إتهام السفراء الأربعة ومبرّراته - عرض ونقد !

: اللجنة العلمية

مقدمة:

برزتْ فكرةُ وضع السفراء الأربعة في دائرة الاتهام، ورميهم باختلاق المهدي بن الحسن العسكري(عليهما السلام) في العصور المتأخرة مع الكاتب المصري أحمد أمين (ت1954م) في كتابه: ظُهر الإسلام، وقد ألمح فيه إلى الفكرة بعد تناول عقيدة الشيعة في الإمام الغائب، فختمه قائلاً: وقد دعا قول الشيعة بغيبة الإمام الثاني عشر إلى قول بعضهم: إنّ دعوى الطفل هذه من صنع الوكلاء طمعاً في المال الذي يُجبى.."(انظر- ظُهر الإسلام، ج4،ص95)، ثمّ بدراسة المؤرخ العراقي جواد علي(ت1987م) في أطروحته الموسومة: المهدي المنتظر عند الشيعة الاثني عشرية، وقد كتب في مقدمتها(ص5): هذه الأطروحة تقوم ولأوّل مرّة بمحاولة الفصل بين الحقيقة التاريخيّة، والأسطورة في تلك المرحلة. و ليس في الأطروحة ما يدلّ صريحاً على انكار المهدي وتبنّي فكرة الاختلاق، حتى أنّ الأستاذ حسن الحكيم - وهو من تلامذة الدكتور جواد علي - في مقاله عن أطروحة أستاذه بعنوان: (حوار مع الدكتور جواد علي في كتابه المهدي المنتظر) كتب يقول: ويبدو أنّ الدكتور جواد علي قد اعتقد بصحة مولد الإمام المهدي (عليه السلام)، عام ٢٥٥هـ وفق رواية السيدة حكيمة بنت الإمام محمد الجواد عليه السلام (وهي أخت الإمام الهادي عليه السلام)، وتعدّ رواية السيدة حكيمة ذات أهمية تاريخية لأنها قد عاصرت حدث الولادة زمانياً ومكانياً.(مجلة الانتظار-  العدد: ١٠/ رجب / ١٤٢٨هـ). 

ورغم ذلك، لا تبدو الصلة منعدمة للمتابع بين أطروحة الدكتور جواد علي ومن قبله أحمد أمين و بين ما طرحه لاحقاً السياسي العراقي أحمد الكاتب في كتابه: (الإمام المهدي حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفيّة؟) الذي يمثّل تلخيصاً لكتابه الآخر: تطوّر الفكر السياسي الشيعي- من الشورى إلى ولاية الفقيه، بل يمكن القول إنّ الكاتب قد أساء اجترّار بعض مقولات من سبقه، وهذا واضح لمن يقارن ويتتبع، ويبدأ بؤس الاجترار من العنوان نفسه:(..فرضيّة فلسفيّة)، ولا ينتهي بجزمه- فيما لا يجزم هنا إلا مخبول أو معصوم- بأنّ السفراء من المدّعين الكاذبين المتاجرين بقضيّة الإمام المهدي(ص127). ويستمرّ الاجترار، لكن ليس من الكاتب، بل عنه، و من قبل بعض الشخصيات الشيعية المعاصرة مع بعض الاضافات الطفيفة فلوّح في بعض محاضراته ودروسه المصوّرة ببعض ما صرّح الكاتب قبله، ويفيد الاثنان، تصريحاً أو تلميحاً بأنّ وجود المهدي وولادته قد جاء من قبل السفراء الأربعة، فهم الذين اخترعوه وابتكروا وجوده وأدعوا  أنّهم نوّابه الخاصّون، وذكروا عدّة من المبرّرات لهذا الاتهام سيفكّك المقال أهمّها، ولكن ليس قبل اعطاء لمحة سريعة عن السفارة والسفراء عند الشيعة.

