الولاية التكوينيّة للنبيّ الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

السؤال: من شواهد بطلان الولاية التكوينيّة قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. [القصص: 44]. آيات عديدة تتحدّث عن قصص الأنبياء والصالحين، وتبيّن أنّ النبيّ (ص) لم يكن لديه ولاية تكوينيّة، والآية أعلاه أشدّ وضوحاً، إذ ذكرت أنّ النبيّ (ص) لم يكن من الشاهدين ! إذ لا معنى للولاية على الكون من دون علم وشهادة!

: الشيخ أحمد الكعبي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يرد مصطلح بهذا التركيب المعروف في زماننا والعبارة المشهورة: (الولاية التكوينيّة في القرآن الكريم، أو في الأحاديث الشريفة لنبحث عن تفسير خاصّ لها في ضوء النصوص الشريفة، وإنّما هي اصطلاح استعمله العلماء، بل ذكر البعض أنّه لا وجود لهذا المصطلح إلّا في كلمات المتأخّرين). [الإمامة وقيادة المجتمع للحائريّ ص119]. ومع ذلك فقد عُرّفت بتعريفات عديدة لا بد من الإشارة إلى بعضها ليتّضح الجواب عن الاستغراب في سؤال السائل فنقول:

أوّلاً: المراد بالولاية التكوينيّة هو (قدرة الإنسان على‌ التصرّف في عالم الخلق والتكوين بأمر اللَّه تعالى وإذنه، والإتيان بأفعال خارقة للعادة والنواميس الطبيعيّة لعالم الأسباب، فمثلًا يبرئ‌ المريض الذي لا علاج له بإذن اللَّه تعالى، وذلك من خلال الهيمنة والنفوذ الذي وهبه اللَّه تعالى‌ له، أو يحيي الموتى‌، وأعمال أخرى من هذا القبيل، وكلّ أشكال التصرّف المعنويّ غير الاعتياديّ في أرواح وأجسام البشر، وهذا النوع يشمل الطبيعة أيضاً). [نفحات القرآن للشيرازيّ، ج9 ص121].

ومن الواضح إمكان ولاية التصرُّف في التكوين للأنبياء (عليه السلام) وكذلك للأئمّة (عليهم السلام)، لأنّ كلّ شيء هو ممكن ما لم تثبت استحالته، والذي يحتاج إلى دليل هو الاستحالة. بل إنّ مجريات ولاية التصرُّف التي طرحت في القرآن الكريم، التي أطلق عليها عنوان (المعجزات)، إنّما هي في مقام الخرق لقانون الطبيعة والعادة، وليسَ في مقام خرق القانون العقليّ. [محاضرات في الإلهيّات للسبحانيّ، ص262].

فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ حقيقة الولاية التكوينيّة ومفهومها يمكن تلخيصه في أمور أربعة، لا على سبيل الحصر، وهي:

الأمر الأوّل: أنّها نحوٌ من أنحاء الإعجاز، ويظهر ذلك من كلمات بعض من يستدلّ على ثبوت الولاية التكوينيّة بثبوت المعاجز للأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، كالسيّد السبزواريّ، إذْ يقول: (وطريق إثبات ذلك ما تواتر عنهم من المعاجز في التكوينيّات) [مهذّب الأحكام، السبزواريّ ج16 ص 362]. والسيّد تقيّ القمّيّ إذْ يقول: (لا إشكال في الولاية التكوينيّة للأنبياء والأئمّة عليهم السلام، بل للأولياء المقرّبين، والقرآن أكبر شاهد على ذلك حيث تعرّض لموارد كثيرة من معاجز الأنبياء). [الردود العقائديّة، للقمّيّ، ص 20].

والأمر الثاني: أنّها نحو من أنحاء الدعاء المستجاب: أي أنّ ولاية المعصوم (ع) التكوينيّة ما هي إلّا عبارة عن كلمات يدعو بها المعصوم لتحقيق فعل تکوينيّ معيّن، فيستجيب الله دعاءه، ويتحقّق ذلك الفعل في الخارج، وهذا ما يظهر من كلمات بعض العلماء، كالشيخ سلمان آل عبد الجبّار القطيفيّ، في بعض رسائله، إذْ يستفاد منها أنّه يرى: (أنّ الولاية التكوينيّة نحو من أنحاء الدعاء المستجاب). [ مجلّة التراث، العدد 3، ص 179].

الأمور الثالث: أنّها فعل طبيعيّ للمعصوم: أي أنّها بحسب الحقيقة والمفهوم قدرة طبيعيّة موجودة عند المعصوم (ع) يتصرّف من خلالها في الأمور التكوينيّة بتفويض من الله تعالى في وقت التحدّي، وغيره من الأوقات. [ الولاية التكوينيّة، للقطيفيّ، ص61].

