العدولُ بينَ التّذكيرِ والتّأنيثِ في القرآن

في سورة الزخرف تنفي أن تكون الملائكة إناثا وتضرب في ذلك مثلاً فقالت (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) والسؤال لماذا الضمير المنفصل في الآية (هو) مذكر وليست مؤنثة (هي) مع أنها تتحدث عن النساء...!!!؟. وشكراً لكم)

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : 

معَ أنَّ الأصلَ في الجملةِ الإسميّةِ والفعليّةِ المُطابقةُ بينَ رُكني المُسندِ والمُسندِ إليه مِن حيثُ التّذكيرُ والتّأنيث، إلّا أنَّ العدولَ ومُخالفةَ الأصلِ لا يُحدثُ إضطراباً أو خللاً في القاعدةِ النّحويّةِ العامّةِ، بَل قَد يكونُ ضروريّاً لأغراضٍ بلاغيّةٍ دقيقةٍ، وذلكَ لكونِ الإعجازِ القُرآنيّ كما يكونُ في اللّفظِ يكونُ في المعنى أيضاً، وإختلافُ التّذكيرِ والتّأنيثِ لا يكونُ إلّا لمعنىً بليغٍ لا تُؤدّيهِ المُطابقةُ، ومنَ المُؤكّدِ أنَّ ألفاظَ القرآنِ وإستخداماته هيَ التي يجبُ أن يُقاسَ عليها بقيّةُ الكلامِ وليسَ العكسُ، وعليهِ فإنَّ عدولَ القرآنِ وعدمَ المُطابقةِ في بعضِ المواضعِ أبلغُ في إيصالِ المعنى كما أكّدَه أهلُ الإختصاصِ، فقَد قيلَ مثلاً عَن عدمِ المُطابقةِ بينَ الضّميرِ المُنفصلِ وما يعودُ إليه، كقولِه تعالى: (بَل هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ) فالضّميرُ عائدٌ على القرآنِ الكريمِ، ولو أوردَ القرآنُ الكريمُ إسماً ظاهراً لانتفَت حالةُ المُخالفةِ والعدولِ بينَ رُكنيّ الجملةِ الإسميّةِ، ولكنَّ صيغَ الضّميرِ كإسمِ إشارةٍ مُذكّرٌ حتّى يُحيلَ الذّهنَ إلى أن يستزيدَ في معرفِته ليتدبّرَ حُكمَه ومعانيه. وكذلكَ قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي) حيثُ أشارَ إلى الشّمسِ بهذا وهيَ مُؤنّثٌ، فقالَ الزّمخشريّ: فإن قلتَ: ما وجهُ التّذكيرِ في قولِه: هذا ربّي، والإشارةُ للشّمسِ؟ قلتُ: جعلَ المبتدأ مثلَ الخبرِ؛ لكونِهما عبارةً عَن شيءٍ واحدٍ، كقولِهم: ما جاءَت حاجتُك، ومَن كانَت أمّكَ، وكانَ إختيارُ هذهِ الطّريقةِ واجباً لصيانةِ الرّبِّ عَن شُبهةِ الإناثِ، ألا تراهُم قالوا في صفةِ اللهِ: علامَ ولم يقولوا علامةً، وإن كانَ العلامةُ أبلغ؛ إحترازاً مِن علامةِ التّأنيثِ" (الكشّافُ للزّمخشريّ، ج3، ص 571)، وهكذا تختلفُ الحِكمةُ في سببِ العدولِ مِن موردٍ إلى موردٍ آخر، وهناكَ بحثٌ جميلٌ للدّكتورِ إسماعيل عبدِ الغني تتبّعَ فيهِ بعضَ مواردِ العدولِ بينَ التّذكيرِ والتّأنيثِ يمكنُ مراجعتُه على الرّابطِ التّالي:  

https://dergipark.org.tr/tr/download/article-file/428975 

أمّا بخصوصِ الآيةِ موردِ السّؤالِ (فالذي ينشأُ في الحليةِ) إذا كانَ المقصودُ بها النّساءُ والجواري فحينَها يصحُّ السّؤالُ، لماذا إستخدمَ ضميراً مُنفصلاً مذكّراً؟ ولا يصحُّ السّؤالُ على الرّأي الثّاني الذي يحملُها على أصنامِهم التي صاغوها وحلّوها بالذّهبِ والفضّةِ، ومعَ أنَّ أكثرَ المُفسّرينَ على أنَّ المقصودَ هُم النّساءُ والجواري إلّا أنّهم لم يتطرّقوا إلى موضوعِ الضّميرِ المذكّرِ، والوحيدُ مِن بينِ المُفسّرينَ الذي أشارَ إلى هذا الموضوعِ هوَ إبنُ عاشورَ في تفسيرِه التّحرير والتّنوير في تفسيرِه لهذهِ الآيةِ، حيثُ إكتفى بقولِه: وتذكيرُ ضميرِ (وهوَ في الخِصامِ) مراعاةٌ للفظِ (مَن) الموصولة. 

ويبدو واللهُ أعلم أنَّ الموقفَ يستوجبُ التّذكيرَ حتّى يشملَ الموردُ الرّجالَ بعدَ الفراغِ مِن دخولِ النّساءِ، فمعَ كونِ النّساءِ هنَّ المصداق الأبرز لمَن ينشأُ في الحليةِ إلّا أنَّ ذلكَ لا يمنعُ مِن إشتراكِ الرّجالِ أيضاً، فالمقصودُ هوَ الإهتمامُ بالمظاهرِ والقشورِ وتركِ الجوهرِ والحقيقة.