 

السفارة والسفراء عند الشيعة:

       مفهوم السفارة يعبّر عن قيادة تنوبُ عن الإمام المهدي نيابة خاصّة، وعامّة، وجهة الخصوصيّة ناظرة لآلية الاختيار، وطريقة التعيين،  ودليل التنصيب؛ إذ يتمّ فيها تحديد النائب، وتعيينه للنيابة بشخصه، بينما المنظور في العموم هي صلاحيات وأدوار النائب، إذ له من الشؤون والأدوار ما للإمام في الفترة التي تمّ تعيينه فيها ليكون نائباً خاصّاً له، يقوم مقامه و يمثل الواسطة وحلقة الوصل بينه وسائر الشيعة، وكلّ ذلك جرى في وقت الغَيبة الصغرى: المحدودة وقتاً وتواصلاً، والتي تبدأ من وفاة الحسن العسكري سنة260هـ وتنتهي سنة 329هـ، وبانتهائها يبدأ عصر الغيبة الكبرى. وعرف هؤلاء بالسفراء أو النوّاب الأربعة، وهم وحسب الترتيب:

1- عثمان بن سعيد العمري، السمّان، وقد استمرت نيابته من سنة: 260هـ حتى سنة 265هـ .

2- محمد بن عثمان بن سعيد العمري،  وامتدت سفارته بعد أبيه(السفير الأوّل) حتى سنة 305هـ

3- الحسين بن روح النوبختي، وكانت فترة نيابته قد بدأت سنة: 305هـ وانتهت سنة 326 هـ

4- علي بن محمد السمري، وبدأت سفارته سنة 326هـ وانتهت الغيبة الصغرى سنة 329هـ 

       والسفارة عند الشيعة تشبه قضيّة الإمامة، لا تثبت إلا بما يكشف عن تنصيب الإمام، ورضاه بالسفير، وينحصر ذلك بطريقين يمكن أن يكشفا عن تنصيب الإمام للسفير: أحدهما تشريعيّ ويتمثل بالنصّ على شخص السفير، والطريق الآخر تكويني ويتمّ عبر جريان المعجزة أو الكرامة على يد السفير، وهو ما قد ثبت للسفراء لدى الشيعة وعلمائهم في فترة الغيبة الصغرى، وقبلوا سفارة السفراء على هذا الأساس.وليس موضوع المقال اثبات ولادة الإمام المهدي(عليه السلام) ولا تحقيق نيابة النوّاب، والاستدلال على سفارتهم، وإنّما التعرّضُ لأهمّ المبرّرات التي استند إليها في اتهام السفراء ونقدها، وقد انتخب المقال ستة منها:

نقدُ مبررات اتهام السفراء:

1- كيف ميّز الشيعة السفراء الأربعة عن غيرهم؟

يقول الكاتب إنّه مع " انتشار ظاهرة ادعاء النيابة عن المهدي وأبيه العسكري آنذاك، حتى تجاوز عدد أدعياء النيابة الكاذبين الأربعة والعشرين...فلا يمكننا أن نميّز دعوى النوّاب الأربعة عن دعوى أدعياء النيابة الكاذبين.. .(الإمام المهدي، حقيقة تاريخيّة أم فرضيّة فلسفيّة ص132، الطبعة السابعة: 2008م.).

أقول: كان ديدنُ الشيعة -علماء وعوام، كما نقل العامّة والخاصة- اختبار المدّعين، وفحص مقالتهم، والتبيّن من أمرهم عبر مطالبتهم بآية غيبية وكرامة إلهية تثبت صحّة ادّعائهم، وليس هذا تصوّراً مجرّداً، أو بوحي من الخيال، إذ ينقل لنا التأريخ أنّهم استخدموا ذلك مع أشخاص حقيقيين وميزوا السفير الصادق عن المدّعي الكاذب بناءً على ذلك، وقد أجرى الشيعة أمر الاختبار على السفراء الأربعة كلّهم، ولمّا نجحوا صدقّوهم، والعكس صحيح، فلمّا فشل غيرهم كذبّوه، و يدلّ على هذا الديدن جملة من الشواهد وفي أقدم المصادر التاريخية والحديثية:

أ‌- أمّا النائب الأوّل فسيأتي الحديث عنه، فلنبدأ من ابنه: السفير الثاني، فبالرغم من النصّ عليه من الإمام بيد أنّ الشيعة كانوا يفحصون مقالته، ويختبرون سفارته، فحين أخبر بموته باليوم والشهر والسنة، يقول علي بن أحمد الدلال القميّ: " أثبتُّ ما ذكره، ولم أزل مترقباً به ذلك، فما تأخّر الأمر حتى أعتلّ أبو جعفر فمات في اليوم الذي ذكره...(غيبة الطوسي،ص365).ولم يكن هذا مقصوراً على العلماء والمقرّبين من السفراء:

