هناك شبهة تقول إن الإمام علي بن أبي طالب لم يدفن حيث مرقده الآن، هل يمكن ان تتفضلوا علينا بما يثبت مكان قبره؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
منَ الواضحِ أنَّ هذا الزّعمَ يرتكزُ على ما أوصى بهِ الإمامُ عليٌّ (عليه السّلام) أهلَ بيتِه بإخفاءِ قبرِه، إلّا أنَّ هذا الرّأيَ غفلَ عن أنَّ ذلكَ الموقفَ كانَ لظرفٍ مُحدّدٍ سوفَ يزولُ بزوالِه، ولا يمكنُ أن يكونَ قصدُ أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) إخفاء القبر بشكلٍ دائمٍ بحيثُ يستحيلُ على شيعتِه الإهتداءُ إليه، ومِن هُنا كانَ إخفاءُ القبرِ إستثناءً على خلافِ الأصلِ، فالطّبيعيُّ أن يكونَ قبرُه واضِحاً مشهوراً بوصفِه خليفةَ المُسلمينَ، والحاكمَ الفعليَّ للدّولةِ الإسلاميّةِ، وقد إستشهدَ في المسجدِ بينَ المُصلّينَ في مسجدِ الكوفةِ التي كانَت عاصمةَ دولتِهم، ممّا يعني أنَّ هناكَ حِكمةً ما جعلَت الإمامَ يُوصي بإخفاءِ قبرِه عَن عامّةِ المُسلمين، وكلُّ أمرٍ مُعلّقٌ بحِكمةٍ وسببٍ يزولُ بزوالِ الحِكمةِ والسّببِ، هذا مُضافاً إلى أنَّ قبورَ أولياءِ اللهِ والأئمّةِ المعصومينَ (عليهم السّلام) لها مكانةٌ خاصّةٌ في الإسلامِ، بوصفِها بيوتَ اللهِ التي أذنَ اللهُ أن تُرفعَ ويُذكرَ فيها إسمُه، وقد أشارَ القرآنُ إلى أهمّيّةِ ذلكَ مِن خلالِ قصّةِ أهلِ الكهفِ، وكيفَ حوّلَ المؤمنونَ قبورَهم إلى مسجدٍ، ممّا يؤكّدُ أنَّ قبورَ الأولياءِ تُعدُّ مناراتٍ للتّوحيدِ ومواضعَ لعبادةِ اللهِ ورضوانِه، قالَ تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمرِهِم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَّسجِدًا)، وهكذا أكّدَت النّصوصُ الإسلاميّةُ على أنَّ هناكَ بقاعاً مُقدّسةً وأراضٍ طاهرةً، شرّفَها اللهُ وجعلَها محلّاً لعبادتِه وموطناً لبركاتِه، ومنَ المعلومِ أنَّ قداسةَ المكانِ بقداسةِ المكينِ، وقبورُ الأئمّةِ وأضرحتُهم الشّامخةُ تشرّفَت بجثمانِهم الطّاهرِ فأصبحَت منَ البقاعِ المُقدّسةِ والرّياضِ الطّاهرةِ، وقد تواترَت الرّواياتُ في بيانِ فضلِ العبادةِ فيها لِما خصَّها اللهُ مِن فضلِه وجعلَها محلّاً لبركاتِه، فكيَف بعدَ ذلكَ يمكنُ أن نتصوّرَ أنَّ أميرَ المؤمنينَ وسيّدَ الوصيّينَ أرادَ حرمانَ شيعتِه مِن بركاتِ مقامِه الشّريفِ وإلى الأبدِ؟ وبخاصّةٍ أنَّ حِكمةَ إخفاءِ القبرِ واضحةٌ، حيثُ أرادَ سلامُ اللهِ عليه حفظَ قبرِه الشّريف مِن عبثِ طُغاةِ بني أميّةَ ومَن شاكلَهُم منَ الخوارجِ ومَن ناصبَ أهلَ البيتِ العداءَ، فقَد كانَ يعلمُ سلامُ اللهِ عليهِ بأنَّ أمرَ الحُكمِ سوفَ يؤولُ إليهم، وقد حدثَ بالفعلِ وقوعُ بعضِ المحاولاتِ الجادّةِ في البحثِ عَن قبرِه الشّريفِ حتّى أنَّ الحجّاجَ الثّقفيَّ حفرَ ثلاثةَ آلافِ قبرٍ في النّجفِ طلباً لجُثمانِه الطّاهر ، وقَد أشارَ الإمامُ الصّادقُ (عليه السّلام) لهذهِ الحِكمةِ لصفوانَ الجمّال عندَما سألَه عَن سببِ إخفاءِ قبرِ أميرِ المؤمنينَ، حيثُ قالَ: (حذراً مِن بني مروانَ والخوارجِ أن تحتالَ في أذاه) . وقالَ السّيّدُ إبنُ طاووسَ في ذلكَ: (فاقتضى ذلكَ أن أوصى بدفنِه عليهِ السّلام سرّاً، خوفاً مِن بني أميّةَ وأعوانِهم والخوارجِ وأمثالِهم، فربّما إذا نبشوهُ معَ علمِهم بمكانِه حملَ ذلكَ بني هاشمٍ على المُحاربةِ والمُشاقفةِ التي أغضى عنها عليه السّلام في حالِ حياتِه، فكيفَ لا يُوصي بتركِ ما فيهِ مادّةُ النّزاعِ بعدَ وفاتِه؟ وقَد كانَ في طَيِّ قبرِه فوائدُ لا تُحصى غيرُ معلومةٍ لنا بالتّفصيل) .
