ما العلاقةُ بينَ العقلِ والعلمِ والحكمةِ والإيمان؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يتضمّنُ السّؤالُ مجموعةً منَ العناوينِ التي تمَّ بحثُها في حقولٍ معرفيّةٍ مُتعدّدة، ومِن هُنا قَد تتباينُ الإجاباتُ بتباينِ المدارسِ والتوجّهاتِ المعرفيّةِ، فمثلاً الرّؤيةُ الإسلاميّةُ حولَ العلمِ والعقلِ تختلفُ عنِ الرّؤيةِ التي تعتبرُ العلمَ مُختصّاً بالعلومِ التطبيقيّةِ والتّجريبيّةِ، بينما العقلُ مُختصٌّ بالمعارفِ النّظريّةِ والفلسفيّةِ، وبما أنَّ السّؤالَ ربطَ بينَ العلمِ والعقلِ وبينَ الحِكمةِ والإيمانِ، فلابُدَّ أن يكونَ قصدُ السّائلِ هوَ الرّؤية الإسلاميّة لهذهِ العناوينِ.
ولكَي نقفَ على العلاقةِ بينَ هذه العناوينِ لابدّ أن نقفَ ولو بشكلٍ مُختصرٍ على الدّلالةِ المفهوميّةِ لكلِّ عنوانٍ مِن هذهِ العناوينِ بحسبِ الدّلالةِ القُرآنيّة.
أوّلاً العقل:
تدلُّ آياتُ القرآنِ على كونِ العقلِ قضيّةً بديهيّةً ومُسلّمةً واضحةً عندَ كُلِّ عاقلٍ؛ لكونِه غنيّاً عنِ التّعريفِ والشّرحِ والتوضيحِ، وهذا يُؤكّدُ بأنَّ معرفةَ العقلِ تتحقّقُ بمُجرّدِ وجدانِه وتجلّيهِ في ذاتِ الإنسانِ، وأيُّ محاولةٍ لتعريفِه هيَ جهلٌ بحقيقتِه، ومِن هُنا إعتمدَ القُرآنُ عليه بشكلٍ مُباشرٍ مِن غيرِ أن يهتمَّ ببيانِ ما هو؟ وكيفَ هو؟ بَل طلبَ منَ الإنسانِ أن يتعقّلَ، ممّا يعني أنَّ الطّريقَ إلى معرفةِ العقلِ هوَ وجدانُه في النّفسِ، ولا يمنعُ ذلكَ مِن معرفةِ العقلِ مِن خلالِ آياتِه وعلاماتِه كأن نقولَ مثلاً: العقلُ هوَ الذي يدركُ الحقائقَ، أو أنَّ العقلَ هوَ عقالٌ منَ الجهلِ وغيرِ ذلك، إلّا أنَّ كُلَّ ذلك ليسَ تعريفاً لحقيقةِ العقلِ بما هوَ هو، وإنّما تعريفٌ بالآياتِ والعلاماتِ.
كما تدلُّ آياتُ القرآنِ على أنَّ العقلَ غيرُ مسؤولٍ عنِ الخطأ والإنحرافِ الذي يقعُ فيهِ الإنسانُ، وذلكَ لكونِ القُرآنِ أمرَ بالتّعقّلِ بشكل مُطلق ممّا يُؤكّدُ على كونِ النّفسِ وما فيها مِن أهواءٍ وشهواتٍ هيَ المسؤولةُ عَن كُلِّ ذلكَ، ومِن هُنا لا بُدّ منَ التّمييزِ بينَ الفكرةِ النّابعةِ منَ العقلِ والفكرةِ النّابعةِ منَ النّفس.