ب‌- بل تحكي الأخبار أنّ بعض عوام الشيعة كان يقوم بذلك، يقول أحمد بن أبي روح أنّ امرأة قالتْ له:يا بن أبي روح أنت أوثقُ من في ناحيتنا ديناً وورعاً، وإني أريد أن أودعك أمانة أجعلها في رقبتك تؤديها وتقوم بها، فقلت: أفعل إن شاء الله، فقالت: هذه دراهم في هذا الكيس المختوم لا تحله، ولا تنظر فيه حتّى تؤدّيه إلى من يخبرك بما فيه...ولي إلى صاحب الزمان حاجة، أريد أن يخبرني بها قبل أن أسأله عنها...قلت: وما الحاجة؟ قالت: عشرة دنانير استقرضتها أمي في عرسي لا أدري ممن استقرضتها، ولا أدري إلى من أدفعها، فإن أخبرك بها فأدفعها ...(الخرائج والجرائح،ج2،ص699). 

ت‌- وهكذا اختبروا السفير الثالث، إذ ينقل أبو علي البغدادي (الحسين بن علي بن محمد) أنّه رأى امرأة ببغداد سألته عن وكيل مولانا (عليه السلام) من هو؟ فلمّا أُخبرت أنه أبو القاسم الحسين بن روح، يقول البغدادي: دخلتْ عليه، وأنا عنده، فقالت له: أيها الشيخ أي شيء معي؟! ... فقال: في هذه الحقّة زوج سوار ذهب، وحلقة كبيرة فيها جوهرة، وحلقتان صغيرتان فيهما جوهر.. فكان الأمر كما ذكر، لم يغادر منه شيئاً. ثم فتح الحقة، فعرض عليَّ ما فيها فنظرت المرأة إليه، فقالت: هذا الذي حملته بعينه ورميت بها في دجلة، فغشي علي وعلى المرأة فرحاً بما شاهدناه من صدق الدلالة)كمال الدين،ج2ص519).

ث‌- والأمر ذاته جرى مع آخر السفراء ورابعهم، فلمّا حضر عنده جماعة من مشايخ قم إلى بغداد، قالوا: كان أبو الحسن علي بن محمد السمري (قدس سره) يسألنا كلّ قريب عن خبر علي بن الحسين(والد الصدوق)...فقال لنا: آجركم الله في علي بن الحسين، فقد قبض في هذه الساعة. قالوا: فأثبتنا تاريخ الساعة واليوم والشهر، فلما كان بعد سبعة عشر يوما أو ثمانية عشر يوما ورد الخبر أنه قبض في تلك الساعة التي ذكرها الشيخ أبو الحسن قدس سره.(غيبة الطوسي،ص396).وإذن على هذا الأساس صدّق الشيعة السفراء الأربعة وميزوهم عن غيرهم.

ج‌- وعلى هذا الأساس أيضاً: كذّبوا أدعياء النيابة الذين أخفقوا في الاختبار، وعجزوا عن تقديم ما يثبت سفارتهم، فإنّ مما ينقل في هذا الشأن أنّ الحلاج لما ادّعى النيابة عن الإمام المهدي، و أرسل بذلك إلى أحد علماء الشيعة آنذاك وهو أبو سهل النوبختي، طالبه النوبختي بكرامة تثبت صحة ادّعائه، فكان مما قاله له: أريد أن تغنيني عن الخضاب، وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإني  طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك..(غيبة الطوسي، ص402). وليست هذه الحادثة الوحيدة في هذا المضمار، فسيأتي أنّهم اختبروا جعفر الكذّاب، وطالبوه البرهان، فلمّا عجز لم يأخذوا بقوله وكذبّوه،  كما لم يقتصر نقل ما جرى بين النوبختي والحلاج على مؤرخّي الشيعة ومحدثيهم.

