هل كانت حرب الخليفة الأوّل ضدّ مانعي الزكاة حرباً ضدّ المرتدّين؟

السؤال: يتّهم الشيعة الصحابة الذين حاربوا المرتدّين بأنّهم هم المرتدّون. ومن المعلوم أنّ الله توعّد من يرتدّ من المؤمنين في ذاك الزمن بقوم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. تأمّلوا كلمة (منكم) في الآية. ولنا سؤال: حين اتّهم الرافضة الصحابة بالارتداد، فمن القوم الذين أتى الله بهم ليجاهدوا في سبيله ولا يخافون لومة لائم؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

أوّلاً، لفهم الموضوع بشكل أعمق، يجب أن نوضّح أنّ الآية المذكورة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} جاءت في سياق تحذير المؤمنين من الارتداد، وأنّ الله قادر على استبدالهم بآخرين يقومون بواجباتهم اتّجاه دينهم. فالآية لا تتحدّث عن حروب الردّة بأيّ وجه من الوجوه، وإنّما تتحدّث عن مبدأ عامّ يتعلّق بقدرة الله على استبدال قوم بقوم آخرين إذا تخلّوا عن مسؤوليّاتهم الإيمانيّة.

والملفت للانتباه أنّ أكثر المفسّرين نقلوا في ذيل هذه الآية أنّ جماعة من أصحاب رسول الله (ص) سألوه بعد نزول هذه الآية: (من هؤلاء الذين ذكرهم الله في كتابه؟ وكان سلمان المحمّديّ جالساً قرب النبيّ (ص)، فضرب النبيّ (ص) بيده على فخذ سلمان - وفي رواية على كتفه - وقال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريّا لتناوله رجال من فارس». وقد أورد هذا الحديث وأمثاله محدّثو السنّة المعروفون في كتبهم المشهورة، كالترمذيّ والبيهقيّ. كما اتّفق مفسّرو الشيعة والسنّة على هذا المعنى، كصاحب تفسير القرطبيّ، وروح البيان، ومجمع البيان، والفخر الرازيّ، والمراغيّ، وأبي الفتوح الرازيّ وأمثالهم. وورد في تفسير الدرّ المنثور عدّة أحاديث في هذا الباب في ذيل الآية المذكورة. (تفسير الأمثل 16/402)

ثانياً، قضيّة الردّة التي وقعت بعد وفاة النبيّ (ص) قد تمّ تضخيمها وتحريفها في السياق السياسيّ آنذاك. فحروب الردّة لم تكن تمردّاً على الدين، بل كانت رفضاً سياسيّاً لحكم الخليفة الأوّل، فالعديد من القبائل رفضت دفع الزكاة ليس إنكاراً لركن من أركان الإسلام، بل احتجاجاً على شرعيّة السلطة السياسيّة الجديدة. فتقديم القبائل التي رفضت دفع الزكاة لأبي بكر على أنّهم مرتدّون كان تبريراً لتصفية المعارضة وتثبيت الحكم؛ فلم يثبت عن رسول الله (ص) أنّه قاتل من منع الزكاة. وقصّة ثعلبة بن حاطب معلومة للجميع. فكان الأجدر بالخليفة الأوّل أن يرسل كبار الصحابة لاستيضاح الأمر ومحاججتهم إن كان لهم حجّة في منع الزكاة. وهذا ما كان يتوقّعه أصحاب مالك بن نويرة وبعض مانعي الزكاة، فلم يجهزوا أنفسهم لقتال جيش الخليفة، ولم يبدأوا بالزحف نحوه، ولكنّهم تفاجأوا بانقضاض الجيش عليهم بعد أن سلّموا أسلحتهم. قُتلوا وهم أسرى بين يدي الجيش، ثمّ انتقموا منهم من دون مبرّر شرعيّ، فقطعوا رؤوسهم وجعلوا منها أثافي لقدورهم. وهذا أمر لا يمكن تفهّمه ولا يمكن إيجاد المبرّرات الكافية له. ومع ذلك نجد مدرسة الخلافة صوّرت ذلك في إطار حرص الخليفة على الإسلام، ونسجت حوله فضائل وبطولات، وحوّلته إلى منقبة من مناقبه وإنجازاً من أهمّ إنجازاته.

فهذه الظاهرة تتكرّر عبر التاريخ، إذْ تحاول السلطات السياسيّة دائماً إعطاء الشرعيّة الدينيّة لأفعالها العسكريّة، كما حدث في وقت الخلافة الأمويّة والعباسيّة، اللّتين واجهتا المعارضين الذين ثاروا ضدّهما بالتكفير. حتّى الحسين بن عليّ (ع) نفسه اتُهم بأنّه خرج على (دين جدّه) لتبرير قتله.

