اين الوجود الحقيقي للذات الإلهية وقربها من الانسان ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
حتّى نفهمَ هذا الأمرَ لا بُدَّ مِن تمهيدِ بعضِ المُقدّمات :
أوّلاً : إنّ المكانَ والزّمانَ كلاهما مخلوقانِ للهِ تعالى ، لم يكونا ثمَّ أوجدَهما اللهُ تعالى ، فهُما مِن مخلوقاتِ اللهِ تعالى .
ثانياً : إنّ اللهَ لا يحلُّ في خلقِه ولا يتحدُ معَ خلقِه ، وإلّا يلزمُ التّغيّرُ والتّبدّلُ وحلولُ الحوادثِ في ذاتِه ، وإنقلابُ المخلوقِ إلى خالقٍ أو الخالقِ إلى مخلوقٍ ، واللهُ مُنزّهٌ عَن جميعِ ذلك .
ثالثاً : إنّ اللهَ تعالى شيءٌ لا كالأشياءِ ، لا شبيهَ لهُ ولا مثيلَ ولا نظيرَ ولا ندَّ ولا ضدَّ ولا ... وليسَ بجسمٍ ولا صورةٍ ولا عرضٍ ، ولا يُحسُّ بالحواسِّ الخمس .
رابعاً : إنّ اللهَ تعالى عالمٌ بكلِّ شيءٍ ، ومحيطٌ بكلِّ شيءٍ ، فلا يغيبُ عَن علمِه مثقالُ ذرّةٍ في السّماواتِ والأرض .
وعليهِ : فالسّؤالُ : أينَ الله ؟! سؤالٌ عَن مكانه تعالى ، واللهُ يجلُّ عنِ المكانِ ، فلا يصحُّ وصفُ اللهِ بالمكانِ ، إذ جميعُ الأماكنِ مخلوقة للهِ تعالى ، فلو كانَ في مكانٍ دونَ مكانٍ لخلا منهُ بعضُ الأماكنِ ، فلو كانَ في السّماءِ دونَ الأرضِ لخلت منهُ الأرض .
ولو كانَ في مكانٍ لكانَ محدوداً بذلكَ المكانِ ، ولحواهُ المكانُ ، ولأمكنَت الإشارةُ الحِسّيّةُ إليه ، واللهُ يجلّ عَن جميعِ ذلك .
ولو كانَ في مكانٍ لحلّ وإتّحدَ في ذلكَ المكانِ ، واللهُ مُنزّهٌ عنِ الحلولِ والإتّحاد.
رُوِيَ أَنَّ أمير المؤمنين (ع) سُئِلَ : أَينَ كَانَ رَبُّنَا قَبلَ أَن يَخلُقَ سَمَاءً وأَرضاً ؟ فَقَالَ (ع) : أَينَ سُؤَالٌ عَن مَكَانٍ وكَانَ اللَّه ولَا مَكَانَ . (الكافي للكليني : 1 / 90) .
قالَ المازندرانيّ : ( فقالَ (ع) : أينَ سؤالٌ عَن مكانٍ ) أي عَن حصولِ شيءٍ في المكانِ لا عن حقيقتِه ، تقولُ : أينَ زيدٌ تسألُ عَن حصولِه في المكانِ المُعيّنِ ( وكانَ اللهُ ولا مكان ) إذ المكانُ أمرٌ حادثٌ مخلوقٌ فلا يصحُّ أن يُسألَ عنهُ بأين . (شرحُ الكافي : 3 / 131)
وسألَ الجاثليقُ أميرَ المؤمنينَ (ع) : أخبِرني عنِ الرّبِّ أينَ هوَ وأينَ كانَ ؟ فقالَ عليٌّ عليهِ السّلام : لا يُوصفُ الرّبُّ جلَّ جلالُه بمكانٍ ، هوَ كما كانَ ، وكانَ كما هوَ ، لم يكُن في مكانٍ ، ولم يزَل مِن مكانٍ إلى مكانٍ ، ولا أحاطَ بهِ مكانٌ ، بَل كانَ لم يزَل بلا حدٍّ ولا كيفٍ . (التّوحيدُ للصّدوقِ ص316) .
