هلِ الإيمانُ باللهِ سابقٌ للأديانِ أمِ الأديانُ هيَ السّابقةُ؟
يقولُ أحدُ الملحدينَ وهوَ جورج كارلين: إنَّ الدّينَ أقنعَ النّاسَ بأنَ هناكَ رجلاً خفيّاً يعيشُ في السّماءِ، ويُراقبُ كلَّ ما يفعلونهُ فِي كلِّ لحظةٍ مِن كلِّ يومٍ، وهذا الشّخصُ الخفيُّ لديهِ لائحةٌ بعشرةِ أشياءَ لا يريدكَ أن تفعلهَا وإن فعلتَ أيّاً مِن تلكَ الأشياءِ فإنَّ لديهِ مكاناً خاصّاً مليئاً بالنّارِ والدّخانِ والحريقِ والتّعذيبِ والألمِ، وسيرسلكَ إلى حيثُ تعيشُ وتعانِي وتحترقُ وتختنقُ وتصيحُ وتصرخُ إلى أبدِ الآبدينَ وإلى نهايةِ الأزمانِ، ولكنّهُ يحبّكَ طبعاً. ما هوَ الجوابُ على هذا الكلامِ؟
منَ المُدهشِ أن ينحدرَ الخِطابُ الإلحاديُّ إلى هذا المُستوى المُنحطِّ وأن يصلَ إفلاسهُ إلى درجةِ الاِستشهادِ بكلماتِ (جورج دينيس باتريك كارلين) ذلكَ الكوميديِّ الذي يعملُ على إضحاكِ النّاسِ فِي مَلاهي أمريكا، وهوَ المعروفُ بالكوميديا السّوداءِ التي تتجاوزُ المحظورَ سياسيّاً ودينيّاً وثقافيّاً وكانَ مِن أوائلِ الأشخاصِ الذينَ أدخلوا الألفاظَ النّابيةَ (للستاند أب كوميدي) الأمرُ الذي جعلهُ عرضةً للمُحاكمةِ لبذاءةِ لسانهِ، ويبدو أنّ هذا النّصّ الذي تمَّ الاِستشهادُ بهِ هوَ مِن تلكَ النّصوصِ السّاخرةِ التي قيلتْ بهدفِ إضحاكِ مجموعةٍ مِنَ السُّكارى والماجنينَ. ومِنَ المُحزنِ أن يَجعلنَا الإلحادُ العربيُّ والإسلاميُّ مضطَّرينَ لمناقشةِ مثلِ هذهِ الأقوالِ الصّادرةِ عَن أمثالِ هؤلاءِ الذينَ لا يهتمّونَ إلّا بإضحاكِ النّاسِ، الأمرُ الذي يجعلنَا نأسفُ على بعضِ الشّبابِ العربيِّ الذي بدأ يتأثّرُ بهذهِ الدّعايةِ الهابطةِ وترديدِ كلماتٍ لا علاقةَ لهَا بالفكرِ والمعرفةِ والثّقافةِ.
وبكلمةٍ مُختصرةٍ يُمكننَا أن نقولَ في الرّدِّ عليهِ: إنَّ الدّينَ ليسَ هوَ الذي يُقنِعُ أتباعَهُ بوجودِ إلهٍ، وإنّمَا اِعتقادُ الإنسانِ بوجودِ اللهِ هوَ الذي يجعلهُ متديِّناً، فإيمانُ الإنسانِ باللهِ مقدَّمٌ على وجودِ الأديانِ وليستِ الأديانُ هيَ المتقدِّمةُ على وجودِ اللهِ فِي فطرةِ الإنسانِ، وقد ذكرنَا فِي ردودٍ سابقةٍ أنَّ الإنسانَ يَمتلكُ إحساساً داخليّاً يشدّهُ دائمَاً إلى اللهِ، وما نقصدهُ بالإحساسِ الدّاخليِّ ليسَ مجرَّدَ شعورٍ نفسيٍّ وإنَّمَا إحساسٌ وجوديٌّ، يعبِّرُ عَن عُمقِ الحاجةِ الوجوديَّةِ لدى الإنسانِ؛ فوجودهُ الذي يشعرُ بهِ وفي الوقتِ نفسهِ لا يمتلكهُ، يجعلهُ في حالةٍ منَ الإحساسِ الدّائمِ بمدى الحاجةِ والاضطرارِ لذلكَ الموجدِ المالكِ لوجودهِ، فمهمَا بلغَ الإنسانُ مِن غرورٍ لا يمكنهُ الشّعورُ بأنّهُ أوجدَ نفسهُ، أو أنّهُ مُمسكٌ بزمامِ وجودهِ، فالفقرُ الذي يُلازمهُ، والحاجةُ التي ترهقهُ، تجعلانهِ مديناً فِي أصلِ وجودهِ لمَن أوجدهُ، وما يمتلكهُ الإنسانُ مِن كمالاتٍ مثلَ القدرةِ، والعلمِ، والإرادةِ، والسّمعِ، والبصرِ، وغيرهَا مِن كمالاتٍ، والتي قد تكونُ سبباً لاِعتدادهِ بذاتهِ وفخرهِ بنفسهِ، هيَ ذاتُهَا وبالتّأمُّلِ فيهَا تجعلُ الإنسانَ فِي حالةٍ منَ العشقِ الأبديِّ والاِمتنانِ السّرمديِّ لمَن أوجَدهَا فيهِ. وعليهِ فإنَّ الدّينَ يبتدئُ بإدراكِ الإنسانِ لذاتهِ وشعورهِ الدّائمِ بالمخلوقيّةِ، وبالتّالي فالإيمانُ باللهِ هوَ حالةٌ فطريّةٌ مرافقةٌ دائماً للإنسانِ لا يمكنهُ التّخلّيُّ عنهَا حتّى وإنْ كابرَ.
اترك تعليق