والمُتدبّرُ في الآياتِ التي أمرَت بالتعقّلِ يُلاحظُ أنَّ العقلَ المقصودَ هوَ العقلُ العمليُّ، وعليه تُصبحُ وظيفةُ العقلِ هيَ ضبطُ الجانبِ السّلوكيّ للإنسانِ وليسَت وظيفةً نظريّة تأمّليّة، ففي الرّوايةِ عنِ الإمامِ الصّادقِ: (عليه السّلام) حينَ سألَهُ أحدُ أصحابِه: ما العقلُ؟ قالَ: "ما عُبدَ بهِ الرّحمنُ وإكتُسبَ بهِ الجِنان" (الكافي، ج 1 ص 11). وبذلكَ نفهمُ الحِكمةَ مِن كونِ العقلِ هوَ مدارُ التّكليفِ في الإسلام، فقَد روى الكُلينيُّ في بابِ العقلِ والجهل عَن مُحمّد بنِ مُسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قالَ: لمّا خلقَ اللهُ العقلَ إستنطقَه ثمَّ قالَ له: أقبِل فأقبَل ثمَّ قالَ لهُ: أدبِر فأدبرَ ثمَّ قالَ: وعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً هوَ أحبُّ إليَّ منكَ ولا أكملتُكَ إلّا فيمَن أحبُّ، أما إنّي إيّاكَ آمرُ، وإيّاكَ أنهى وإيّاكَ أعاقبُ، وإيّاكَ أثيب) (الكافي، ص 10). وعليهِ يصبحُ العاقلُ هوَ الإنسانُ الذي وصلَ سنَّ التّكليف، وهوَ العمرُ الذي يهبُ فيهِ اللهُ العقلَ للإنسانِ وعندَها يصبحُ مسؤولاً عَن سلوكِه وأعمالِه.
وبما أنَّ العقلَ هوَ المسؤولُ عنِ الجانبِ العمليّ والسّلوكيّ، حينَها يكونُ الإنسانُ عاقلاً عندَما يضبطُ سلوكَه بما يتوافقُ معَ قيمِ الحقِّ والفضيلةِ، ومِن هُنا كانَ العُقلاءُ في لسانِ القُرآنِ هُم الذينَ يعملونَ الصّالحاتِ، وبذلكَ تظهرُ لنا العلاقةُ بينَ العقلِ وبينَ الإيمانِ، فالمؤمنُ لا يكونُ مؤمِناً ما لَم يكُن عاقِلاً، ومِن هُنا فإنَّ العقلَ والتّعقّلَ ليسَ مُجرّدَ العلمِ والإدراكِ، فالعلمُ بالأشياءِ قَد يتحقّقُ للمؤمنِ والكافرِ أمّا إتّخاذُ الموقفِ السّليمِ لا يكونُ إلّا للعاقلِ، وعليهِ قَد يكونُ الإنسانُ عالِماً ولكنّهُ ليسَ بعاقلٍ كما هوَ حالُ الكثيرِ.
ثانياً العلمُ:
العلمُ هوَ محضُ الكشفِ والظّهورِ، وهوَ بذلكَ نقيضُ الجهلِ، فإذا كانَ الجهلُ ظلاماً فلابُدّ أن يكونَ العلمُ نوراً، وإذا كانَ الجهلُ ضلالاً فلابُدّ أن يكونَ العلمُ هُدىً، وإذا كانَ الجهلُ عمىً فلابُدّ أن يكونَ العلمُ بصيرةً، وهكذا يسيرانِ على طرفي نقيضٍ بينَهُما حالةٌ منَ التّباينِ الدّائمِ، فالعلمُ هوَ النّورُ الذي يفيضُه اللهُ على قلبِ مَن يشاءُ، فيجدهُ الإنسانُ بمقدارِ وجدانِه وبإختلافِ درجاتِ الوجدانِ، ومِن خلالِه يعرفُ الإنسانُ نفسَه كما يعرفُ ما دونَه منَ الأشياءِ ومِن غيرِ هذا النّورِ لا يمكنُه معرفة حتّى نفسِه.
ومنَ الواضحِ أنَّ العلمَ الذي هوَ نورٌ كاشفٌ للأشياءِ ليسَ مِن طبيعةِ الإنسانِ الذّاتيّةِ، لبداهةِ كونِ الإنسانِ ظلمانيّ الذاتِ وجاهلاً بالطّبعِ، وعليهِ يكونُ العلمُ هوَ عطاءً منَ اللهِ يجدُه الإنسانُ بعدَ أن كانَ فاقداً لهُ، ثمَّ يفقدُه بعدَ أن كانَ واجِداً له، فقبضُه وبسطُه بيدِ اللهِ تعالى، (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرذَلِ العُمُرِ لِكَي لَا يَعلَمَ بَعدَ عِلمٍ شَيئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)( )، فلو كانَ مِن ذاتِه وبطبعِه لما فقدَهُ عندَما بلغَ أرذلَ العُمرَ. وقالَ تعالى: (عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَم يَعلَم)( ).