ح‌- فقد نقل الحادثة آنفاً وما يشبهها بعض المؤرخّين من غير الشيعة أيضاً. فينقل عريب بن سعد القرطبي (ت369هـ)أنّ أبا سهل قال للحلاج: أنبت في مقدم رأسي شعرا.(صلة تاريخ الطبري،ص72)، ونقلها ابن النديم (ت384هـ) أيضاً في الفهرس: أنا رأس مذهب، وخلفي ألوف من الناس يتبعونه باتباعي له، فأنبت لي في مقدم رأسي شعرا..(الفهرس لابن النديم، ص241). كما نقل عريب أيضاً حادثة أخرى مشابهة خلاصتها: أنّ الحلاج كان يقوم بين الناس بعرض بعض الكرامات" وكان في القوم أبو سهل النوبختى فقال له: دع هذا وأعطني درهما واحدا عليه اسمك واسم أبيك وأنا أومن بك وخلق كثير معي...(المصدر نفسه،ص64).هكذا إذن كانوا يميزون، ومن ثمّ فالقول بانتشار دعاوى النيابة لا يسمن ولا يغني من جوع، فهو كانتشار ظاهرة السحر أيام موسى وسليمان (عليهما السلام)!

ومما يشهد على صحة هذا الاجراء الذي كان يقوم به الشيعة ومطابقته للواقع؛ هو انقراض الكاذبين ومقالتهم، وبقاء الشيعة على الاعتقاد بصدق السفراء منذ عصر الغيبة الصغرى حتى اليوم، وقد اعتمد الشيخ الطوسي على ذلك في سياق آخر فكتب يقول: إنّ  هذه الفرق كلها قد انقرضت بحمد الله ولم يبق قائل يقول بقولها، وذلك دليلٌ على بطلان هذه الأقاويل (غيبة الطوسي،ص228). 

 

2- هل نقل المؤرخون معاجز السفير الأوّل؟!

- يقول أحمد الكاتب حرفيّاً: لم يذكر المؤرخون الشيعة أية معجزة له(السفير الأول) تثبت دعواه في النيابة بالرغم من قول السيد عبد الله شبر في حق اليقين: إنّ الشيعة لم تقبل قول النوّاب إلا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الأمر، تدلّ على صدق مقالتهم، وصحّة نيابتهم.(المصدر نفسه،ص128).

- وقبل أي شيء، لا فائدة ترجى من اثبات المعاجز والكرامات للسفراء إذا كان الغرض منها اقناعه بها؛ ذلك أنّه ينكر أصل فكرة المعجزة، وينفي وقوعها حتى للأئمة، فقد كتب يقول: "ولسنا بحاجة ماسّة لمناقشة دليل المعجزة أو العلم بالغيب فإنّ هذا الأمر لم يثبت لأحد من الأئمة..." (ص138).! ويردّ جميع الأحاديث التي تنطوي على شيء من المعاجز والكرامات، ولكن مع هذا نحاكم قوله: "لم يذكر المؤرخون الشيعة أية معجزة له" بما  رواه المؤرخّون القدماء، ورواه المحدّثون الأوائل، ودونك ثلاثة فقط:

1- روى الكليني (ت329هـ) في الكافي، وعنه روى المفيد(ت413هـ) في الإرشاد، واللفظ للأخير قال: أخْبَرَني أبو القاسم جعفرُ بن محمد، عن محمد بن يعقوب ، عن عليِّ ابن محمد، عن الحسن بن عيسى العُريضي قالَ : 

لمّا مضى أبو محمد الحسنُ بن عليِّ (عليهما السلامُ)وَرَدَ رجلٌ من مصر بمالٍ إِلى مكة لصاحبِ الامْرِ، فاختُلِفَ عليه، وقالَ بعضُ الناسِ: إِنّ أبا محمد قد مَضى عن غير خَلَفٍ. وقال آخرونَ: الخَلَفُ من بعدِه جعفرُ. وقالَ آخرونَ : الخَلَفُ من بعدِه ولدُه . 

