هل تحديدُ السُّنّةِ الشريفةِ لمعنىً منَ المعاني كـ (المؤمنِ) مثلاً، يدومُ إلى يومِ الدين، أم هوَ يُمثّلُ بياناً لمُصطلحٍ ضمنَ ظروفٍ زمانيّةٍ ومكانيّةٍ خاصّة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
في المبدأ يمكنُنا القولُ أنَّ الكلماتِ تستمدُّ وجودَها منَ المعاني التي تدلُّ عليها، والمعاني تستمدُّ وجودَها مِن معرفةِ الإنسانِ وعلمِه بالحقائقِ الخارجيّة، وبالتالي دلالةُ الكلماتِ تضيقُ وتتّسعُ باتّساعِ الأفقِ المعرفيّ الذي يحملهُ الإنسان، فالعلّةُ تابعةٌ للواقعِ المعرفي والثقافي الذي تعيشُه الأمم والمُجتمعات.
ومِن ناحيةٍ أخرى يجبُ أن نُفرّقَ بينَ المعنى المتقوّمِ بالمفهومِ الكُلّي، وبينَ المعنى المُتقوّمِ بالمصداقِ الجُزئي، فعندَما نقولُ إنسانٌ نحنُ نقصدُ المفهومَ الكُلّيَّ الذي ينطبقُ على مجموعةٍ منَ المصاديقِ الخارجيّة، وعندَما نقولُ زيدٌ نحنُ لا نقصدُ إلّا فرداً بعينِه، ومنَ الواضحِ أنَّ المعاني الجُزئيّةَ تابعةٌ للحقيقةِ المُشارِ إليها في الخارجِ فتكونُ ثابتةً بثباتِها ومُتغيّرةً بتغيّرِها، أمّا المعاني والمفاهيمُ الكُليّة فهيَ التي يُعبّرُ بها الإنسانُ عن علومِه ومعارفِه؛ لأنَّ العلومَ والمعارفَ في حقيقتِها مفاهيمُ كُليّةٌ وليسَت جُزئيّةً، ومِن هُنا فإنَّ الكلماتِ التي تُستخدمُ في الدلالةِ على تلكَ المعاني إنّما تشيرُ إلى مفهومٍ كُلّيٍّ وليسَ جُزئي، فعندَما نقولُ مثلاً (إيمان) فإنّنا نقصدُ الإذعانَ إلى الحقِّ على سبيلِ التصديقِ واليقين، وعندَما نقولُ فلانٌ مؤمنٌ نقصدُ انطباقَ هذا المفهومِ عليه.
وإذا كانَت هذه المفاهيمُ تعبيراً دقيقاً عن الواقعِ ووصفاً حقيقيّاً للشيءِ فإنّها تظلُّ ثابتةً بثباتِ الحقيقةِ لا يمكنُ أن تتغيّر، حتّى لو اتّسعَت معرفتُنا بتلكَ الحقيقة؛ لأنَّ التعمّقَ في المعنى وإدراكَ أبعادٍ جديدةٍ لا يؤدّي إلى انقلابِ الماهيّة وتبدّلِ المفهوم، فمثلاً مفهومُ الإنسانِ ظلَّ ثابتاً لم يتغيّر معَ أنَّ معرفتَنا اليومَ بالإنسانِ أكثرُ عُمقاً وأكثرُ تفصيلاً مِن معرفةِ الأقدمين، ومعَ ذلكَ لم ينقلِب مفهومُ الإنسانِ عندنا إلى شيءٍ آخر غيرِ الذي كانَ معروفاً عندَ الأقدمين، وهكذا الحالُ بالنسبةِ للمُصطلحاتِ الدينيّة فإنّها تشيرُ إلى حقائقَ ومعانٍ ثابتةً في مفهومِها، ومعَ ذلكَ هناكَ إمكانيّةٌ للتعمّقِ في مدلولاتِها مِن غيرِ أن تتأثّرَ دلالتُها الأوّليّة.
ومعَ تسليمِنا بوجودِ حقائقَ ومعانٍ ثابتةً في الدّين، نسلّمُ أيضاً بوجودِ معانٍ وحقائقَ مُتغيّرةٍ رهينةَ الظرفِ التاريخي، ومِن هُنا لابدَّ أن نُميّزَ بينَ الأحاديثِ التي صدرَت على نحوِ القضيّةِ الحقيقيّةِ وبينَ التي صدرَت على نحوِ القضيّةِ الخارجيّة، فتارةً تتحدّثُ الرّواياتُ عن الإيمانِ بوصفِه قضيّةً خارجيّةً مُتعلّقةً بشخصٍ مُعيّنٍ في تلكَ الفترةِ التاريخيّة، وتارةً تتحدّثُ عن الإيمانِ بوصفِه قضيّةً عامّةً غيرَ مُرتبطةٍ بمصداقٍ خارجي، فالمعنى الأوّلُ له ارتباطٌ بالظرفِ التاريخي بينَما المعنى الثاني عام.
وفي الإجابةِ على السّؤالِ يمكنُنا أن نقولَ أنَّ الرجوعَ إلى زمنِ نزولِ الوحي للوقوفِ على معاني الكلماتِ يُشكّلُ ضرورةً معرفيّة؛ وذلكَ مِن أجلِ الوقوفِ على معاني الكلماتِ التي اكتسبَت دلالاتِها في ذلكَ التاريخ، الأمرُ الذي يساعدُ في ضبطٍ دقيقٍ للدلالةِ المفهوميّةِ للكلمات، وبذلكَ نضمنُ أنَّ تحرُّكنا المعرفيَّ ضمنَ حدودِ ما أرادَه الشّرع.
وفي المُحصّلةِ المُصطلحاتُ الشرعيّة لها دلالةٌ مفهوميّةٌ واحدةٌ منذُ نزولِ الوحي وإلى يومِ القيامة، ولا يمنعُ ذلكَ منَ التعمّقِ في المعنى واكتشافِ دلالاتٍ كانَت غائبةً طالما تتحرّكُ هذهِ المعاني ضمنَ حدودِ الإطارِ المفهوميّ للكلمة.
اترك تعليق