مناقشة دعوى ابن حزم أعلمية أبي بكر
السؤال: يذكر ابن حزم الدليل على أعلميَّة أبي بكر وجهين: أحدهما: كثرة روايته وفتاويه، والثاني: كثرة استعمال النبيّ له [الفصل في الملل والأهواء والنحل ج4ص107]. هل بالإمكان الردُّ على هذا الزعم؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة التفاضل بين الصحابة كانت نتيجة الظروف السياسيَّة التي تلت وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، والتي أثارت تساؤلاتٍ فيمن يجب أن يتولى خلافته، هل هو الفاضل أم المفضول؟ وقد ذكر علماء المدارس الكلاميَّة وجوهاً لميزان التفاضل، ومن أبرزها (الأعلميَّة)، والسؤال هنا: من هو أعلم الصحابة ليكون الأحقّ بالخلافة؟ نشأ خلاف بين المدرستين فيمن هو الأعلم والأفقه، هل هو مولانا عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) أم هو أبو بكر بن أبي قحافة؟
وقد استند أصحابنا الإماميَّة إلى أدلّة عديدة لإثبات أعلميَّة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، ونذكر في المقام جملةً من الوجوه التي ذكروها:
الوجه الأوّل: شهادة القرآن الكريم:
وردت آيات قرآنيّة عديدة تدلّ على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أعلم الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كقول الله تعالى: ﴿وَيَقولُ الَّذينَ كَفَروا لَستَ مُرسَلًا قُل كَفى بِاللَّهِ شَهيدًا بَيني وَبَينَكُم وَمَن عِندَهُ عِلمُ الكِتابِ﴾ [الرّعد: ٤٣]، وقد نزلت في حقّ أمير المؤمنين (عليه السلام) [تفسير القرطبي ج9 ص336]، وكقوله تعالى : ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة الأنبياء: 7] النازل في أهل البيت (عليهم السلام) [تفسير الثعلبي ج6ص270]، وقوله تعالى: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقة: ۱۲]، النازل في أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً، فقد روى الطبريّ بالإسناد عن مكحول قال: (قرأ رسول الله (ص): ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ ثم التفت إلى عليّ، فقال: «سأَلْتُ الله أنْ يَجْعَلَها أُذُنَكَ«، قال عليّ: فما سمعت شيئاً من رسول الله (ص) فنسيته)، وروى عن بريدة قال: سمعت رسول الله (ص) يقول لعليّ: « يا عليّ، إنّ الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلّمك وأن تعي، وحقٌّ على الله أن تعي «، قال: فنزلت ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾) [تفسير الطبري ج23ص223].
الوجه الثاني: شهادة النبيّ الأكرم:
والأحاديث النبويّة التي تنصّ على أعلميّة أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرة، مثل قوله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام) : « زوّجتُكِ أكثرهم علماً«، وقوله: »أعلم أمّتي من بعدي عليّ بن أبي طالب« ، و »عليٌّ وعاء علمي ووصيي وبابي الذي أوتى منه« ، و»عليّ باب علمي ومبيّن لأمتي ما أرسلت به من بعدي»، و»علي خازن علمي« ، و »أنا مدينة العلم وعليّ بابها«، وغيرها الكثير ذكر جملةً منها صاحب [الغدير ج3 ص95].
الوجه الثالث: شهادة الصحابة:
لقد شهد كثير من الصحابة بأعلميّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، مثل قول عمر: «أقضانا عليّ«، وقول عائشة: «عليٌّ أعلم الناس بالسنة«، وقول ابن عبّاس: «والله لقد أعطي عليّ بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر«، وقال: «ما علمي وعلم أصحاب محمّد في علم عليّ إلّا كقطرة في سبعة أبحر»، وقال: «العلم ستة أسداس، لعلي من ذلك خمسة أسداس وللناس سدس ، ولقد شاركنا في السدس حتى لهو أعلم به منا «، وقول ابن مسعود: «قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءاً، وعلي أعلمهم بالواحد منها«، وقال: «أعلم أهل المدينة بالفرائض عليّ بن أبي طالب«، وقال: «كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي«، وقال: »أفرض أهل المدينة وأقضاها عليّ«، وقال: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن»، وقول سعد بن ابي وقاص -عندما وقف على رجلٍ يشتم علياً-: «يا هذا، علام تشتم علي ألمٍ يكن أعلم الناس؟«، وقول الإمام الحسن بن عليّ -في خطبة له بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين -: »لقد فأرقكم رجل بالأمس، ما سبقه الأولون بعلم، ولا أدركه الآخرون« وغيرها [ينظر: الغدير ج3 ص 99- 100].