فبَعَثَ(المصري) رجلاً يكنّى أبا طالب إِلى العسكرِ يبْحَثُ عن الامْرِ وصحّتِه ومعه كتاب، 

فصارَ الرجلُ إِلى جعفر وسأله عن برهان، فقالَ له جعفرُ: لا يتهيّأْ لي في هذا الوقتِ . فصارَ الرجلُ إِلى الباب، وأْنفَذَ الكتابَ إِلى أصحابِنا المرسومينَ[الموسومين] بالسفارةِ،(وهو عثمان بن سعيد العمري)، فخَرَجَ إِليه : «آجَرَكَ  الله في صاحبِك فقد ماتَ، وأوصى بالمالِ الذي كانَ معه إِلى ثقةٍ يَعْمَلُ فيه بما يَجبُ واُجيبَ عن كتابِه » وكان الأمرُ كما قيلَ له. (الإرشاد، ج2،ص364) .

2- روى الصدوق(ت381هـ) أيضاً قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الأسود (رضي الله عنه) قال: دفعت إليّ امرأة سنة من السنين ثوباً وقالتْ: احمله إلى العمري-عثمان بن سعيد-فحملتُه مع ثياب كثيرة، فلمّا وافيتُ بغداد أمرني بتسليم ذلك كلّه إلى محمد بن العباس القمي، فسلمتُه ذلك كلّه- ما خلا ثوب المرأة- فوجّه إليّ العمري (رضي الله عنه) وقال: ثوب المرأة سلّمه إليه، فذكرتُ بعد ذلك أنّ امرأة سلمتْ إليّ ثوباً، وطلبتُه فلم أجده، فقال لي: لا تغتم، فإنّك ستجده، فوجدتّه بعد ذلك، ولم يكن مع العمري (رضي الله عنه) نسخة ما كان معي.(كمال الدين،ج2،ص502).

3- ونقل الكشي(وهو من أعلام القرن الرابع) عن أحمد بن علي بن كلثوم السرخسي (وكان من القوم, وكان مأموناً على الحديث) حدثني إسحاق بن محمد البصري , قال حدثني محمد بن إبراهيم بن مهزيار قال: إنّ أبي لمّا حضرته الوفاة دفع إلي مالاً وأعطاني علامة , ولم يعلم بتلك العلامة أحد إلا الله عز وجل , وقال من أتاك بهذه العلامة فادفع إليه المال  قال , فخرجت إلى بغداد ونزلت في خان , فلما كان اليوم الثاني إذ جاء شيخ ودقّ الباب , فقلت للغلام انظر مَن هذا فقال شيخ بالباب , فقلت ادخل فدخل وجلس, فقال أنا العمري , هات المال الذي عندك وهو كذا وكذا ومعه العلامة قال , فدفعت إليه المال.(الطوسي-اختيار معرفة الرجال، ج2، ص813).

تجدر الإشارة إلى أنّ كلام السيد شبّر تامٌ وسديد، فمضافاً إلى ما مرّ فإنّه(رحمه الله) ناظر -فيما حكاه- إلى طبيعة تعامل الشيعة في عصر الغيبة الصغرى مع دعوى النيابة الخاصّة، وطريقة تمييزهم آنذاك للمدّعي الصادق عن غيره من أدعياء السفارة؛ ومن ثمّ فعدم معرفة شخص المعجزة لنا الآن لا ينفي عنه منصب السفارة ما دام النقل المتواتر قد أثبت وقوعها نوعاً، وإلا لنفينا نبوة كثير من الأنبياء الذين تسالم الناس على نبوّتهم ولا نملك الآن مستنداً تاريخياً  يحكي لنا طبيعة المعجزة التي وقعت لهم وقتهم.

 

3- اتهامهم بالنفعيّة:

"فالنيابة تجرّ مصالح مادية ومكانة اجتماعية سياسية للمدعي..وإذا كنا نتهم أدعياء النيابة الكاذبين بجرّ النار إلى قرصهم وبالحرص على الأموال والارتباط بالسلطة العباسيّة القائمة، فإنّ التهمة تتوجه أيضاً إلى النوّاب الأربعة(المصدر نفسه، ص132).