وعنِ الإمامِ الرّضا (ع) أنّهُ قالَ : إنّ اللهَ تباركَ وتعالى لا يُوصفُ بمكانٍ ولا يُدركُ بالأبصارِ والأوهام . (عيونُ أخبارِ الرّضا للشّيخِ الصّدوق : ١ / ١٠٦)
وعنِ الإمامِ الصّادقِ (ع) أنّهُ قالَ : لا خلقُه فيه ، ولا هوَ في خلقِه . (الكافي للكُلينيّ : 1 / 91)
ولكنّه تعالى حاضرٌ في كلِّ مكانٍ ، وشاهدٌ على كلِّ شيءٍ ، وعالمٌ ومحيطٌ بكلِّ شيءٍ ، ومسيطرٌ على ما دقّ وجلّ ، فهوَ الدّاخلُ في الأشياءِ لا كدخولِ شيءٍ في شيءٍ ، داخلٌ لا بالمُمازجةِ ، ولا بالحلولِ والإتحاد .
وخارجٌ عنها لا كخروجِ شيءٍ مِن شيءٍ ، خارجٌ لا بالمُزايلةِ والمفارقةِ والبُعدِ والإنفصال.
فاللهُ في كلِّ مكانٍ بمعنى أنّهُ عالمٌ بكلِّ شيءٍ ، ومحيطٌ بكلِّ شيءٍ ، حاضرٌ بعلمِه في كلِّ مكانٍ ، شاهدٌ على جميعِ مخلوقاتِه ، ومُسيطرٌ على كلِّ شيءٍ ، وقاهرٌ لكلِّ شيء ، وهكذا ..
روى الكُلينيّ بسندِه عَن إبنِ أذينةَ ، عَن أبي عبدِ اللهِ عليه السّلام في قولِه تعالى : { ما يكونُ من نجوى ثلاثةٌ إلّا هو رابعُهم ولا خمسةٌ إلّا هو سادسُهم } فقالَ ، هوَ واحدٌ واحديُّ الذّاتِ ، بائنٌ مِن خلقِه ، وبذاكَ وصفَ نفسَه ، { وهوَ بكُلِّ شيءٍ مُحيط } بالإشرافِ والإحاطةِ والقُدرةِ { لا يعزبُ عنهُ مثقالُ ذرّةٍ في السّماواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرَ مِن ذلكَ ولا أكبر } بالإحاطةِ والعلمِ لا بالذّاتِ ، لأنَّ الأماكنَ محدودةٌ تحويها حدودٌ أربعةٌ ، فإذا كانَ بالذّاتِ لزمَها الحوايةُ . (الكافي للكُليني : 1 / 127) .
قالَ المجلسيُّ مُعلِّقاً : والمعنى أنّه ليسَت إحاطتُه سبحانَه بالذّاتِ ، لأنَّ الأماكنَ محدودةٌ ، فإذا كانَت إحاطتُه بالذّاتِ بأن كانَت بالدّخولِ في الأمكنةِ لزمَ كونُه مُحاطاً بالمكانِ كالمُتمكّن ، وإن كانَت بالإنطباقِ على المكانِ لزمَ كونُه مُحيطاً بالمُتمكّنِ كالمكان . (مرآةُ العقولِ : 2 / 68) .
وقالَ النّائينيُّ : فإحاطتُه سبحانَه بكلِّ طائفةٍ ليسَت إحاطةً بجهةِ الذّاتِ ، بل إحاطةٌ بالإشرافِ والإطّلاعِ ، فعلمُه محيطٌ بالكلِّ ، وكلُّ شئٍ معلومٌ له ، وقدرتُه محيطةٌ بالكلِّ ، وكلٌّ مقدورٌ له ، لا يعزبُ عنهُ مقدارُ ذرّةٍ في السّماواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرَ مِن ذلكَ ولا أكبر للإحاطةِ بالعلمِ ، وليسَت إحاطتُه سبحانَه بكلِّ شيءٍ بالذّاتِ ؛ لأنّ الأماكنَ محدودةٌ ، فإذا كانَت إحاطتُه بالذّاتِ ، فإن كانَت بالدّخولِ في الأمكنةِ ، لزمَ كونُه مُحاطاً بالمكانِ كالمُتمكّنِ ، وإن كانَت بالإنطباقِ على المكانِ لزمَ كونُه محيطاً بالمتمكّنِ كالمكانِ . (حاشيةُ أصولِ الكافي لمُحمّد بن حيدر النّائيني ص422) .