الوجه الرابع: شهادة التابعين:
وقد شهد كثير من التابعين بأعلميّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، مثل قول هشام بن عتيبة: «هو أوّل من صلى مع رسول الله، وأفقهه في دين الله، وأولاه برسول الله «، وسُئل عطاء: «أكان في أصحاب محمّد أحد أعلم من علي؟ قال: لا والله ما أعلمه«، وقول عدي بن حاتم في خطبة له: «والله لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنة إنه - يعني عليّاً - لأعلم الناس بهما، ولئن كان إلى الاسلام إنّه لأخو نبيّ الله والرأس في الإسلام، ولئن كان إلى الزهد والعبادة إنّه لأظهر الناس زهداً، وأنهكهم عبادة، ولئن كان إلى العقول والنحائز، إنّه لأشد الناس عقلاً، وأكرمهم نحيزة«، وقول عبد الله بن حجل في خطبة له : «أنت أعلمنا بربنا، وأقربنا بنبينا، وخيرنا في ديننا«، وقول إسماعيل بن إسحاق القاضي- وذكر له قول قثم هذا -: « إنما يرث الوارث بالنسب أو بالولاء، ولا خلاف بين أهل العلم أن ابن العم لا يرث مع العم، فقد ظهر بهذا الإجماع أن عليا ورث العلم من النبيّ صلى الله عليه وسلم دونهم« [ينظر: الغدير ج3 ص100].
الوجه الخامس: رجوع الصحابة له في المعضلات:
لقد صرّح عمر بن الخطاب في مواقف كثيرة بأعلميّة أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك لـمّا رجع إليه في معالجة المسائل المعضلة، كقوله: « لولا علي لهلك عمر»، وقوله : «اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب «، وقوله : «لا أبقاني الله بأرض لست فيها أبا لحسن»، وقوله : «لا أبقاني الله بعدك يا علي» ، وقوله : «أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها« ، وقوله : «أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن « ، وقوله : «أعوذ بالله أن أعيش في قوم ليس فيهم أبو الحسن»، وقوله : «اللهم لا تنزل بي شديدة إلا وأبو الحسن إلى جنبي « ، وقوله : «لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن»، وقوله: «لا أبقاني الله إلى أن أدرك قوما ليس فيهم أبو الحسن » [ينظر: الغدير ج3ص98].
وقد صرّح علماء المخالفين برجوع الصحابة إليه في مواطن كثيرة، كقول أبي زكريا النووي: (سؤال كبار الصحابة له، ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله في المواطن الكثيرة، والمسائل المعضلات مشهور) [تهذيب الأسماء واللغات ج1 ص346]، وقول ابن الأثير الجزريّ: (ولو ذكرنا ما سأله الصحابة مثل عمر وغيره لأطلنا) [أسد الغابة ج3ص598]، وقول الكنجي الشافعيّ: (وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من علماء الصحابة يشاورونه في الأحكام ، ويأخذون بقوله في النقض والإبرام) [كفاية الطالب ص 223]، وقول أبي الحسن القاري: (المعضلات التي سأله كبار الصحابة ورجعوا إلى فتواه) [شرح الفقه الاكبر ص113]، وذكر المحب الطبريّ باباً في ذكر رجوع أبي بكر وعمر إلى قول عليّ وأورد جملة من الأحاديث [ذخائر العقبى ج1ص80].
وأمّـا ما ذكره ابن حزم - من أنّ أعلميّة أبي بكر تُعرف بوجهين: أحدهما: كثرة رواياته وفتاواه، والآخر: كثرة استعمال النبيّ (صلى الله عليه وآله) له – فيلاحظ عليه:
أوّلاً: أنّ العلم من الأمور الباطنيّة، ومن الواضح أنّ أوثق الطرق وأعلاها لمعرفة علم شخص هو إخبار الله تعالى عن علمه، وإخبار نبيّه الكريم؛ وذلك لأنّ الله تعالى ونبيّه الكريم مطلعان على حقائق الأشياء وبواطنها، وقد تقدّم شهادة القرآن الكريم وشهادة النبيّ الأعظم على أعلمية أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويتلوهما شهادة الصحابة والتابعين، وظهور آثار العلم والحكمة بفتق العلوم والمعارف، ومعالجة المعضلات والمشكلات، فإنّ هذه هي طرق معرفة أعلمية الشخص، وكلّها متحقّقة في شأن أمير المؤمنين (عليه السلام).
