هل في حديث الدار دليل على كفر أبي طالب؟

السؤال: هل حقَّاً إذا صدَّقنا وآمنَّا بحادثة الدَّار يوم الإنذار فيكون في ذلك دلالة على كفر أبي طالب (ع)، باعتبار أنَّ خطاب النبيّ (ص) موجَّهٌ للمشركين وهو من ضمنهم؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

من المعلوم أنَّ حديث الدَّار من الأحاديث المعروفة والمشهورة في الكتب الإسلاميّة، إذ قد ورد ذكره عند العامَّة والخاصَّة.

من ذلك: ما رواه الطبريّ في تأريخه بسنده عن عليّ بن أبي طالب، قال: «لما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص): {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء:214]، دعاني رسول الله (ص) فقال لي: يا عليُّ! إنَّ الله أمرني أنْ أنذر عشيرتي الأقربين، فضقتُ بذلك ذرعاً، وعرفتُ أنَّي متى أُباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فَصَمَتُّ عليه، حتَّى جاءني جبرئيل فقال: يا محمَّدُ! إنَّك إلَّا تفعل ما تؤمر به يُعذِّبك ربّك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعلْ عليه رحل شاة، واملأ لنا عُسَّاً من لبن، ثمَّ اجمع لي بني عبد المطَّلب حتَّى أُكلِّمهم، وأبلِّغهم ما أمرت به، ففعلتُ ما أمرني به ثمَّ دعوتهم له، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً ـ يزيدون رجلاً أو ينقصونه ـ فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعبَّاس، وأبو لهب، فلمَّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعتُ لهم، فجئت به، فلمَّا وضعته تناول رسول الله (ص) حذيةً من اللّحم، فشقَّها بأسنانه، ثمَّ ألقاها في نواحي الصحفة ثمَّ قال: خذوا بسم الله، فأكل القوم حتَّى ما لهم بشيءٍ حاجة، وما أرى إلَّا موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس عليٍّ بيده، إنْ كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قَدَّمتُ لجميعهم، ثمَّ قال: اسقِ القوم، فجئتهم بذلك العُس، فشربوا منه حتَّى رووا منه جميعاً، وأيم الله إنْ كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمَّا أراد رسول الله (ص)أنْ يكلِّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لهدما سحركم صاحبكم، فتفرَّق القوم ولم يكلِّمهم رسول الله (ص)، فقال: الغد يا عليُّ! إنَّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرَّق القوم قبل أنْ أكلِّمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثمَّ اجمعهم إليَّ. قال: ففعلتُ، ثمَّ جمعتُهم، ثمَّ دعاني بالطعام فقرَّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتَّى ما لهم بشيءٍ حاجة، ثمَّ قال: اسقِهِم، فجئتهم بذلك العُس، فشربوا حتَّى رووا منه جميعاً، ثمَّ تكلَّم رسول الله (ص)، فقال: يا بني عبد المطَّلب، إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أنْ أدعوكم إليه، فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أنْ يكون أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلتُ...أنا يا نبي الله، أكونُ وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثمَّ قال: إنَّ هذا أخي، ووصيّي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أنْ تسمع لابنك وتطيع» [تاريخ الطبريّ ج2 ص319، بتصرُّف].

أقول: إنَّ الملاحَظ في نص الآية الكريمة، ومتن الرواية الشريفة هو خلوهما من التصريح بكفر أو شرك المخاطَبين حتَّى يتمّ ما قاله صاحب السؤال، بل هي ساكتةٌ عن ذلك، كيف وقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) من ضمن الحضور، ومن جملة المخاطَبين آنذاك، كما هو واضح.

ثمَّ إنَّ الإشكال ـ على تقديره ـ غيرُ مختصٍّ بأبي طالب (عليه السلام) وحسب، وإنما هو عامٌ وشاملٌ لباقي بني عبد المطَّلب، ومنهم الحمزة والعبَّاس كما جاء في الرواية، فلماذا التركيز على شخص أبي طالب دون غيره، أهي الحسيكة أم شيء آخر؟

هذا، وليعلم بأنَّ إسلام أبي طالب (عليه السلام) بل وإيمانه، قد أسهب في إثباته أهل التحقيق، حتَّى بات من المسلَّمات عند أهل الإِنصاف، إليكم جملة من تلك الأدلَّة:

أوَّلاً: أشعاره الكثيرة، فإنَّ لأبي طالب (ع) جملةً من الأشعار الدالَّة على اعتقاده الكامل بدين الإسلام، من ذلك، ما نقله ابن هشام في سيرته [ج2 ص٤] من كلامه الصريح في أنَّ النبيَّ الأعظم (ص) نبيٌّ كنبيّ الله موسى (ع)، إليك نصَّه:

(اَلَا أَبْلِغَا عنّي عَلَى ذاتِ بَيْنِنَا … لؤَياً وخُصَّا من لُؤَيٍّ بَنِي كعبِ

أَلَم تعلَموا أَنَّا وجدنا محمّداً … نَبِيَّاً كموسَى خُطَّ في أَوَّلِ الكتبِ؟)

ثانياً: إجماع الشيعة على إيمانه، فقد أجمع شيعة أهل البيت (ع) على إسلام أبي طالب (ع)، وإيمانه، بل قد صار ذلك عندهم من المسلَّمات والواضحات التي لا شكَّ فيها ولا مرية.