ولذلك ظلَّ قبرُه الشّريفُ سرّاً خاصّاً بينَ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) وخواصِّ شيعتِهم إلى زوالِ الخطرِ المُتمثّلِ في حكمِ بني أميّةَ، وبذلكَ إنتفى مُبرّرُ إخفاءِ القبرِ فعمدَ الإمامُ الصّادقُ (عليه السّلام) إلى إظهارِه لعامّةِ الشّيعةِ ودلّهُم عليهِ وأمرَهُم بزيارتِه، وقد كانَ ذلكَ عندَما قدمَ العراقَ بأمرٍ منَ الخليفةِ العبّاسيّ أبو العبّاسِ السّفّاح، حيثُ قامَ بوصفِ القبرِ بشكلٍ واضحٍ بقولِه: (إنّي لمّا كنتُ بالحيرةِ عندَ أبي العبّاسِ، كنتُ آتي قبرَ أميرِ المؤمنينَ عليه السّلام ليلاً، وهوَ بناحيةِ نجفِ الحيرةِ، إلى جانبِ غري النّعمانِ، فأصلّي عندَه صلاةَ اللّيلِ وأنصرفُ قبلَ الفجرِ) بل أظهرَ إهتماماً بالغاً بموضعِ القبرِ حيثُ بنى عليهِ دكّةً لكَي لا يخفى على أحدٍ، وتعاهدَ بحفظِه وترميمِه حيثُ أعطى (سلامُ اللهِ عليه) صفوانَ الجمّالَ مبلغاً منَ المالِ لإصلاحِ القبرِ. فقالَ صفوانُ: (قلتُ: يا سيّدي: أتأذنُ أن أخبرَ أصحابَنا مِن أهلِ الكوفةِ به؟ قالَ: نعَم، وأعطاني دراهمَ، وأصلحتُ القبر) ، يقولُ الشّيخُ المُفيد: (فلم يزَل قبرُه عليهِ السّلام مُخفىً حتّى دَلَّ عليهِ الصّادقُ جعفرٌ بنُ محمّدٍ عليهما السّلام في الدّولةِ العبّاسيّة) .
وبذلكَ يكونُ الإمامُ الصّادقُ (عليه السّلام) هوَ الذي أخبرَ عَن مكانِ قبرِه في سنةِ 132هـ، ومنذ ذلكَ الوقت أصبحَ مكاناً معروفاً يقصدُه بعضُ الشّيعةِ للزّيارةِ، وعليهِ لا يمكنُ تقديمُ رواياتِ بعضِ المُؤرّخينَ التي نسبَت فضلَ إكتشافِ القبرِ لهارونَ العبّاسي سنةَ 170هـ وذلكَ لوجودِ رواياتٍ تدلُّ على أنَّ الإمامَ الصّادقَ كشفَ عَن موقعِ القبرِ الشّريفِ بأكثرِ مِن 38 سنةٍ مِن حادثةِ هارون الرّشيد، وحتّى لو قبِلنا روايةَ هارون الرّشيدِ فإنّها لا تُعارضُ كونَ القبرِ معروفاً عندَ البعضِ بدليلِ أنَّ هارونَ لم يعرِف أنّهُ قبرُ أميرِ المؤمنينَ إلّا بعدَما سألَ مَن كانَ موجوداً في ذلكَ المكانِ، والرّوايةُ كما يرويها المُفيدُ في الإرشادِ جاءَ فيها (روى محمّدٌ بنُ زكريّا، قالَ: حدّثنا عبدُ اللهِ بنُ محمّدٍ عَن إبن عائشةَ، قالَ: حدّثني عبدُ اللهِ بنُ حازمٍ، قالَ: خرجنا يوماً معَ الرّشيدِ منَ الكوفةِ نتصيّدُ، فصِرنا إلى ناحيةِ الغريّينِ والثويّةِ فرأينا ظباءً، فأرسلنا عليها الصّقورَ والكلابَ فجاولَتها ساعةً، ثمَّ لجأتِ الظّباءُ إلى أكمةٍ فوقفَت عليها فسقطَت الصّقورُ ناحيةً ورجعَت الكلابُ، فتعجّبَ الرّشيدُ مِن ذلكَ، ثمَّ إنَّ الظّباءَ هبطَت منَ الأكمةِ فهبطَت الصّقورُ والكلابُ فرجعَت الظّباءُ إلى الأكمةِ فتراجعَت عنها الصّقورُ والكلابُ، ففعلَت ذلكَ ثلاثاً. فقالَ الرّشيدُ هارونُ: أركضوا فمَن لقيتموهُ فأتوني بهِ، فأتيناهُ بشيخٍ مِن بني أسدٍ، فقالَ لهُ هارون: أخبرني ما هذهِ الأكمةُ؟ قالَ: إن جعلتَ لي الأمانَ أخبرتُك. قالَ: لكَ عهدُ اللهِ وميثاقه ألاّ أهيجكَ ولا أوذيكَ. فقالَ: حدّثني أبي عَن آبائهِ أنّهم كانوا يقولونَ إنَّ في هذهِ الأكمةِ قبرَ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ عليه السّلام، جعلَهُ اللهُ حرماً لا يأوي إليهِ شيءٌ إلاّ أمنَ) . وهذهِ الرّوايةُ إن دلَّت إنّما تدلُّ على أنَّ الحُكّامَ هُم الذينَ يجهلونَ موضعَ القبرِ أمّا عامّةُ المؤمنينَ فكانَ معلوماً عندَهم.
صحيحٌ أنَّ هناكَ بعض الرّواياتِ التّاريخيّةِ التي تؤكّدُ إهتمامُ هارونَ بالقبرِ مثلَ ما نقلَهُ الدّميري بقولِه: (فأمرَ الرّشيدُ أن يُحجّرَ الموضعُ فكانَ أوّلَ أساسٍ وضعَ فيهِ ثمَّ تزايدَت الأبنيةُ فيهِ في أيّامِ السّامانيّةِ وبني حمدان، وتفاقمَ في أيّامِ الدّيلمِ، أي أيّامِ بني بويه).
ويعجبُ الإنسانُ مِن بعضِ الذينَ يبحثونَ عن قبرِ أميرِ المؤمنينَ في كتاباتِ مَن أرّخَ لبني أميّةَ وعملَ على سترِ عيوبِهم والدّفاعِ عنهم، فمتى كانَ إبنُ تيميّةَ أو إبنُ كثيرٍ وغيرُهم مؤتمنينَ على أهلِ البيتِ حتّى يكونوا شهوداً على مكاِن قبورِهم، وهُم الذينَ لا يُعيرونَ إهتماماً حتّى بقبرِ النّبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) حيثُ زعموا حُرمةَ السّفرِ بقصدِ زيارتِه، فلو كانَ قبرُ أميرُ المؤمنينَ معلوماً مشهوراً لما إهتمّوا به وما قصدوا زيارتَه، فالإنصافُ يقتضي البحثَ عَن موضعِ قبرِه عندَ شيعتِه الذينَ تحمّلوا ما تحمّلوا في سبيلِ مودّتِه وولائِهم له، وقد أجمعَ الشّيعةُ - وللهِ الحمدُ والمِنّةُ - مِن غيرِ نزاعٍ أو خلافٍ بأنَّ النّجفَ الأشرفَ وموقعَ الضّريحِ اليومَ هوَ قبرُ إمامِهم الذي والوه وإنقطعوا إليه، وقد تواترَ عندَهُم موضعُ قبرِه الشّريفِ منذُ عهدِ الأئمّةِ المعصومينَ وإلى اليوم، ولو كانَ الأمرُ كما يزعمُ البعضُ أنَّ أميرَ المؤمنينَ دُفنَ في قصرِ الإمارةِ أو أنَّ الذي في النّجفِ هو المغيرةُ بنُ شعبةَ لكانَ الأئمّةُ المعصومونَ سارعوا إلى بيانِ ذلكَ وما ضلّلوا الشّيعةَ بزيارةِ عدوِّ اللهِ وعدوِّ أميرِ المؤمنين.
وقد وافقَ بعضُ علماءِ السّنّةِ الشّيعةَ بموضعِ قبرِ أميرِ المؤمنينَ، فقَد روى أبو بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ محمّدٍ المعروفِ بابنِ أبي الدّنيا قالَ: حدّثني أبي رحمَهُ اللهُ عَن هشامٍ بنِ محمٍّد، قالَ: قالَ لي أبو بكرٍ بنُ عيّاش: سألتُ أبا حصينٍ وعاصماً بنَ بهدلةَ والأعمشَ وغيرَهم فقلتُ: هَل أخبرَكُم أحدٌ أنّهُ صلّى على عليّ أو مشهدِ دفنِه؟ قالوا: لا، فسألتُ أبا محمّدٍ بنَ السّائبِ، فقالَ: أُخرِجَ بهِ ليلاً خرجَ بهِ الحسنُ والحسينُ وإبنُ الحنفيّةِ وعبدُ اللهِ بنُ جعفرٍ وعدّةٌ مِن أهلِ بيتِه فدُفنَ في ظهرِ الكوفةِ. قالَ (أبو بكرٍ ابن عيّاش): فقلتُ لأبيكَ: لم فعلَ بهِ ذلكَ؟ قالَ: مخافةَ أن تنبشَهُ الخوارجُ أو غيرُهم) . وقالَ بنُ عساكر: والمُرادُ بظهرِ الكوفةِ أو ناحيةِ الغري كما في مُعجمِ البلدانِ لياقوتٍ الحمويّ أو كتابِ العينِ للمُفضّلِ هوَ أرضُ النّجفِ، مدفنُه (عليه السّلام) في الوقتِ الحاضرِ) . وذكرَ إبنُ الجوزيّ في تذكرةِ الخواصِّ ص 234 الأقوالَ الواردةَ في مدفنِه (عليه السّلام) واستظهرَ منها أنّه مدفونٌ في النّجف.
فكيفَ بعدَ ذلكَ يقالُ إنَّ الذي في النّجفِ هوَ قبرُ المُغيرةِ بنُ شعبةَ، وقد روى مؤرّخو السّنّةِ بأنَّ قبرَ المغيرةِ بنِ شعبةَ في الثّويةِ، وهيَ موضعٌ بالكوفةِ فيهِ مقابرُ ثقيفٍ الذي ينتمي إليهم المُغيرةُ، حيثُ قالَ إبنُ الأثيرِ (في النّهايةِ في غريبِ الحديثِ) عندَ ذكرِ الثّويةِ: وهيَ بضمِّ الثّاءِ وفتحِ الواوِ وتشديدِ الياءِ، ويقالُ بفتحِ الثّاءِ وكسرِ الواو، موضعٌ بالكوفةِ بهِ قبرُ أبي موسى الأشعريّ، والمُغيرةُ بنُ شعبة) . وهذا ما أكّدَهُ ياقوتُ الحمويّ في معجمِ البلدانِ عَن إبنِ حبّانَ قولَه: دُفنَ المغيرةُ بنُ شعبةَ بالكوفةِ بموضعٍ يُقالُ لهُ الثّويةُ، وهناكَ دُفنَ أبو موسى الأشعري في سنةِ خمسين.
وفي المُحصّلةِ لا يُشكّكُ في موضعِ قبرِ أميرِ المؤمنينَ إلّا ناصبيٌّ يريدُ الكيدَ بشيعةِ أميرِ المؤمنينَ، أو صاحبُ أغراضٍ تُحرّكُه بعضُ الدّوائرِ الإستخباراتيّة التي تهدفُ لإضعافِ الشّيعةِ وتشتيتِ شملِهم، فإنَّ النّجفَ التي تشرّفَت بأميرِ المؤمنينَ أصبحَت مهوى قلوبِ العاشقينَ لأهلِ البيت (عليهم السّلام) فيها تستريحُ نفوسُهم وتُقضى حوائجُهم وتُتقبّلُ أعمالهم وتُغفرُ ذنوبُهم وفوقَ كلِّ ذلكَ أصبحَت قبلةً للعلمِ والعلماءِ، فكانَت بذلكَ مِصداقاً لقولِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها.
اترك تعليق