لماذا ذُكرَ اسمُ النبيّ موسى أكثرَ مِن رسولِنا الكريم في القراّن ؟
القرآنُ الكريمُ خاصٌّ برسولِ الإنسانيّةِ محمّد صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ومُعجزتُه الخالدة.. لماذا ذُكرَ اسمُ النبيّ موسى أكثرَ مِن رسولِنا الكريم وكذلكَ نبيُّ اللهِ ابراهيم عليهِ السلام؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
الحضورُ الكبيرُ لذكرِ سيّدنا موسى (عليهِ السلام) في القرآنِ يرتبطُ بتفصيلِ الأحداثِ التي جرَت بينَه وبينَ فرعون مِن جهةٍ، وبينَه وبينَ بني إسرائيلَ مِن جهةٍ أخرى، وقد كشفَت هذهِ القصصُ عن النماذجِ التي تستوعبُ طبيعةَ الإنسانِ في مُعادلاتِ الصّراعِ بينَ الحقِّ والباطل، حيثُ يمكنُنا أن نقولَ إنَّ القرآنَ قدّمَ بني إسرائيلَ كمثالٍ لمُعظمِ المُجتمعاتِ البشريّة، فعالجَ مِن خلالهِم إشكاليّةَ الإنسانِ معَ الحقِّ بسردِ قصصِهم التي تُحاكي مُعظمَ الظروفِ الحياتيّة للإنسان، ومِن هُنا نجدُ أنَّ القرآنَ بيّنَ أكثرَ تعاليمِه وتوجيهاتِه مِن خلالِ صوٍر حسيّةٍ جسّدَتها ممارساتٌ سلوكيّة واقعيّة، فالقيمُ والمبادئ والحياةُ الفاضلةُ التي أرادَها الإسلامُ لا يمكنُ تقديمُها كصورةٍ مثاليّةٍ مُنعزلةٍ عن واقعِ الحياةِ الإنسانيّة، وإنّما يجبُ تقديمُها في صورٍ حيّةٍ تُحاكي معظمَ المُتغيّراتِ الحياتيّة، ولذا نجدُ مِن بينِ 114 سورةٍ هناكَ 85 سورة ذُكرَ فيها اليهودُ والتوراة، وفي سورةِ البقرةِ وحدَها والتي يبلغُ عددُ آياتِها 286 آيةً جاءَ ذكرُ اليهودِ في 110 آيةٍ مِن آياتِها، وجاءَ ذكرُ مُقابلةِ موسى وفرعون 20 مرّة، وبالتالي الحضورُ الكبيرُ لسيّدنا موسى (عليه السّلام) في القرآنِ قد يكونُ بسببِ التجربةِ الحيّةِ للقيمِ والمبادئ التي أرادَ الإسلامُ بيانَها، وإذا تدبّرنا في مُجملِ القرآنِ لوجدنا أنّه يقومُ على بيانِ الحدودِ الفاصلةِ بينَ مسارين، الأوّل: مسارُ حزبِ الشيطان، والثاني: مسارُ حزبِ الله، أي إنَّ طبيعةَ الصّراعِ تدورُ بينَ مِحورين وهُما إرادةُ اللهِ المُتمثّلةُ في الأنبياءِ والأولياء، وإرادةُ الشيطانِ المُتمثّلةِ في الطاغوتِ، وقد لخّصَ القرآنُ هذهِ المُعادلةَ في قولِه تعالى: (فمَن يكفُر بالطاغوتِ ويؤمِن باللهِ فقد استمسكَ بالعروةِ الوثقى لا انفصامَ لها واللهُ سميعٌ عليم) وبما أنَّ فرعونَ وصلَ بهِ الطغيانُ إلى أن يُصرّحَ بقولِه (أَنَا رَبّكُم الأَعلَى) وبما أنَّ موسى (عليه السّلام) هوَ الذي وقفَ في وجهِ هذا الطّغيان، كانَ منَ المُهمِّ أن يُفردَ القرآنُ المساحةَ الأوسعَ لبيانِ تفاصيلِ هذا الصّراع، وذلكَ لكونِها سنّةً جاريةً إلى يومِ القيامة، فالابتلاءُ الأكبرُ الذي يُختبرُ بهِ الإنسانُ هوَ الكُفرُ بالطاغوتِ والتسليمُ للهِ المُتمثّلِ في أوليائِه، بل حتّى الملائكةُ عندَما أرادَ اللهُ اختبارَها