1ـ قال شيخنا الطوسيّ: (وعن أبي عبد الله، وأبي جعفر: إنَّ أبا طالب كان مسلماً، وعليه إجماع الإماميّة، لا يختلفون فيه، ولهم على ذلك أدلَّة قاطعة موجبة للعلم، ليس هذا موضع ذكرها). [التبيان ج8 ص١٦٤].

2 ـ وقال شيخنا الطبرسيّ: (هذا، وقد ثبت إجماع أهل البيت (ع) على إيمان أبي طالب، وإجماعهم حُجَّة، لأنّهم أحد الثقلين اللَّذين أمر النبيّ (ص) بالتمسُّك بهما بقوله: إنْ تمسَّكتم بهما لنْ تضلُّوا).

[مجمع البيان ج4 ص٣١].

3 ـ وقال شيخنا المجلسيّ: (وقد أجمعت الشيعة على إسلامه، وأنّه قد آمن بالنبيّ (ص) في أوَّل الأمر، ولم يعبد صنماً قطّ، بل كان من أوصياء إبراهيم (ع) واشتهر إسلامه من مذهب الشيعة، حتَّى إنَّ المخالفين كلَّهم نسبوا ذلك إليهم، وتواترت الأخبار من طرق الخاصَّة والعامَّة في ذلك، وصنَّف كثير من علمائنا ومحدِّثينا كتاباً مفرداً في ذلك، كما لا يخفى على من تتبّع كتب الرجال).

[بحار الأنوار ج35 ص138].

4ـ وقال ابن أبي الحديد المعتزليّ: (واختلف الناس في إيمان أبي طالب، فقالت الإماميّة وأكثر الزيديّة: ما مات إلَّا مُسلماً، وقال بعضُ شيوخنا المعتزلة بذلك، منهم الشيخ أبو القاسم البلخيّ، وأبو جعفر الإسكافيّ وغيرهما). [شرح نهج البلاغة ج14ص٦٥]، إلى غير ذلك من الكلمات الدالَّة على هذا المعنى.

ثالثاً: الضرورة الفقهيّة، وهي حرمة تمكين الكافر من المسلمة، بمعنى: لو كانت الزوجة من أهل الإسلام، وكان الزوج من أهل الكفر فلا بدَّ من التفريق بينهما، لعدم ولاية الكافر على المسلمة، ومن المعلوم أنَّ السيّدة فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب(ع) كانت من أوائل المسلمين. وعليه، فلو كان أبو طالب كافراً ـ والعياذ بالله تعالى ـ لوجب الحكم بالتفريق بينه وبين السيّدة فاطمة بنت أسد، ولأنَّ ذلك لم يحصل فيكشف عن إسلامه، كما هو واضح.

وقد أشير إلى هذا المعنى في كتاب الدر النظيم، ونصُّه: (قد تواترت الأخبار عن زين العابدين (ع) وأنَّه سُئل عن أبي طالب، أكان مؤمناً؟ فقال: «نعم. فقيل: إنَّ هاهنا قوم يزعمون أنَّه مات كافراً. فقال: «واعجباه، وكيف لا أعجب، أيطعنون على أبي طالب أم على رسول الله (ص)، وقد نهاه الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يقرَّ مؤمنة مع كافر في غير آيةٍ من القرآن، بل حرَّمهنَّ على الكفَّار في مواضع كثيرة، ولا يشكّ أحد أنَّ فاطمة بنت أسد (رض) زوجة أبي طالب مؤمنة قديمة الإيمان بالنبيّ (ص)، وقد روى قوم: أنَّها أوَّل من آمن به قبل أنْ يُبعث، لما رأت من دلائله (ع)، وأنَّ أبا طالب (رض) مات عنها وورثته، وقد قال رسول الله (ص): لا توارث بين أهل ملَّتين. أو كان رسول الله (ص‌) يدع مؤمنة مع كافر؟! ويدع مؤمنة ترث كافراً؟! ولكنَّ القوم عادوا عليّاً (ع) فلم يجدوا فيه مقالاً، فرموا أباه بالكفر، عداوة لعليٍّ (ع)». [الدر النظيم للعامليّ ص219].

ومن هنا نقول: لعلّ أصل الإشكال الذي أثار حفيظة المستشكل فيما يتعلّق بـ(حديث الدار) هو وجود نصٍّ صريحٍ من رسول الله (ص) على الإمام عليّ (ع) بأنّه خليفته ووصيّه وأخوه، كما هو صريح قوله (ص) المتقدِّم: «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أنْ يكون أخي، ووصيّي، وخليفتي فيكم؟ فلم يستطع المستشكل أن يتقبّل ذلك، فوجّه إشكاله نحو أبي طالب (ع).

ثُمّ مهما يكن من شيء، فلا ملازمة بين الإيمان بحديث الدار وكفر أبي طالب(ع)، فإنَّ حادثة الدار وإنْ كانت ثابتة إلَّا أنَّ ما دلَّ على إيمان أبي طالب مُحكْمٌ وقويّ. والحمد لله ربِّ العالمين.