منازل أمير المؤمنين (ع) من رسول الله (ص) في حديث المنزلة
السؤال: يقول مخالفونا: إنّ حديث المنزلة لا يدلّ على عموم المنزلة، وحينئذ تتمّ المشابهة بين علي وهارون بوجه شبه واحد فقط وهو استخلافه على المدينة، و يكفي ذلك في صحّة الحديث، أمّا أنْ يكون عليٌّ نازلاً من رسول الله منزلة هارون من موسى بجميع منازل هارون فلا نوافق على هذا .فما ردكم على قولهم هذا؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ ما قاله مخالفونا - من دلالة حديث المنزلة على استخلاف النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) على المدينة فقط - مـمّا لا يصحّ، بل الحديث يفيد ثبوت جميع منازل هارون (عليه السلام) لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)؛ وذلك لوجهين:
أحدهما: أنّ كلمة (منزلة) اسم جنس مضاف إلى علم – وهو (هارون) -، واسم الجنس المضاف يفيد العموم، أي عموم المنازل التي كانت لهارون (عليه السلام) هي لعليّ (عليه السلام).
قال الجلال المحليّ: (والمفرد المضاف إلى معرفة للعموم على الصحيح.. ومعيار العموم الاستثناء، فكلّ ما صحّ الاستثناء منه ممّا لا حصر فيه فهو عامّ) [شرح جمع الجوامع ص107].
وقال أبو البقاء: (والمفرد المضاف إلى المعرفة للعموم، صرّحوا به في الاستدلال على أنّ الأمر للوجوب في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: كلّ أمر الله) [الكليات ص829].
والآخر: أنّ استثناء النبوّة بـ(إلّا) يدلّ على أنّ غير النبوّة من المنازل الثابتة لهارون (عليه السلام) هي ثابتة لأمير المؤمنين (عليهما السلام).
قال الإسنويّ: (اقتصر المصنف: أنّه عامّ بدليل جواز الاستثناء، فإنّه يصحّ أن يُقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلّا الأمر الفلاني، وسيأتي أنّ معيار العموم جواز الاستثناء) [نهاية السول شرح منهاج الوصول ص167].
ويترتّب على هذا الكلام: اقتضاء هذا العموم ثبوت كلّ منازل هارون من موسى لأمير المؤمنين (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ لدلالة المفرد المضاف على العموم، ولوجود الاستثناء؛ إذ لو لَـم يكن الكلام يقتضي العموم لَـمَا كان للاستثناء معنىً، فاستثناء النبوّة يدلّ على عدم استثناء غيره من منازل هارون (عليه السلام).
وحينئذٍ، ينبغي الكلام في منازل هارون (عليه السلام) من موسى (عليه السلام)، فنقول:
ذكر القرآن الكريم جملة من المنازل لهارون (عليه السلام)، وذلك في قول الله تعالى على لسان نبيّه موسى (عليه السلام): {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}، فأجاب الله تعالى دعاءه في قوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [سورة طه: 29-36]، وكذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [سورة الأعراف: 142]، فهذه المنازل هي:
1ـ المنزلة الأولى: الوزارة:
نصّ القرآن الكريم على هذه المنزلة لهارون (عليه السلام)، وذلك في قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي} [سورة طه: 29]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [سورة الفرقان: 35].
فكما أنّ هارون (عليه السلام) كان وزيراً لموسى (عليه السلام)، كذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) هو وزير لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بمقتضى عموم حديث المنزلة.
بل ورد التنصيص على هذه المنزلة في بعض ألفاظ حديث المنزلة، وذلك كما ورد في بعض الطرق أنّه قال (صلى الله عليه وآله): «فأنت عندي بمنزلة هارون من موسى، غير أنّه لا نبيّ بعدي، وأنت أخي ووزيري ووارثي» [كشف الأستار عن زوائد البزار ج3 ص217].
كما أنّ هناك أحاديث خاصّة تدلّ على ثبوت هذه المنزلة، كقوله (صلى الله عليه وآله): «أنت أخي وصاحبي ووريثي ووزيري» [خصائص عليّ ص84].
2ـ المنزلة الثانية: الأخوّة الروحيّة:
نصّ القرآن الكريم على هذه المنزلة لهارون (عليه السلام)، وذلك في قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [سورة طه: 29-30]، وقوله تعالى: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [سورة طه: 42].
فكما أنّ هارون (عليه السلام) كان أخاً لموسى (عليه السلام) في النسب والروح، كذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أخ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في الروح – دون النسب؛ إذ الأخوّة النسبيّة منفيّة بالعقل؛ لأنّه ابن عمّه وليس أخاه لأمّه وأبيه -، وذلك بمقتضى عموم حديث المنزلة.