اختبرَها بالسجودِ لآدم، وهوَ عنوانُ التسليمِ لأولياءِ اللهِ والانقطاعِ إليه تعالى، فتوحيدُ الله ِلا يتحقّقُ إلّا بالطاعةِ والامتثالِ لمَن أمرَ اللهُ بطاعتِه، ومِن هُنا كانَت طاعةُ أنبيائِه شرطاً في توحيدِه، فلا يكتملُ الإيمانُ، ولا يكونُ الإنسانُ موحِّداً للهِ، ما لم يكُن مُطيعاً ومُمتثّلاً لأنبيائِه ورسلِه، وما دارَ بينَ بني إسرائيلَ وبينَ موسى (عليهِ السلّام) جسّدَ كلَّ الأسبابِ والموانع وكلّ الحيل التي يمكن أن يقوم بها الإنسانُ في قبال التسليم لأولياءِ الله، وعليهِ لم تكُن تلكَ القصصُ مُجرّدَ سردٍ لوقائعَ تاريخيّةٍ وإنّما نماذجَ يعتبرُ بها الإنسانُ في كلِّ العصورِ والأزمنة، قالَ تعالى: (لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِّأُولِي الأَلبَابِ)، وقد جاءَ في الخبرِ (ليأتينَّ على أمّتي ما أتى على بني إسرائيلَ حذوَ النعلِ بالنعل).
فمِن هذا البُعدِ نفهمُ اهتمامَ القرآنِ بقصّةِ موسى معَ بني إسرائيل ومعَ فرعون؛ لأنّها تُمثّلُ فلسفةَ الابتلاءِ والامتحانَ الأكبر للعباد، وما وقعَ في التاريخِ الإسلامي مِن انحرافٍ ما زالَت آثارُه إلى اليومِ إنّما كانَ ناتجاً مِن إهمالِ الأمّةِ لتجربةِ بني إسرائيل، فمنذُ اليومِ الأوّلِ لانتقالِ الرسولِ إلى الرّفيقِ الأعلى، تمرّدَت الأمّةُ على خليفتِه كما تمرّدَت بنو إسرائيلَ على هارونَ بعدَ غيابِ موسى، وعندَما قالَ الرسولُ لعليٍّ (أنتَ منّي بمنزلةِ هارونَ مِن موسى) لم يقُلها لمُجرّدِ الحكايةِ العابرة، وإنّما أرادَ التأكيدَ على مدى التشابهِ في سلوكِ الأمم، فتراجعَت الأمّةُ الإسلاميّةُ وانخرطَت في صفِّ الطغيانِ والأنظمةِ الجائرة، وتركَت بذلكَ أولياءَ اللهِ وحزبَهم الذي أمرنا بالسيرِ في خطّه، فلو استفادَت الأمّةُ مِن تجربةِ بني إسرائيلَ ومنَ الصّراعِ بينَ فرعونَ وموسى (عليهِ السّلام) لما وقفَت معَ معاويةَ في وجهِ الإمامِ عليّ (عليهِ السلام)، ولما حاربَت معَ يزيد الإمامَ الحُسين (عليهِ السّلام) وما زالَت الأمّةُ تُناصرُ الطّغيانَ المُتمثّلَ في الأنظمةِ الجائرةِ وتضطهدُ أولياءِ اللهِ وعبادَه الصالحين، فالفرعونيّةُ ما زالت تُمثّلُ الصّورةَ السياسيّةَ الحاكمة، وما زالَت القارونيّةُ الماليّة هيَ ذاتُها الثقافةُ المُهيمنة، وما زالت الأمّةُ
تتحايلُ على الحقِّ تحايلَ بني إسرائيل.
أمّا قولُ السّائلِ أنَّ القرآنَ خاصٌّ بالرسولِ وليسَ للنبيّ موسى، فهوَ قولٌ يبتني على التقييمِ الظاهري للقرآنِ بعيداً عن فلسفتِه وأهدافِه الساميةِ التي يريدُ تأسيسَها، فالقرآنُ كلامُ اللهِ وخطابُه الذي أنزلَه لكلِّ البشريّة، ولذا يسّرَه اللهُ للجميعِ باستخدامِ أفضلِ السّبلِ في إيصالِ معانيه، والقصّةُ ونقلُ التجاربِ هيَ مِن أهمِّ الأساليبِ وأقربِها لوجدانِ الإنسانِ مِن أيّ أسلوبٍ آخر.
اترك تعليق