 

- أقول: مضافاً إلى أنّ مثل هذا الكلام لا يصحّ إيراده في البحث العلمي من حيث أنّه اتهام بلا أي دليل من سيرتهم بالمطلق، ويقبل التوظيف بحق الجميع، وبعد فهي تهمة جاهزة تذكرنا بتهمة اليسار الشيوعي لكلّ من يختلف معهم بالبرجوازية، والانطلاق من المصالح الطبقية!، أقول مضافاً إلى ذلك كله، فإنّ هذا الاتهام مدفوع بالنصّ على استقامتهم، والاجماع على عدالتهم، وحسن سيرتهم، ولضيق المقام أكتفي بما قاله أبو سهل النوبختي مثالاً وشاهداً، فلمّا سئل النوبختي:كيف صار هذا الأمر(النيابة الخاصّة) إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح(السفير الثالث) دونك؟! فأجابهم من ضمن ما أجابهم: بأنّ الإمام المهدي لو كان تحت ذيل الحسين بن روح وقرّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه (انظر-غيبة الطوسي، ص391).!

هذه هي أهم مبرّرات أحمد الكاتب في اتهام النوّاب الأربعة، وننتقل الآن إلى ما أثارته إحدى الشخصيات الشيعية المعروفة، وبعض إثاراتها في هذا الشأن في حقيقتها إعادة تدوير واجترار لما طرحه الكاتب:

4- مشكلة التعرّف على خط الإمام المهدي: 

- يقول أحدهم: لا أحد يعرف خطّ الإمام؛ ليتسنّى التأكد مما يأتي به النوّاب من توقيعات ورسائل أنّها من الإمام فعلاً!، وهذا السؤال كان قد أثاره أحمد الكاتب:" كيف يمكن التعرف على خط الإمام المهدي الذي لم يره أحد ولم يُر خطه...؟(المصدر

السابق،ص136).

والحقيقة يذكّرني هذا الاعتراض بآخر لا يقلّ سخفاً وسذاجة منه، وهو أشبه بنكتة يتمّ التندّر بها أحياناً، تلك هي المقولة التي درج عليها بعض الناس حين يستدعي الموقف الاستشهاد بحديثٍ أو نقل موقفٍ للنبي(ص) مثلاً ، فينبري أحدهم قائلاً: وما أدراك؟! هل كنتَ جالساً مع النبيّ حين فعل ذلك؟و هل سمعت النبيّ قد قاله؟!، بينما القضيّة الآن في زماننا مرهونة بشيء واحد فقط، لا أكثر ولا أقل وهو: هل ما نقل صحيح أو لا؟ وهل هم صادقون في النقل أو لا؟، هذا هو الأهمّ بالنسبة لنا اليوم، وأمّا سابقاً فلم ينقل لنا التاريخ عن أحد ممّن عاصر السفراء- لا من الشيعة ولا من خصوم السفراء- أنّه قد شكّك فيما نقله السفراء عن الإمام، وهذا يعني انّ خط الإمام كان معروفاً بين الناس آنذاك، أضف إليه: ما يظهر من الأخبار من أنّ الشيعة آنذاك كانت تعرف خط الإمام، وأنّه خطه الشريف كان لا يختلف عن خطّ أبيه، وأنّ ما كان يخرج من قبل السفراء من تواقيع ورسائل كان يحمل الخط نفسه، لم يتغير، ولم يتبدّل، ويشهد على هذا جملة من الأخبار، منها ما رواه الصّدوق باسناد متصل عن أحمد بن الحسن بن إسحاق القمي: 

لما ولد الخلفُ الصالح (عليه السلام) ورد عن مولانا أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) إلى جدي أحمد بن إسحاق كتاب فإذا فيه مكتوب بخط يده (عليه السلام) الذي كان ترد به التوقيعات عليه، وفيه: ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً...(كمال الدين،ج2،ص433)، كذا روى عن إسحاق بن يعقوب: فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الدار (عليه السلام)... (المصدر نفسه،ص483)، وهكذا روى الطوسي جملة أخبار تتضمن هذا المعنى، منها ما جاء فيه التعبير عن أنّ السفير كان " يُخرج إليهم التوقيعات بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن"،(غيبة الطوسي، ص356)، ومنها أيضاً قول الحميري: لما مضى أبو عمرو (السفير الأوّل) أتتنا الكتب بالخط الذي كنا نكاتب به بإقامة أبي جعفر (السفير الثاني) مقامه(المصدر نفسه،ص362).