بل ورد التنصيص على هذه المنزلة في بعض ألفاظ حديث المنزلة، وذلك كما ورد في بعض الطرق أنّه قال (صلى الله عليه وآله): «فأنت عندي بمنزلة هارون من موسى، غير أنّه لا نبيّ بعدي، وأنت أخي ووزيري ووارثي» [كشف الأستار عن زوائد البزار ج3 ص217].
وقد دلّت أخبار عديدة على ثبوت منزلة الأخوّة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، نذكر منها:
قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) – في قصّة المؤاخاة -: «يا عليّ، أنت أخي في الدنيا والآخرة» [سنن الترمذيّ ج12 ص183]. وقد قال ابن عبد البرّ: (آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين المهاجرين بمكّة، ثمّ آخى بين المهاجرين والأنصار بالمدينة، وقال في كلّ واحدة منهما لعليّ: «أنت أخي في الدنيا والآخرة، وآخى بينه وبين نفسه») [الاستيعاب في معرفة الأصحاب ج3 ص1098].
وقول النبيّ (صلى الله عليه وآله) – في يوم الإنذار والدار -: «أنت أخي وصاحبي ووريثي ووزيري» [خصائص عليّ ص84].
وما رُوي عن ابن عبّاس أنّه قال: كان عليّ يقول في حياة رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): «إنّ الله يقول: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}، والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إنّي لأخوه ووليّه، وابن عمّه ووارث علمه، فمَن أحقّ به منّي» [المعجم الكبير ج1 ص107].
3ـ المنزلة الثالثة: المؤازرة والمعاضدة:
نصّ القرآن الكريم على هذه المنزلة لهارون (عليه السلام)، وذلك في قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [سورة طه: 29-31]، وقوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [سورة طه: 34-35].
وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) هو عضيد النبيّ (صلى الله عليه وآله) في جهاده معه مما لا يختلف فيه اثنان.
4ـ المنزلة الرابعة: الشراكة في الأمر:
نصّ القرآن الكريم على هذه المنزلة لهارون (عليه السلام)، وذلك في قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [سورة طه: 29-32]، فكان هارون (عليه السلام) شريك موسى (عليه السلام) في تبليغ الرسالة وإدارة الأمور.
وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنّه شريك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في تبليغ الدين وإدارة أمور المسلمين، كما كان حال هارون (عليه السلام)، غير أنّ أمير المؤمنين ليس نبيّاً.
ويشير إلى هذا المقام قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): «يا أنس، أنا وهذا حجّة الله على خلقه» [تاريخ دمشق ج42 ص308].
5ـ المنزلة الخامسة: الخلافة:
نصّ القرآن الكريم على هذه المنزلة لهارون (عليه السلام)، وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [سورة الأعراف: 142]، فكان هارون (عليه السلام) خليفة موسى (عليه السلام) على قومه في فترة غيابه.
فكما كان هارون خليفة موسى على قومه كان عليّ (عليه السلام) كذلك خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الأمّة من بعده، وذلك بمقتضى حديث المنزلة.
بل ورد التنصيص على هذه المنزلة في بعض ألفاظ حديث المنزلة، وذلك كما ورد في بعض الطرق أنّه قال (صلى الله عليه وآله): «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّك لستَ نبيّاً، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي في كلّ مؤمن من بعدي» [السنة لابن أبي عاصم ص551].
وفي لفظٍ آخر: « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّك لستَ بنبيّ، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي» [مسند أحمد (زوائد القطيعيّ) ج3 ص333، خصائص أمير المؤمنين ص64، المعجم الكبير ج12 ص78، المستدرك على الصحيحين ج3 ص133، ، وغيرها].
قال الحاكم النيسابوريّ: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياق)، وقال الهيثميّ: (رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير أبى بلج الفزاريّ، وهو ثقة وفيه لين)، وقال أحمد شاكر: (إسناده صحيح).
ويتبيّن مـمّا سبق: دقّة الشيخ المفيد في كلامه حول دلالة حديث المنزلة على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: (ومنها أيضاً: قوله (صلّى الله عليه وآله) - بلا اختلاف بين الأمّة -: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»، فحكم له بالفضل على الجماعة، والنصرة، والوزارة، والخلافة في حياته وبعد وفاته، والإمامة له؛ بدلالة أنّ هذه المنازل كلّها كانت لهارون من موسى (عليهما السلام) في حياته، وإيجاب جميعها لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلّا ما أخرجه الاستثناء منها ظاهراُ، وأوجبه بلفظ يعدله من بعد وفاته، وبتقدير ما كان يجب لهارون من موسى لو بقي بعد أخيه، فلم يستثنِه النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فبقي لأمير المؤمنين (عليه السلام) عموم ما حكم له من المنازل، وهذا نصٌّ على إمامته، لا خفاء به على من تأمّله، وعرف وجوه القول فيه، وتبيّنه) [الإفصاح ص43].
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً.
اترك تعليق