كيف نردُّ على شبهة الملاحدة حول السلسلة اللانهائيّة في خلق الخالق؟

السؤال: أرجو التفضّل بنشر بحث حول شبهة سلسلة اللانهائيّة في خلق الخالق ... وكيف نردّ هذه الشبهة على الملاحدة!! ولكم الشكر والتقدير

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

نشرنا العديد من الأجوبة المتعلّقة بهذا الإشكال، ولذلك سنكتفي هنا بذكر مجموعة مختصرة من النقاط.

1- مفهوم التسلسل اللانهائيّ: يعني وجود سلسلة غير منتهية من العلل والمعلولات، يعتمد كلّ موجود على ما قبله في الوجود. والسؤال الفلسفيّ المطروح هنا: هل يمكن أن تستمرّ هذه السلسلة إلى ما لا نهاية؟ بحسب الضرورة المنطقيّة، إذِ العقل يحكم باستحالة وجود تسلسل لانهائيّ؛ لأنّ كلّ حلقة من أجزاء السلسلة هي علّة لما يليها ومعلولة لما سبقها، وهكذا تستمرّ الاحتمالات دون أن يصل العقل إلى شيء يستقرّ عليه في حكمه. إذا امتدّت السلسلة بلا بداية، فهذا يعني أنّه لن يكون هناك أوّل، وبالتالي لن يكون هناك شيء أصلاً؛ لأنّ انتفاء الأوّل يعني انتفاء كلّ ما يقوم عليه. ولتوضيح ذلك بشكل أسهل، نضرب مثالاً: إذا افترضنا وجود مجموعة مصابيح تضيء بالتتابع، وكان كلّ مصباح يعتمد على الذي قبله في الإضاءة، فإنّ هذا الافتراض لا يصحّ إلّا بوجود مصباح أوّل يستمدّ ضوءه من نفسه ويمنح الضياء لغيره. أمّا إذا افترضنا أنّ سلسلة المصابيح لا تنتهي، أي ليس لها بداية تستمدّ منها الإضاءة، فإنّ العقل سيحكم بعدم وجود هذه المصابيح من الأساس؛ لأنّ العقل لا يصدّق بوجود شيء بلا بداية يستمدّ منها الوجود. بمعنى آخر، افتراض وجود السلسلة يتطلّب افتراض بداية ومسبّب لها، وفي المقابل، افتراض عدم وجود بداية للسلسلة يعني عدم وجود السلسلة نفسها.

2- الفرق بين ممكن الوجود وواجب الوجود: الأشياء الممكنة هي التي تحتاج إلى علّة لأنّها ليست ذاتيّة الوجود، فالممكن هو الذي يتساوى عنده طرفا الوجود والعدم، فإمّا أن يكون أو لا يكون. أمّا واجب الوجود فهو الموجود الذي لا يحتاج إلى علّة لأنّه ضروريّ الوجود بذاته. والبعض يشتبه عندما يعتقد أنّ قانون العلّة والمعلول يشمل كلّ ما يتّصف بالوجود، في حين أنّ هذا القانون خاصٌّ بالموجودات الممكنة والحادثة. فليس كلّ موجود يحتاج إلى علّة، وإنّما كلّ موجود حادث يحتاج إلى علّة. وعندما نتحدّث عن التسلسل، نتحدّث عن تسلسل العلل والمعلولات الممكنة. وبعبارة أخرى، بطلان التسلسل يتعلّق بالحوادث والممكنات، أي لا يمكن إرجاع الحوادث إلى علل حادثة غير متناهية، بل لا بدّ أن تنتهي إلى علّة واجبة وغير حادثة.

3- مجموع السلسلة بحاجة إلى علّة: كما تنطبق المعلوليّة على كلّ جزء من أجزاء السلسلة، فهي تنطبق أيضاً على مجموع السلسلة. ولأنّ قانون العلّيّة يسري على الأفراد، فهو يسري كذلك على المجموع. بعبارة أخرى، كما نسأل عن علّة وجود كلّ فرد من أفراد السلسلة، نسأل أيضاً عن علّة وجود السلسلة بأكملها. فما العلّة التي أخرجت هذه السلسلة من العدم إلى الوجود؟ ارتباط الأجزاء بعلّة خارجيّة يدلّ على تعلّق السلسلة نفسها بتلك العلّة. فإذا سألت كلّ حلقة عن حالها، لأجابتك بأنّها فقيرة وتحتاج إلى علّة في وجودها. وإذا كان هذا حال كلّ حلقة، فإنّ السلسلة بأكملها تتّسم بنفس التعلّق والافتقار إلى علّة.

4- جواب الملاحدة: من خلق الخالق؟: الملاحدة يطرحون شبهة: (إذا كنّا بحاجة إلى علّة لوجود الكون، فلماذا لا نحتاج إلى علّة لوجود الله)؟ هذا السؤال يتجاهل الفرق الجوهريّ بين واجب الوجود، وممكن الوجود. فالله هو واجب الوجود، أي أنّه ليس حادثاً ولا ممكناً، بل وجوده ضروريّ ولا يمكن أن يكون معدوماً. وعليه، فلا يصحُّ السؤال عن علّة الله، لأنّه ليس معلولاً حتّى نسأل عن علّته. فالله ليس جزءاً من سلسلة العلل والمعلولات، بل هو واجب الوجود بنفسه وعلّة لوجود كلّ ما سواه. ومن ذلك يتّضح أنّ جوهر المشكلة في هذه الشبهة ينبع من عدم التمييز بين ممكن الوجود (الذي يمكن أن يوجد أو لا يوجد) وبين واجب الوجود (الذي وجوده ضروريّ ولا يمكن إلّا أن يوجد). فالعالم بكلّ ما فيه من الممكنات يعتمد في وجوده على غيره، فهو دائماً بحاجة إلى علّة خارجيّة تمنحه الوجود وتضمن له البقاء والاستمرار. أمّا واجب الوجود، فلا يحتاج إلى سبب لأنّه هو السبب الأوّل لكلّ شيء، ووجوده ليس مشروطاً بأيّ شيء خارجيّ. والحمد لله ربّ العالمين.