وأمّـا كثرة الرواية فلا يمكن عدّها طريقاً كاشفاً عن العلم إلّا مع إحراز صدق الناقل وضبطه وفهمه، فرُبّ ناقل فقه إلى مَن هو أفقه منه، كما أن كثرة الفتوى لا يمكن عدّها كاشفاً عن علم المفتي إلّا مع إحراز صدورها وفق الموازين الشرعيّة. وأمّـا استعمال النبيّ (صلى الله عليه وآله) لشخصٍ فهو فعلٌ من أفعاله، والفعلُ أمرٌ مجملٌ لا لسان له ليكشف عن كثرة العلم، وقد استعمل النبيّ (صلى الله عليه وآله) الوليد بن عقبة على الصدقات، ونزل الوحي الإلهيّ بأنّه فاسق كذّاب.
وثانياً: لو سلّمنا ما سبق، فنقول:
أمّـا كثرة الرواية: فمن المعروف أن أبا بكر لم يكن كثير الرواية، حيث تشير مصادر مخالفينا إلى أن الأحاديث المنسوبة إليه تبلغ حوالي (142) حديثًا، وفي المقابل يُروى عن المولى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما يصل إلى (536) حديثًا، فإذا اعتبرنا كثرة الرواية معياراً للعلم، فإن علياً (عليه السلام) يُعتبر أعلم من أبي بكر -ومع أنَّ بني أمية قد منعوا المحدّثين من رواية أحاديث أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ لذا كان الراوي عنه (عليه السلام) لا يسميه خوفًا من بطش الأمويين، فبعض المحدّثين كانوا يُكنُّون عنه بـ (الشيخ) أو (أبي زينب)، وقد ذكر ذلك الخوارزميّ بقوله: (أنّه لمّا دُعِيَ أبو حنيفة ليسأله أحدُ الأمويّين عن مسالة فقهيّة، قال أبو حنيفة: فاسترجعتُ في نفسي وقلت: أوّل ما دُعيتُ وسُئلت وأنا أقول فيها بقول عليّ رضي الله عنه وبه أدينُ الله تعالى، فكيف أصنع؟ ثمّ عزمتُ أنْ أصدِقَه وأفتيه بالذي أدينُ الله به، وذلك أنّ بني أميّة كانوا لا يفتون بقول عليٍّ رضي الله عنه ولا يأخذون به... إلى أن يقول: وكان عليٌّ لا يُذكر في ذلك العصر باسمه، والعلامة عنه بين المشايخ أنْ يقولوا: قال الشيخ كذا. وكان الحسن البصريّ يقول فيه: أخبرنا أبو زينب) [مناقب أبي حنيفة ج 1 ص 171].
وأمّـا التبرير بعدم بقاء أبي بكر بعد النبيّ إلا سنتين وستّة أشهر، ومن الطبيعيّ أن تقلّ الرواية عمّن عمَّر قليلاً بعد النبيّ من الصحابة – فينقضه حال جملة من الصحابة المعمّرين زمناً طويلاً كأبي الطفيل عامر بن واثلة وغيره، فقد قلّ نقلهم عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) [الكامل ج5 ص1741، الاستيعاب ج2 ص799].
وأمّـا كثرة الفتاوى: فلا توجد لأبي بكر فتاوى كثيرة في الجوامع الفقهيَّة لدى المخالفين، ولا يُعتبر الأكثر فتاوى بين الصحابة حتى يُستدلَّ على علمه بكثرة فتاويه، وقد عدَّ ابن حزم نفسه أبا بكر من الصحابة المتوسّطين في الفتوى عند ذكره فقهاء الصحابة [ينظر المحلى ج5 ص666]، فبناءً على ذلك، فإن هذا الشرط لا ينطبق على أبي بكر، وإنما ينطبق على أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) الذي تمّ تصنيفه في الصحابة المكثرين في الفتوى.
وأمّـا كثرة استعماله: فلا يعرف في السِيَر والتأريخ أنّ أبا بكر كان أكثر الصحابة استعمالاً، فإنّ الثابت هو أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان أكثرهم استعمالاً، ولهذا خصَّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) بقوله: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى«، فكما كان هارون وزيراً لموسى كان ذلك لعليٍّ من النبيّ.
واستعمال النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر في بعض الأعمال مثل الصدقات والصلاة والتي قد شاركه فيها غيره، لا تدلُّ على أنّه أكثر الصحابة استعمالاً كما هو واضح.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً.
اترك تعليق