هل يتنافى رضا الإمام الكاظم (ع) بالتفرّغ للعبادة مع دعائه بالخلاص من السجن؟!.
السؤال: عندما دخل الإمام الكاظم (ع) السجن الذي وُضع فيه، قال: "الحمد لله الذي هيأ لي هذا المكان لعبادته". وفي أواخر أيام حياته، نراه يقول: "يا مخلّص اللبن من بين فرَثٍ ودمٍ، خلصني من سجن هارون". فما هو التفسير لهذا التنافي بين الموقفين؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم.
وبعد فلابدّ أوّلاً من الوقوف على نصوص كلمات الإمام المشار إليها في السؤال لمدخليّة ذلك في معرفة الإجابة الصحيحة، فنحن لدينا نصّان:
أحدهما: إنشاء المدحة والحمد الذي ذكرتموه: (الحمد لله الذي هيأ لي هذا المكان...)، وهو بهذا اللفظ لا وجود له في ما نعلمه من النصوص التي بين أيدينا، وإنّما الموجود ما نقله مولانا الشيخ المفيد "أعلى الله مقامه"، وهو التالي: (وروي: أن بعض عيون عيسى بن جعفر رفع إليه أنّه يسمعه كثيراً يقول في دعائه وهو محبوس عنده: «اللهم إنّك تعلم أنّي كنتُ أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد» [الإرشاد ج2ص240].
والآخر: هو نصّ الدعاء فهو الآخر ليس بالصيغة التي ذكرتموها، بل هو كما رواه الصدوق "رفع الله قدره" فقال: (لما حبس الرشيدُ موسى بنَ جعفر "عليهما السلام" جنَّ عليه الليل فخاف ناحية هارون أن يقتله فجدّد موسى بن جعفر عليهما السلام طهوره فاستقبل بوجهه القبلة وصلّى لله عزّ وجلّ أربع ركعات ثمّ دعا بهذه الدعوات فقال: «يا سيدي نجّني من حبس هارون وخلّصني من يده يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحِم ويا مخلّص النار من الحديد والحجر ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء خلصني من يدي هارون»،... فأطلق عنه...) [عيون الأخبار ج1ص87، الأمالي]، ويلاحظ هنا: أنّ دعاء الإمام بالخلاص كان مترتّباً على خوف القتل لا على مجرّد السجن، وهذا فرق فارق جدّاً كما لا يخفى.
فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قد ذُكر في مقام الإجابة عن هذا السؤال وجهان، إليك بيانهما:
الوجه الأوّل: أنّه لا منافاة بين القولين؛ فإنّ الإمام الكاظم (ع) حمد الله تعالى على منحه فرصة للتزوّد من العبادة والدعاء والتقرّب إليه تعالى، وذلك بحدّ ذاته أمرٌ حسنٌ، وفضلٌ إلهيٌّ يستدعي الحمد والشكر عليه، فإذاً: لم يكن يحمده عزّ وجلّ على عملية السجن نفسها.
أمّا دعاؤه بالتخليص من سجن هارون فذلك لأنّ السجن ضربٌ من الابتلاء الذي ينبغي - عقلاً وشرعاً - للإنسان الصالح أن يضرع إلى الله في كشفه، وهذا ما ورد في قوله (ع): «يا سيدي نجّني من حبس هارون وخلّصني من يده يا مخلّص الشجر... الخ».
وبعبارة أخرى نحن أمام موضوعين ومقامين مختلفين في جوهرهما: أحدهما: مقام التفريغ للعبادة وهو يقتضي الحمد والشكر له تعالى. والآخر: وهو مقام الابتلاء بالسجن، وهو بلا شكّ يقتضي الدعاء بالفرج والخلاص؛ فالتفرغ للعبادة لا يتطلب بالضرورة السجن، بل يمكن تحقيقه دون الحاجة إلى ذلك. لذا، كان من الطبيعي أن يلتجئ الإمام إلى ربه في طلب الفرج، خاصةً أنه (ع) كان يستشعر التهديد بالقتل في ذلك السجن، كما هو واضح من كلام الصدوق آنف الذكر.
