هل الآياتُ المنسوخةُ معطّلةٌ باعتبارِ ما وردَ عن الأئمّةِ (ع) (أنّ المنسوخَ نؤمنُ به ولا نعملُ به)؟
السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،
النسخُ بحسبِ ما اصطلحَ عليهِ أهلُ العلم، هوَ رفعُ أمرٍ ثابتٍ في الشريعةِ المُقدّسةِ بارتفاعِ أمدِه وزمانِه، سواءٌ أكانَ ذلكَ الأمرُ المُرتفعُ منَ الأحكامِ التكليفيّةِ أم الوضعيّة، وسواءٌ أكانَ منَ المناصبِ الإلهيّة أم مِن غيرِها منَ الأمورِ التي ترجعُ إلى اللهِ تعالى بما أنّهُ شارع. [البيانُ في تفسيرِ القرآن، السيّدُ الخوئي، ص ٢٧٧]. وكما ترى فأهلُ العلمِ يستعملونَ عبارةَ رفعِ أمرٍ أو رفعِ حكمٍ، ولا يستعملونَ عبارةَ تعطيلِ الحُكم، لأنّ الشيءَ المُعطّلَ في بعضِ معانيهِ اللغويّةِ له زمنٌ معيّنٌ منَ التعطيل، فيصبحُ فيما بعد عاملاً غيرَ مُعطّل. وأمّا عبارةُ الرفعِ فليسَ للزمنِ فيها مدخل. واللهُ تعالى أعلم.
ومثالٌ على رفعِ الحُكم ما وردَ في قولِه تعالى: {قَد نَرَى تَقَلُّبَ وَجهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبلَةً تَرضَاهَا فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المَسجِدِ الحَرَامِ وَحَيثُ مَا كُنتُم فَوَلُّوا وُجُوهَكُم شَطرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِم وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعمَلُونَ} [البقرة : 144].
فقد ذهبَ المُفسّرونَ إلى أنّ هذهِ الآيةَ دلّت على أنّ المُسلمينَ كانوا في أوّلِ الأمرِ يصلّونَ باتّجاهِ بيتِ المقدس، فجاءَت هذه الآيةُ لتأمرَهم بتحويلِ القبلةِ باتّجاهِ بيتِ اللهِ الحرام، وهذا معناهُ أنّ الحُكمَ الأوّلَ قد ارتفعَ فلم يعُد له أثرٌ بمجيءِ حُكمٍ آخر. إذ أوردَ الشيخُ الطبرسي في تفسيرِه مجمعِ البيان، (ج ١/ ص ٤١٤) عن عليٍّ بنِ إبراهيم بإسنادِه عن الصّادقِ عليهِ السلام قال : تحوّلت القبلةُ إلى الكعبةِ بعدَما صلّى النبيُّ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم بمكّةَ ثلاثَ عشرةَ سنةً إلى بيتِ المقدس ، وبعدَ مُهاجرتِه إلى المدينة ، صلّى إلى بيتِ المقدسِ سبعةَ أشهر قالَ: ثمَّ وجّهَهُ اللهُ إلى الكعبةِ وذلكَ أنَّ اليهودَ كانوا يعيّرونَ رسولَ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ويقولونَ له : أنتَ تابعٌ لنا ، تصلّي إلى قبلتِنا ! فاغتمَّ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم مِن ذلكَ غمّاً شديداً ، وخرجَ في جوفِ الليلِ ينظرُ إلى آفاقِ السماء ، ينتظرُ منَ اللهِ تعالى في ذلكَ أمراً . فلمّا أصبحَ وحضرَ وقتُ صلاةِ الظهر ، كانَ في مسجدِ بني سالم قد صلّى منَ الظهرِ ركعتين ، فنزلَ عليهِ جبرائيلُ عليهِ السلام فأخذَ بعضديه ، وحوّلَه إلى الكعبةِ ، وأنزلَ عليه : ( قد نرى تقلّبَ وجهِك في السماءِ فلنولينّكَ قبلةً ترضاها فولِّ وجهكَ شطرَ المسجدِ الحرام ) وكانَ صلّى ركعتين إلى بيتِ المقدس ، وركعتينِ إلى الكعبة ، فقالت اليهودُ والسفهاء : ما ولّاهم عن قبلتِهم التي كانوا عليها ؟
قالَ الزجّاج : إنّما أمرَ بالصلاةِ إلى بيتِ المقدس ، لأنَّ مكّةَ بيتُ اللهِ الحرام ، كانَت العربُ آلفةً لحجِّه ، فأحبَّ اللهُ أن يمتحنَ القومَ بغيرِ ما ألفوه ، ليظهرَ مَن يتّبعُ الرسولَ ممّن لا يتّبعُه . وقوله : ( يهدي مَن يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم ) أي : يدلّه ويرشدُه إلى الدين . وإنّما سمّاهُ الصّراط ، لأنّه طريقُ الجنّةِ المؤدّي إليها ، كما يؤدّي الطريقُ إلى المقصد . وقيلَ: طريقُ الجنّة. ودمتُم سالمين.
اترك تعليق