وأمّا السؤال: لماذا لم تصلنا التوقيعات والرسائل بخط الإمام؟!، فيبدو أننا بحاجة إلى تذكير ببعض البديهيات، ومنها أننا نتحدث عن إمام غائب، وعن سفرائه في عصر الغيبة الذين عاشوا في أجواء سلطة غاشمة تتربص بهم بنحو أشدّ مما كان مع الأئمّة السابقين، فإذا حالت الأسبابُ والظروف -وأياً تكن طبيعتها- أن يصلنا شيء من أحاديث الأئمة الأحد عشر بخطهم مع كونهم ظاهرين، فما بالك بالإمام الغائب؟!

 

 

 

 

5- ارتباطهم بالسلطة العباسيّة:

ومما أثير احتمالُ ارتباط السفراء بالسلطة العباسيّة؛ هو أنّه من غير المعقول أنّ يكون عموم الشيعة على معرفة بسفراء إمامهم فيما تجهلهم السلطة بمخابراتها وجواسيسها! !، وهذه الإثارة في واقعها واهية؛ لجملة أسباب نوجزها في نقطتين:

أولاً-مضافاً إلى أنّها تقوم على نفي إمكانية العمل السرّي مع الجماهير، و خارج نفوذ السلطات، وهو يخالف الواقع الذي عشناه في سلطة البعث التي لا تقاس بها سلطة بني العباس آنذاك من جهة الإمكانات_فإنّها تفترض أنّ السفير كان يباشر نشاطه بنفسه، وأنّه كان معروفاً هويّة ونشاطاً ومنصباً، وهو افتراض باطل؛ فقد مرّت علينا الشواهد والأخبار التي يبحث فيها عوام الشيعة عن السفير وقد تضمّن بعضها التصريح بأنّهم كانوا لا يعرفون السفير، كقول المرأة لأحمد ابن روح أنّ معها مالاً تريد إيصاله لصاحب الأمر ولا تدري إلى من تدفعه، أضف لما سيأتي من أنّ السفير لم يكن يباشر وظائف النيابة بنفسه، وإنّما كان يمثّل دور الوساطة بين الإمام  وبين الوكلاء الذين يدبّرون شؤون الطائفة .!

ثانياً- كان تحرّك السفراء يجري وفق استراتيجية توازن بين إدارة شؤون الشيعة عبر الوكلاء من جهة، وبين التخفي عن أنظار السلطة من جهة أخرى، وينصّ  الدكتور جواد علي في أطروحته على أنّ السفير الأوّل : "كان بارعاً في اخفاء نشاطه الوظيفي عن الحكومة حتى أنّ الأخبار عنه كانت قليلة جدّاً..(جواد علي- المهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية، ص104). وليس ذا غريباً أو جديداً على أصحاب الأئمة، فقد سبق منهم ما هو أكثر من مجرّد اخفاء تشيعهم وولائهم( علي بن يقطين قد عمل مع هارون العباسي وزيراً، مثالاً وشاهداً).

كانت الخطة الاستراتيجية العامّة للنوّاب في تحقيق التوازن آنفاً تتضمن جملة أمور، نورد ثلاثة منها، و بإيجاز شديد:

أ‌- اعتمادُ نظام الوكلاء: يقول الشيخ الطوسي: وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات تردُ عليهم التوقيعات من قبل المنصوبينَ للسفارة من الأصل. منهم أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي رحمه الله...(الغيبة،ص415). وينصّ الدكتور جواد علي أنّ اعتماد السفير على الوكلاء" ليكون بمنجاة من مطاردات الخليفة من قبضة شرطته"، ويضيفُ أنّه كان "نظاماً معقداً للوساطة بينه وبين نوابه في الأماكن الشيعية: كان الوكلاء يجمعون ما تتبرع به الطوائف من جميع الأشياء التي يودّون إرسالها إلى الإمام، ويرسلونها مع الرسل تحت اسم"مال الغريم" أي تخلّص المؤمن ممّا عليه من ديون-وهو رقم سري خاص بالإمام- إلى الإمام..." وأخذ يسترسل في شرحه(جواد علي-المهدي المنتظر عند الشيعة الإثني عشرية، ص125).