بل يمكن أن يقال: إنّ المؤمن يرضى بكلّ ما يتهيأ له من قضاء الله وقدره لإيمانه بأنّه تعالى لا يختار له إلّا الأصلح، فلو اختار له الفقر – مثلاً – تجده يرضى به، لكنّه يطمع بيسر الحال ويسأله تعالى أن يهبه له؛ وعليه فهو يحمد ربّه ويشكره في السرّاء والضرّاء، من دون أن ييأس من رحمته ويطمع في جوده في كشف ضرّه، أي أنّه يحمد الله من جهة رضاه عمّا يفعله به، ويدعوه من جهة طمعه برحمته، ولا منافاة بين الأمرين، ومن عرف سيرتهم (ع) علم بالضرورة أنّهم جميعاً راضون عن ربّهم في كلّ شيء وكلّ حال، ولكنّهم كانوا ايضاً يطمعون بأحسن ما عنده فيسألونه ولا يستغنون عنه.
الوجه الثاني: وهو يتمّ بدفع التنافي المتوهّم بين الكلامين من خلال ملاحظة اختلاف الظروف التي أحاطت بالإمام (ع) حين صدورهما عنه، فإنّ ما وقع منه (ع) من الحمد لله تعالى إنّما كان خلال مكوثه في سجن عيسى بن جعفر بن المنصور في البصرة، وكانت حاله هناك أفضل بكثيرٍ ممّا صار إليه في سجون بغداد، إذ كان يفتح له باب سجن البصرة في حالتين هما: الخروج للوضوء ونحوه، وعند دخول الطعام عليه، بل قد وصل الأمر إلى الحدّ الذي هَمّ فيه عيسى بإطلاق سراح الإمام (ع)، وكتب إلى هارون بذلك؛ لخشيته من كرامته (ع) على الله وكان يعترف بتحرّجه من سجنه عنده، كما أفادت كتب السيرة والتاريخ. قال الشيخ المفيد: ( ... فكتب عيسى بن جعفر إلى الرشيد يقول له: قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدّة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقول في دعائه فما دعا عليك ولا عليَّ ولا ذكرنا في دعائه بسوء، وما يدعو لنفسه إلّا بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليَّ من يتسلّمه منّي وإلّا خلّيت سبيله فإنّني متحرّج من حبسه)[الإرشاد: ج2ص240]، فهو (ع) كان يتعبّد، وكانت الغاية التي شكر الله تعالى لأجلها متحقّقة وحاصلة، بخلافه لمّا تمّ نقله إلى بغداد فإنّ اشتداد الظروف عليه حال كثيراً دون تنعّمه بالعبادة كما يشهد بذلك نقله (ع) من سجنٍ إلى آخر بأمر هارون بحثاً عمّن يشدّد ويضيّق عليه، وكان الطاغية يعاقب كلّ مَن وسّع على الإمام أو أحسن إليه، وكان يأمر حاشيته وخواصّه بقتله لا سيّما وزيره الفضل بن الربيع لكنّ الفضل كان يمتنع ولأكثر من مرّة. وهكذا بقي الطاغية يسعى في أذيّة الإمام (ع)، فيطلق سراحه تارة ويضعه تحت الإقامة الجبرية أخرى، ويعيده إلى السجن تارة ثالثة، حتّى وجد ضالّته أخيراً في السنديّ بن شاهك (عليه اللعنة) الذي لم يدّخر جهداً في تعذيب الإمام بمختلف أساليب التعذيب، ويعامله بوحشيّة وحقد لم يعهد الإمام (ع) نظيراً له من قبل، وقام بحبسه في طامورة ظلماء لم يتمكّن (ع) فيها من معرفة مواقيت صلاته، وكان يقيّده بحُلق الحديد فيُثقل بها رجليه حتّى رُضّت ساقه الشريفة، وبقي على ذلك الحال المأساوي حتّى استشهد مظلوماً صابراً محتسباً على يد هذا السندي اللعين.
والمتحصّل من ذلك كلّه: أنّ الحمد والشكر على التفريغ للعبادة كان في ظلّ ظروف أقلّ وطأة على الإمام (ع) بحيث يمكنه معها أداء الغاية من التفريغ وهي العبادة، بخلافه في ظروف الدعاء بالخلاص من السجن فقد كانت في وقت لا يمكن له (ع) تحقيق تلك الغاية كمّاً وكيفاً، ومع انتفاء الغاية المذكورة فلا ريب في عدم جدوى الوسيلة الموصلة إليها وهي السجن؛ فلذا كان يطلب الخلاص والنجاة منه، فتدبّر جيّداً ، وللمزيد عن تفاصيل ظروفه (ع) في جميع السجون التي مرّ عليها يمكن مراجعة الجزء الثاني من كتاب حياة الإمام موسى بن جعفر دراسة وتحليل - للشيخ باقر شريف القرشيّ (قدّس سرّه) ففيه النافع المفيد. ختاماً هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق