذات الوقت نفته عنه وارجعته إلى الفاعل الحقيقي وهو الله تعالى.
وعلى ذلك يمكننا أن نقسم الفعل الإلهي إلى قسمين:
1ـ فعل من غير واسطة (كن فيكون).
2ـ فعل بتوسط واسطة، مثل أن ينزل الله المطر بواسطة السحاب، ويشفي المريض بواسطة العقاقير الطبية... وهكذا. فإذا تعلق الإنسان وتوسل بهذه الوسائط معتقداً أنها غير مستقلة يكون موحداً وخلاف ذلك يكون مشركاً.
ذهبت الوهابية إلى أن التوسل بالأسباب الطبيعية لا يتعارض مع توحيد الله بينما التوسل بالأسباب غير الطبيعية يتعارض معه، وهذا خلط واضح إذ لا علاقة بطبيعة الأسباب وماهيتها في ما يتعلق باتفاقها أو تعارضها مع إرادة الله، وإنما يعود الأمر إلى ما له علاقة بنوع الاعتقاد بهذه الأسباب، فإذا اعتقد انسان أن لهذه الوسائل والأسباب استقلالية بذاتها أي منفصلة عن الله، يكون هذا الاعتقاد شركا سوى كان السبب طبيعي أو غير طبيعي، فمثلاً، لو اعتقد أن الدواء الفلاني أو الطبيب الفلاني قادر على اشفائه من المرض بقدرة ذاتية مستقلة عن الله يكون بذلك اشرك وجعل السبب متعارض مع إرادة الله، فمهما كان نوع السبب بسيطاً طبيعياً أم غيبياً فلا دخل له في الأمر وإنما الأساس هو الاعتقاد، فإذا اعتقد إنسان أن كل الأسباب غير مستقلة لا في وجودها ولا في تأثيرها بل هي مخلوقة لله تعالى مسيرة لأمره وإرادته، يكون اعتقاده هذا عين التوحيد. وعلى ذلك إذا كان الدعاء عن اعتقاد بألوهية المدعو أو ربوبيته أو الاعتقاد بكونه مستقلاً في فعله أو بأنه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته على وجه الاستقلال فهو شرك لا محالة، أما إذا كان قائم على اعتقاد جازم بان الأمور كلها بيد الله وأن الله قد يجري الامر على يدي هذا العبد الصالح فلا اشكال في ذلك.
وعليه فإذا كان طلب الشفاعة من النبي محمد لا يعارض قوله تعالى: (قل لله الشفاعة جميعاً) فإن طلب الكفاية والنصرة منه لا يعارض قوله تعالى (أليس الله بكاف عبده) طالما لم يكن عن اعتقاد بان النبي له قدرة مستقلة عن الله تعالى، والله سبحانه يكفي عباده ايضاً بالوسائل الطبيعية فقد يكفيك شر المرض عبر الطبيب، ويكفيك شر العدو عبر نصرة الاخرين، وهكذا فإن كفاية الله لعباده تتحقق عبر التوسل بالأسباب الطبيعية، فعندما يطلب الإنسان من إنسان أخر أن يكفيه لا يكون مشركاً إلا إذا اعتقد بأنه يمتلك قدرة ذاتية بعيداً عن الله تعالى.
اترك تعليق