ب‌- العمل بالتقية، ولك أن تتصوّر إلى أيّ مدى كانت التقية مكثفةً من جملة وقائعَ رواها المؤرخّون، وللمثال دون الحصر روى الطوسي أنّه قد" بلغ الشيخ أبا القاسم (السفير الثالث) أن بوّاباً كان له..قد لعن معاوية وشتمه، فأمر بطرده وصرفه عن خدمته، فبقي مدة طويلة يسأل في أمره، فلا والله ما ردّه إلى خدمته، وأخذه بعض الأهل فشغله معه كل ذلك للتقية. ويضيف الطوسي قول ابن درانويه الأبرص: كنت أنا وإخوتي ندخل إلى أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) نعامله، قال وكانوا باعة ونحن مثلا عشرة تسعة نلعنه وواحد يشكك فنخرج من عنده بعد ما دخلنا إليه تسعة نتقرّب إلى الله بمحبته وواحد واقف؛ لأنّه كان يجارينا من فضل الصحابة ما رويناه وما لم نروه فنكتبه لحسنه عنه (الغيبة،ص386).

ت‌- الرجوع للإمام، واعتماد توجيهاته التي كانت دوراً كبيراً في درء المخاطر عنهم، وتروى في هذا السياق عدّةٌ من المنعطفات الخطيرة كانت توجيهات الإمام ورعايته لهم هي المخلص، من ذلك مثلاً: الحديث الصحيح الذي يحكي تحذير الإمام المهدي(عليه السلام) وتوجيهه بالامتناع عن زيارة قبر الكاظمين، وقبر الإمام الحسين(ع)، تقول الرواية:"لمّا كان بعد أشهر..أمر الخليفة أن يتفقد كلّ من زار فيقبض عليه" وقريب منه حدث حين نصب السلطان -عبر عبيد الله بن سليمان الوزير- كميناً للقبض على الوكلاء، فقال له: دسوا لهم قوماً لا يعرفون بالأموال فمن قبض منهم شيئاً قبض عليه، فخرج (يعني من الإمام المهدي)بأن يتقدّم إلى جميع الوكلاء أن لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأن يمتنعوا من ذلك ويتجاهلوا الأمر..(ينظر في الحادثتين: الكافي ج1،ص525).

وفيما عدا هذه الثلاثة:(نظام الوكالة، والتقيّة، وتوجيهات الإمام) ثمّة أمور أخرى أيضاً من قبيل التعمية بالمهن لقباً وعملاً كالسمّان(السفير الأوّل) الذي كان يخفي المال في جراب السّمن.

 

6- السفراء وإمكان الكذب، واحتمال الخطأ.

فممّا قيل في هذا الشأن أيضاً: إنّ النوّاب الأربعة ليسوا معصومين، وغير المعصوم  يمكنُ أن يصدر منه الكذب ويحتمل في حقهم الخطأ. ولكنّ باب إمكان الكذب واسع، وسبيله رحب، و لا يختصّ بدعوى السفارة والنيابة، فصدور الكذب (بلحاظ الإمكان وحسب) ممكن من كلّ كائن مختار، سواء أكان معصوماً أو غير معصوم فلا يستحيل منه ذلك، بل هو ممكن وإلا كان مسلوب الاختيار، فلا فرق بين المعصوم وغيره من جهة الإمكان الذاتي، نعم، الفرق بينهما من جهة الإمكان الوقوعي، فلا يمكن وقوع الكذب من المعصوم، بل ذلك مستحيل الوقوع خارجاً؛ لمكان عصمته، بينما يمكن وقوعه من غير المعصوم، وهذا الفرق يأتي بحق ذوات النوّاب الأربعة أيضاً، لولا ثبوت صفة السفارة والنيابة الخاصّة.

والخلاصة: تجويزُ الكذب بحق السفراء -بعد ثبوت منصب السفارة لهم- يرتدّ في الحقيقة إلى تجويزه بحق المعصوم؛ لقوله (عليه السلام) مثلاً: ما قالا لك، فعنّي يقولان..(الكافي،ج1ص330) دون ما يثبت خلافه.