الأمر الرابع: أنّها نحوٌ من أنحاء التفويض، والمراد به أنّ الله تعالى قد فوّض للأئمّة الأطهار (عليهم السلام) أمور العالم، كالخالقيّة والرازقيّة والإحياء والإماتة، على نحو الاستقلال. بمعنى أنّه أمدّهم بذلك، وترك لهم الأمر يتصرّفون فيه كيف يشاؤون، ولا علاقة له بذلك. [الولاية التكوينيّة، للقطيفيّ ص48]. وهذا المعنى باطل لعدم خروج شيء عن ارادة الله تعالى ومشيئته في العالم، ويعـدُّ من الغلوّ الواضح المنهيّ عنه.

وثانياً: أنّ الآية الشريفة التي استند إليها السائل، وهي قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. [القصص، 44]. لا علاقة لها بالولاية التكوينيّة، لأنّ المعنى المستفاد منها ما ذكره مفسّرو الفريقين لـمّا عرضوا لهذه الآية، فمن ذلك:

1- ما ذكره السيّد الطباطبائيّ في هذا الموضع، إذْ قال: (وما كنت حاضراً وشاهداً حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربيّ من الوادي أو الجبل). [الميزان في تفسير القرآن، ج16 ص50].

2- وما ذكره الرازيّ في هذا الموضع، إذْ قال: (والخِطابُ لِلرسولِ (ص) يقولُ: وَمَا كنتَ حاضراً المَكَانِ الَذِي أَوحينا فِيهِ إِلَى موسى علَيهِ السّلَامُ، ولَا كنتَ من جملَةِ الشَّاهدينَ لِلوَحيِ إِليه...)، [التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ، ج24 ص602].

3- وما ذكره القرطبيّ في هذا الموضع، إذْ قال: (وما كنت من الشاهدين أي من الحاضرين). [تفسير القرطبيّ ج20 ص391].

فإذا تبيّنت هذه المقدّمات، فحينئذٍ يكون الجواب واضحاً، وهو أنّ ثبوت الولاية التكوينيّة لنبيٍّ من الأنبياء أو لوصيٍّ من الأوصياء (سلام الله عليهم أجمعين) لا يقتضي أن يكون ذلك النبيّ أو الوصيّ من الحاضرين والموجودين في سائر الأزمان والأماكن، إذِ القول بجواز التصرّف في عالم التكوين بالإذن الإلهيّ، لا يلازم حضوره ووجوده في كلّ مكان وفي كلّ زمان.

أمّا قول السائل: (إذْ لا معنى للولاية على الكون بدون علم و شهادة!)، فلم يذكر دليله على ذلك، ولا كيف انتهى إلى هذه النتيجة؟! وقد بيّنّا آنفاً أنّ ثبوت الولاية التكوينية لنبيٍّ ما لا يلازم حضوره وشهوده في كلّ مكان وفي كلّ زمان. ولكنْ يُحتمل أن يكون مراده من الشهادة الواردة في الآية الشريفة {وما كنت من الشاهدين}، هو مقام الأشهاد الثابت للأنبياء (عليهم السلام) لقوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا}. [النساء: 41]. وثبوت هذا المقام للأنبياء (عليهم السلام) شيء، ونفي الولاية التكوينيّة عنهم شيء آخر، إذْ لا ملازمة بينهما، ولا يتصاحبان، ولا يجب تقارنهما، فيمكن أن يثبت أحدهما من دون الآخر.

ألا ترى الى النصوص الدينيّة الواضحة في ثبوت الولاية لهم (عليهم السلام) كقوله تعالى {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ }، [آل عمران: 49]. وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي}، [النمل: 40]. وأمّا في الروايات، فمنها عن أبي عبد الله (ع) أنّه قال: «کان مع عیسی بن مریم حرفان یعمل بھما، وکان مع موسى عليه السلام أربعة آحرف، وکان مع إبراهیم ستّة أحرف، وکان مع آدم خمسة وعشرون حرفاً، وكان مع نوح ثمانية، وجمع ذلك كلّه لرسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم، إنّ اسم الله ثلاثة وسبعون حرفاً، وحجب عنه واحداً». [بصائر الدرجات، للصفّار، ص 229، ح 4].

وممّا تقدّم في خصوص الأمور الثلاثة تبيّن أنْ لا إشكال في ثبوت الولاية التكوينيّة لشخصٍ ما بشروطها المعروفة، ويترتّب على ثبوتها شيءٌ عظيم للمؤمنين، وذلك لأنّ (الولاية التكوينيّة قدرة معنويّة يحصل عليها الإنسان عن طريق العمل بالأحكام الإلهيّة، وينال الإنسان في أعلى مراتب الولاية التكوينيّة أعلى مراتب الإمامة التي تمثّل منزلة الإنسان الكامل. [إذْ] إنّ الإمام وهو في موقع الولاية التكوينيّة شمسٌ أكثر إشراقاً وسطوعاً من الشمس المحسوسة على باطن العالم غير المرئيّ وعلى ملكوت السماوات والأرضين، وضمائر النفوس الصالحة، فيصل المؤمنون حقّا بإذن اللّه تعالى وببركة نور الإمام، إلى المقصد الأعلى والغاية القصوى للإنسانيّة). [القيادة في الإسلام، الريشهريّ، ص77]. والحمد لله ربّ العالمين.