وقالَ: (فَوَجَدَا عَبدًا مِّن عِبَادِنَا آتَينَاهُ رَحمَةً مِّن عِندِنَا وَعَلَّمنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلمًا)( )، وقالَ: (قالُوا سُبحَانَكَ لَا عِلمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمتَنَا إِنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ)( )، وقالَ: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَينَاهُ حُكمًا وَعِلمًا وَكَذَٰلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ)( )، وقالَ: (وَقُل رَّبِّ زِدنِي عِلمًا)( )، وغير ذلكَ منَ الآياتِ التي تُؤكّدُ على أنَّ العلمَ هوَ عطاءٌ منَ اللهِ، أمّا المعلوماتُ التي يعلمُها الإنسانُ فهيَ خاضعةٌ لأدواتِ المعرفةِ ومناهجِ البحثِ، وقَد حدثَ الخلطُ في تحديدِ طبيعةِ العلمِ بسببِ عدمِ التّفريقِ بينَ العلمِ والمعلومِ، فالعلمُ نورٌ كاشفٌ يهبُه اللهُ للإنسانِ ومِن ثُمّ الإنسانُ بواسطةِ هذا النّور يتعرّفُ على الأشياءِ ويكتسبُ المعلومات.
والدّورُ الوظيفيُّ للعلمِ في المُصطلحِ القُرآنيّ يُسمّى بالبصيرةِ، بمعنى أنَّ المُحصّلةَ النّهائيّةَ للعلمِ هي النّظرُ إلى حقائقِ الأشياءِ وغاياتِها، وليسَ مُجرّدَ الكشفِ عنها ومعرفتِها كموضوعاتٍ خارجيّة، وعلى ذلكَ تُمثّلُ البصيرةُ الموقفَ الفلسفيَّ منَ الأشياءِ، ورسالاتُ اللهِ بدورِها هيَ التي تُحدّدُ ذلكَ الموقفَ الذي يجبُ أن يكونَ عليه الإنسانُ، وبذلكَ تتّضحُ العلاقةُ بينَ العلمِ والحِكمةِ، فالحِكمةُ ليسَت شيئاً آخر غيرَ البصيرةِ أو أنَّ البصيرةَ هيَ التي تجعلُ الإنسانَ حِكيماً، وذلكَ لكونِ الحِكمةِ هيَ التّقدير المُناسب للأشياءِ ومقاربتها بما ينسجمُ معَ المبدأ والغاية، ومِن هُنا ليسَ العلمُ مُجرّدَ الكشفِ عن ظواهر الدّنيا وإنّما هوَ كشفُ الدّنيا بحسبِ موازينِ الآخرةِ، قالَ تعالى: (يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غَافِلُونَ)
ومنَ المُلاحظِ أيضاً أنَّ العلمَ جاءَ في القرآنِ مُقترِناً معَ الإيمانِ والعمل الصّالح والتّوبةِ والخشيةِ منَ اللهِ وغير ذلكَ، الأمرُ الذي يعني أنَّ مسؤوليّةَ العلمِ تقتضِي توظيفَ هذا العلمِ فيما يُقرّبُ منَ اللهِ تعالى، أو أنَّ العلمَ الذي لا يكونُ في سبيلِ اللهِ لا يورثُ صاحبَهُ إلّا التّكبّرَ والغرورَ والتّعالي على النّاس. ومِن هُنا كانَ نورُ العلمِ كمالاً للإنسانِ في الدّنيا وكمالاً لهُ في الآخرةِ قالَ تعالى: (يَومَ تَرَى المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ يَسعَىٰ نُورُهُم بَينَ أَيدِيهِم وَبِأَيمَانِهِم بُشرَاكُمُ اليومَ جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ)( )، وبالتّالي هذا النّورُ الذي يبدأُ معَ الإنسانِ في الدّنيا يستمرُّ معَهُ إلى الآخرةِ، فحتّى الجنّةُ لا تكونُ من دون هذا النّور، وعليهِ لا يمكنُ تفسيرُ العلمِ بالمعلومات، فكمالُ الإنسانِ بعلمِه وليسَ بمعلوماتِه، فقَد يكونُ الإنسانُ مالكاً لكمٍّ هائلٍ منَ المعلوماتِ ولكنَّهُ ليسَ بعالمٍ، والعكسُ صحيحٌ أيضاً فقَد يكونُ الإنسانُ عالماً وإن لَم تتوفَّر عندَهُ المعلوماتُ. ومِن ثمَّ ماذا تفيدُ هذهِ المعلوماتُ الدّنيويّةُ في الجنّة؟ وكيفَ يسألونَ اللهَ ويقولونَ (رَبَّنَا أَتمِم لَنَا نُورَنَا) إذا كانَ العلمُ مُجرّدَ معلومات؟ والذي يُؤكّدُ على أنَّ العقلَ مسؤولٌ عنِ الجانبِ السّلوكيّ هوَ أنَّ العقلَ غيرُ مطلوبٍ في الجنّةِ بينَما العلمُ مطلوبٌ فيها، ولذا لا نجدُ آيةً واحدةً وصفَت أهلَ الجنّةِ بالعقلِ بينَما وصفَتهُم بالعلمِ، كما أنَّ اللهَ تعالى يُوصَفُ بالعلمِ ولا يوصفُ بالعقلِ بإعتبارِ أنَّ العقلَ لهُ علاقةٌ بالجانبِ العمليّ والسّلوكيّ بخلافِ العلم.
ثالثاً الحِكمةُ:
قالَ تعالى: (يُؤتِي الحِكمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد أُوتِيَ خَيرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلبَابِ)، وقَد تكرّرَت هذهِ الكلمةُ في القرآنِ 20 مرّةً الأمرُ الذي يُؤكّدُ أهمّيّةَ الحِكمةِ بالنّسبةِ للإنسان، والحِكمةُ في دلالتِها اللّغويّةِ تعني إتقانَ الأمر، أو وضعَ الشّيءِ في موضعِه، أو بمعنى القولِ السّديدِ والعملِ المُستقيم، وكُلُّ ذلكَ يُمثّلُ الغايةَ التي يسعى الإنسانُ للوصولِ إليها، ومِن هُنا لا يمكنُ أن نفهمَ العلمَ أو العقلَ أو الإيمانَ بعيداً عن الحِكمةِ بوصفِها الزّبدةَ والخلاصةَ منَ العلمِ والتّعقّلِ والإيمان.
رابعاً الإيمانُ:
الإيمانُ في واقعِ الأمرِ تعبيرٌ آخرُ عنِ الإعترافِ بالحقّ؛ ولا يتحقّقُ هذا الإعترافُ إلّا بعدَ الثّقةِ بأحكامِ العقلِ وبمعارفِ العلمِ، وذلكَ لكونِها مُقدّماتٍ ضروريّةٍ للتّسليمِ بوجودِ الأشياءِ، وبالتّالي الإيمانُ بما للأشياءِ مِن حقيقةٍ وما لها مِن حقوق، ومنَ الواضحِ أنَّ الإيمانَ يشملُ الإيمانَ بالغيبِ والإيمانَ بالشّهودِ، أو حقوقِ اللهِ وحقوقِ النّاسِ، ويأتي في حقِّ اللهِ العبادةُ التي تتفرّعُ منها كُلُّ القيم العباديّة.
وبذلكَ لا يمكنُ أن نفهمَ الإيمانَ إلّا في إطارِ العلمِ لأنَّ الإيمانَ لا يكونُ إلّا بعدَ السّؤالِ عنِ الإيمانِ بماذا؟ ولا يُفهمُ الإيمانُ إلّا في إطارِ العقلِ لأنَّ الإيمانَ بالشّيءِ يستتبعُ القيامَ بما للأشياءِ مِن حقوقٍ وواجباتٍ وهذا ما يتكفّلُ العقلُ بتحقيقِه، ولا يُفهمُ الإيمانُ إلّا في إطارِ الحِكمةِ لأنَّ الإيمانَ بالحقائقِ يتطلّبُ نوعاً منَ الحِكمةِ في إيجادِ علاقاتٍ بينَ تلكَ الحقائق.
وهكذا نكتشفُ أنَّ القرآنَ يُوجِدُ نوعاً منَ التّرابطِ الوثيقِ بينَ العقلِ والعلمِ والحِكمةِ والإيمان.
اترك تعليق