فإذا أردنا تحليل ظاهرة حروب الردّة، نجد أنها في جزء كبير كانت تعبيراً سياسيّاً عن رفض الخضوع للسلطة السياسيّة القائمة. ولكنّهم صوّروها تصويراً دينيّاً، بنفس القدر الذي صوّروا به السقيفة، حتّى أصبحت في وعي المسلم انقلاباً وارتداداً عن الإسلام. والغريب في الأمر هو عندما تتحدّث بعض التحليلات عن مجتمع الصحابة بوصفه مجتمعاً بشريّاً يمكن أن ينحرف ويميل عن الحقّ، تظهر معارضة ضخمة ترفع الصحابة فوق مستوى البشر، وتبرّر عدم ارتدادهم بأنّهم تربية رسول الله (ص). فكيف يمكن أن يُصدّق ارتداد هذه الجموع الكبيرة من الصحابة ويُسلّم أنّهم مرتدّون؟ والمنطق الذي يسمح بقبول ردّة هؤلاء هو نفسه الذي يسمح بحدوث انحراف في أكثر الصحابة، وبالتالي تسقط فكرة عدالة الصحابة كفكرة مهيمنة على العقل الإسلاميّ إلى اليوم. إذْ لا يمكن تبرير إمكانية ارتداد هؤلاء بالقول: إنّهم ينتمون إلى مجتمعات خارج المدينة، لأنّ القرآن نفسه يذكر أنّ النفاق كان موجوداً في المدينة، إذْ يقول تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}. فكما أنَّ خارج المدينة مهدّد بالردّة، كذلك أهل المدينة كانوا مهدّدين.

ولا يفهم ممّا قدّمنا أنّنا ننكر حدوث الارتداد بالكلّيّة. فقد ادّعى البعض النبوّة ودعا الناس إلى نفسه، مثل مسيلمة وطليحة والعنسيّ وسجاح، وكلّ ذلك حصل في عهد رسول الله (ص).

لكنّ الذي دفع الخليفة إلى الإسراع في قتالهم كانت حركة مانعي الزكاة من جهة، وحركة بعض القبائل الطامعة في السلطة التي بادرت بمهاجمة المدينة. فكلّ ذلك يجب أن يُنظر إليه من منظور سياسيّ وليس دينيّاً.

ثالثاً، الصحابة الذين قتلوا عثمان، هل هم من المرتدّين، أو من القوم الذين أحبّهم الله وأحبّوه؟ فقد كان للصحابة دور كبير في الثورة على عثمان بن عفان. بعضهم شارك في الثورة، وبعضهم خذله ولم ينصره. فقد ذكر ابن جرير ما يلي: (لمّا رأى الناس ما صنع عثمان، كتب من بالمدينة من أصحاب النبيّ إلى من بالآفاق منهم... فأقبلوا من كلّ أفق حتّى قتلوه). [تاريخ الطبريّ ج2 ص662). وفيه: (كتب أصحاب رسول الله بعضهم إلى بعض أن أقدموا فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد، وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد...). [تاريخ الطبريّ ج2 ص644).

وفي خبر آخر: (دخل أبو الطفيل عامر بن واثلة الكنانيّ على معاوية فقال له معاوية: ألست من قتلة عثمان؟ قال: لا، ولكنّي ممّن حضره فلم ينصره...). [أخبار الوافدين من الرجال للعبّاس بن بكّار الضبّيّ ص55، تاريخ دمشق ج26 ص116].

رابعاً، الشيعة لا ينكرون جهود الصحابة الصادقين الذين وقفوا مع الحقّ وبذلوا كلّ ما في وسعهم للدفاع عن الإسلام ونصرة النبيّ (ص). إلّا أنّهم يؤمنون أنّ الصحابة كباقي البشر، ليسوا معصومين من الخطأ والزلل، وأنّه بعد وفاة النبيّ (ص) حصل فيهم انحراف عن المسار الذي رسمه النبيّ (ص)، وهو ممّا أدّى إلى ظهور نزاعات وحروب عصفت بالأمّة، مثل معركة الجمل وصفّين والنهروان وجميع الحروب التي حصلت في التاريخ الإسلاميّ، وعليه فإنّ الشيعة يرون أنّ التقييم التاريخيّ للصحابة يجب أن يكون قائماً على أفعالهم ومدى توافقها مع المبادئ الإسلاميّة، التي من أهمّها الموقف من عترة النبيّ (عليهم السلام). والحمد لله ربّ العالمين.