وروى الكُلينيُّ بسندِه عَن أميرِ المؤمنينَ (ع) : لَم يَحلُل فِيهَا – يعني الأشياء - فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ ولَم يَنأَ عَنهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنهَا بَائِنٌ ولَم يَخلُ مِنهَا فَيُقَالَ لَه أَينَ لَكِنَّه سُبحَانَه أَحَاطَ بِهَا عِلمُه وأَتقَنَهَا صُنعُه وأَحصَاهَا حِفظُه لَم يَعزُب عَنه خَفِيَّاتُ غُيُوبِ الهَوَاءِ ولَا غَوَامِضُ مَكنُونِ ظُلَمِ الدُّجَى ولَا مَا فِي السَّمَاوَاتِ العُلَى إِلَى الأَرَضِينَ السُّفلَى لِكُلِّ شَيءٍ مِنهَا حَافِظٌ ورَقِيبٌ وكُلُّ شَيءٍ مِنهَا بِشَيءٍ مُحِيطٌ والمُحِيطُ بِمَا أَحَاطَ مِنهَا . (الكافي للكُلينيّ : 1 / 135 بابُ جوامعِ التّوحيد) .
وروى الصّدوقُ عن أميرِ المؤمنين (ع) : ... ولم يقرُب منها بالإلتزاقِ ، ولم يبعُد عنها بالإفتراقِ ، بل هوَ في الأشياءِ بلا كيفيّةٍ ، وهو أقربُ إلينا مِن حبلِ الوريدِ ، وأبعدُ منَ الشّبهِ مِن كلِّ بعيد . (التّوحيدُ للصّدوق ص79)
وروى الصّدوقُ بسندِه أنّهُ سُئِلَ الصّادقُ (ع) عَن قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ : ( وهوَ اللهُ في السّماواتِ وفي الأرض ) ؟
قالَ (ع) : كذلكَ هوَ في كلِّ مكان .
قلتُ : بذاتِه ؟
قالَ : ويحَك إنَّ الأماكنَ أقدارٌ ، فإذا قلتَ : في مكانٍ بذاتِه لزمكَ أن تقولَ في أقدارٍ وغيرِ ذلكَ، ولكِن هوَ بائنٌ مِن خلقِه ، محيطٌ بما خلقَ علماً وقُدرةً وإحاطةً وسلطاناً وملكاً ، وليسَ علمُه بما في الأرضِ بأقلّ ممّا في السّماءِ ، لا يبعدُ منهُ شيءٌ والأشياءُ لهُ سواءٌ علماً وقدرةً وسلطاناً وملكاً وإحاطةً . (التّوحيدُ للصّدوقِ ص133) .
