كيفَ أنّهُ لا يجوزُ معرفةُ اللهِ بالتقليد؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
المُستندُ العقليُّ في عدمِ جوازِ التقليدِ في العقائدِ هوَ تفوّقُ الاعتقادِ على التصديقِ والاذعانِ، وذلكَ لا يتحقّقُ إلّا بالبحثِ والوقوفِ المباشرِ على الأدلّةِ الموجبةِ للعلمِ بصدقِ ما يعتقدُ به، وقد نصَّت الآياتُ القرآنيّةُ على بطلانِ الاعتقادِ القائمِ على الاتّباعِ والتقليدِ، قالَ تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَل نَتَّبِعُ مَا وَجَدنَا عَلَيهِ آَبَاءَنَا) الأمرُ الذي يؤكّدُ على أنَّ اتّباعَ الآباءِ أو السيرَ على وفقِ ما يؤمنُ بهِ المُجتمع، منهجيّةٌ خاطئةٌ لا يمكنُ الوثوقُ بها، ولذا جاءَ الردُّ بقولِه: (أَوَلَو كَانَ آَبَاؤُهُم لَا يَعقِلُونَ شَيئًا وَلَا يَهتَدُونَ) ولذا يجبُ البحثُ والتمحيصُ فيما عليهِ المُجتمعُ مِن دينٍ واعتقاد، ولا يجوزُ الركونُ لما هوَ مشهورٌ بحُجّةِ الأمرِ الواقع، ومِن هُنا نفهمُ إجماعَ الفقهاءِ على حُرمةِ التقليدِ في العقائدِ ووجوبِ تحصيلِ العلمِ بها على كلِّ مكلّف.
والظاهرُ أنَّ المقصودَ مِن حُرمةِ التقليدِ في العقائدِ هو الاعتقادُ القائمُ على الجهلِ المحضِ سواءٌ كانَ ذلكَ استسلاماً لِما هو موجودٌ في المجتمعِ أو كانَ بسببِ اتّباعِ طُرقٍ لا تورثُ العلمَ عندَ العقلاء، ومِن هُنا فإنَّ المقدارَ المُتيقّنَ منَ الحُرمةِ هوَ الاعتقادُ الفاقدُ لأيّ سببٍ يوجبُ العلمَ والمعرفة، وهذا ما استظهرَه الشيخُ الأنصاري في فرائدِ الأصولِ في مبحثِ الظنِّ بقولِه: (جوازُ التقليدِ في الاعتقادِ إذا حصلَ منهُ الجزمُ وطابقَ الواقع، ويسقطُ بهِ وجوبُ النظرِ والاستدلالِ عنه؛ لأنّ التقليدَ لا يكونُ إلاّ عَن دليلٍ إجماليٍّ ظنّي.. وأمّا غيرُ الجازمِ العارفِ بوجوبِ النظرِ والاستدلال، فهوَ فاسقٌ عاصٍ بتركِ تحصيلِ الاعتقادِ عَن دليلٍ قطعي، لأنّ وظيفةَ المُكلّفِ هوَ الامتثالُ في تحصيلِ القطعِ بالعقائد) وعليهِ فإنَّ التقليدَ القائمَ على الوثوقِ في العلماءِ والاستنارةِ بأقوالِهم بالشكلِ الذي يورثُ علماً إجماليّاً بأنَّ ما عليهِ مِن اعتقادٍ مطابقٌ للواقعِ لا إشكالَ فيه، وليسَ بالضرورةِ أن يصلَ جميعُ المُكلّفينَ إلى درجةِ الاجتهادِ في أصولِ الدين.
أمّا التقليدُ في معرفةِ اللهِ بشكلٍ خاصٍّ، فيمكنُ النظرُ إليها مِن زاويتين.
الأولى: معرفةُ اللهِ بمعنى الاعتقادِ في أصلِ وجودِه تعالى، وفي ذلكَ يمكنُ أن يقالَ أنّها منَ الأمورِ الفطريّةِ التي فطرَ اللهُ العبادَ عليها، وبالتالي يكفي مُجرّدُ التذكيرِ والتنبيهِ ليعودَ الإنسانُ إلى واقعِ فطرتِه، وعليهِ لا يكونُ التقليدُ مذموماً طالما أصبحَ التقليدُ سبباً للعودةِ لتلكَ الفطرة، إلا أنَّ ذلكَ لا يُسمّى تقليداً؛ فإذا دققنا نجدُ أنَّ الأمورَ الفطريّةَ متى ما تنبّهَ لها الإنسانُ حصلَ لهُ العلمُ الجازمُ من دونِ أدنى شكٍّ أو ريبة، ومتى ما حصلَ العلمُ انتفى وجودُ التقليدِ؛ لأنَّ التقليدَ يعني الاعتقادَ من دون حصولِ العلم، ومِن هُنا لا يعدُّ ذلكَ تقليداً طالما كانَ الاعتقادُ مُلامِساً للوجدانِ ومُنسجِماً معَ الفطرة.
أمّا الزاويةُ الثانية: وهيَ المعرفةُ التي تتجاوزُ أصلَ الاعتقادِ بوجودِه تعالى، مثل البحثِ في صفاتِ اللهِ وأسمائِه وأفعالِه، فإنّها ممّا لا شكَّ فيه تحتاجُ إلى نظرٍ ومعرفة، وبخاصّةٍ أنّها منَ المسائلِ التي وقعَ فيها الاختلافُ بينَ مذاهبِ المُتكلّمينَ والفلاسفةِ، وتباينَت فيها وجهاتُ النظرِ بينَ مدرسةِ أهلِ البيتِ والمدارسِ الأخرى، فلا يجوزُ أخذُها عَن طريقِ التقليدِ والاتّباعِ وإنّما يجبُ تحصيلُ العلمِ بها تفصيلاً، أي يجبُ الوقوفُ على الأدلّةِ والنظرِ فيها بالمقدارِ الذي يجعلها حُجّةً بينَه وبينَ اللهِ تعالى، وإن تعذّرَ ذلكَ بسببٍ مقبولٍ عندَ العُقلاءِ يجبُ تحصيلُ العلمِ بها إجمالاً بحيثُ يكونُ مُطمئنّاً بمُطابقتِها لأهلِ الحق.
اترك تعليق