ونقلَ الشّيخُ المُفيدُ أنّه جاءَ حبرٌ يهوديٌّ وسألَ أبا بكرٍ عنِ اللهِ أينَ هوَ في السّماءِ أم في الأرض ؟
فقالَ له أبو بكرٍ : في السّماءِ على العرشِ ، فقالَ اليهوديُّ : فأرى الأرضَ خاليةً منه ، وأراهُ على هذا القولِ في مكان دونَ مكانٍ . فقالَ أبو بكرٍ : هذا كلامُ الزّنادقةِ ، أغرُب عنّي وإلّا قتلتُك فولّى الحبرُ مُتعجّباً يستهزئُ بالإسلامِ ، فاستقبلَه أميرُ المؤمنينَ عليه السّلام فقالَ له : يا يهوديُّ ، قد عرفتَ ما سألتَ عنه ، وما أُجبتَ به ، وإنّا نقولُ : إنَّ اللهَ جلَّ وعزَّ أيّنَ الأينَ فلا أينَ له ، وجلَّ عَن أن يحويهِ مكانٌ ، وهوَ في كلِّ مكانٍ بغيرِ مُماسّةٍ ولا مُجاورةٍ ، يحيطُ علماً بما فيها ولا يخلو شيءٌ منها مِن تدبيرِه ، وإنّي مُخبرُكَ بما جاءَ في كتابٍ مِن كُتبِكم يُصدّقُ ما ذكرتَهُ لكَ ، فإن عرفتَه أتؤمنُ به ؟
قالَ اليهوديّ : نعَم ، قالَ : ألستُم تجدونَ في بعضِ كتبِكم أنَّ موسى بنَ عمران عليهِ السّلام كانَ ذاتَ يومٍ جالساً إذ جاءَهُ ملكٌ منَ المشرقِ ، فقالَ لهُ موسى : مِن أينَ أقبلتَ ؟ قالَ : مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، ثمَّ جاءَه ملكٌ منَ المغربِ فقالَ له : مِن أينَ جئتَ ؟ قالَ: مِن عندِ الله ، وجاءَهُ ملكٌ آخر ، فقالَ : قد جئتُكَ منَ السّماءِ السّابعةِ مِن عندِ اللهِ تعالى ، وجاءَهُ ملكٌ آخرُ فقالَ : قد جِئتُكَ منَ الأرضِ السّابعةِ السّفلى مِن عندِ اللهِ عزَّ إسمُه ، فقالَ موسى عليهِ السّلام : سُبحانَ مَن لا يخلو منهُ مكانٌ ، ولا يكونُ إلى مكانٍ أقربَ مِن مكان .
فقالَ اليهوديُّ : أشهدُ أنَّ هذا هوَ الحقَّ ، وأنّكَ أحقُّ بمقامِ نبيّكَ ممَّن إستولى عليه . (الإرشادُ للمُفيدِ : 1 / 201) .
حكمةُ العروجِ بالنّبيّ (ص) إلى السّماء :
روى الصّدوقُ بسندِه عَن يونسَ بنِ عبدِ الرّحمن ، قالَ : قلتُ لأبي الحسنِ موسى بنِ جعفرٍ عليهما السّلام: لأيِّ علّةٍ عرجَ اللهُ بنبيّه صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم إلى السّماءِ ، ومنها إلى سِدرةِ المُنتهى ، ومنها إلى حُجبِ النّورِ ، وخاطبَه و ناجاهُ هناكَ واللهُ لا يُوصفُ بمكانٍ ؟ فقالَ عليه السّلام : إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لا يُوصفُ بمكانٍ ولا يجري عليه زمانٌ ، ولكنّهُ عزَّ وجلَّ أرادَ أن يُشرّفَ بهِ ملائكتَه وسُكّانَ سماواتِه ، ويُكرمَهم بمشاهدتِه ، ويريهِ مِن عجائبِ عظمتِه ما يخبرُ بهِ بعدَ هبوطِه ، وليسَ ذلكَ على ما يقولُ المُشبّهونَ ، سبحانَ اللهِ وتعالى عمّا يُشركونَ . (التّوحيدُ للصّدوقِ ص175) .
حكمةُ رفعِ اليدينِ إلى السّماءِ عندَ الدّعاء :
روى الصّدوقُ بسندِه عَن أبي بصيرٍ عَن أبي عبدِ اللهِ (ع) قالَ حدّثني أبي ، عن أبيهِ عَن آبائِه عليهم السّلام قالَ أميرُ المؤمنينَ (ع) إذا فرغَ أحدُكم منَ الصّلاةِ فليرفَع يديهِ إلى السّماءِ ولينصَب في الدّعاءِ ، فقالَ إبنُ سبأ : يا أميرَ المؤمنينَ أليسَ اللهُ في كلِّ مكانٍ ؟ قالَ : بلى قالَ فلمَ يرفعُ يديهِ إلى السّماء ؟
فقالَ (ع) : أوما تقرأ : { وفي السّماءِ رزقُكم وما توعدونَ } فمِن أينَ يُطلَبُ الرّزق إلّا مِن موضعِ الرّزقِ ، وموضعُ الرّزقِ وما وعدَ اللهُ السّماءُ . (عللُ الشّرائعِ : 2 / 344) .
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
اترك تعليق