بعد عاشوراء.. هَل كانَ للأئمّةِ (ع) نشاطٌ سياسيٌّ أم أنّهم إكتفوا بالتّبليغِ الدّيني؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
ممّا لا شكَّ فيه أنَّ عاشوراء الحُسين (عليهِ السّلام) حرّكَت الضّمائرَ الحيّةَ ولفتَت إنتباهَ الأمّةِ إلى مظلوميّةِ أهلِ البيتِ وحقِّهم في قيادةِ الدّولةِ الإسلاميّةِ بدلاً منَ الطّلقاءِ الذينَ تسلّلوا إلى مراكز السّلطةِ، والمُتتبّعُ للتّاريخِ الإسلاميّ سوفَ تُفاجئُه كثرةُ الحركاتِ والثّوراتِ التي إنتفضَت على بني أميّةَ وبني العبّاس، والمُلاحظُ أنَّ أكثرَ هذهِ الحركاتِ كانت بقيادةِ العلويّينَ مِن أولادِ الأئمّةِ أو إخوانهم، والحركاتُ التي لم تكُن تحتَ قيادتِهم كانَت بالضّرورةِ ترفعُ شعارَ الرّضا مِن آلِ محمّد، ممّا يؤكّدُ أنّ قضيّةَ أهلِ البيتِ أصبحَت الأساسَ للعملِ السّياسيّ بعدَ عاشوراءِ الحُسين (عليه السّلام)، ولكي نفهمَ الدّورَ السّياسيَّ للأئمّةِ لابُدَّ أن نبحثَ عَن وجودِ رابطٍ بينَ هذهِ الثّوراتِ وبينَ الأئمّةِ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام). ولا يمكنُ الوصولُ إلى تلكَ الرّوابطِ ما لم نقُم بدراسةٍ عميقةٍ لحياةِ كلِّ إمامٍ مِن أئمّةِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) بمُلاحظةِ كلِّ الظّروفِ الإجتماعيّةِ والسّياسيّةِ والثّقافيّةِ للوقوفِ على دورهم المُؤثّر في كلِّ هذه الحقولِ، وبخاصّة أنَّ الظّرفَ الأمنيَّ الذي عاشَهُ الأئمّةُ (عليهم السّلام) جعلَ الكثيرَ مِن أعمالِهم خفيّةً غيرَ ظاهرةٍ للعلنِ، وعليهِ تقييمُ دور أيّ إمامٍ لابدَّ أن يستصحبَ الظّرفَ الأمنيّ والسّياسيّ الذي يفرضُ عليهِ شروطاً خاصّةً لإدارةِ العملِ المعارضِ، ومنَ الواضحِ أنَّ أكثرَ الدّراساتِ التي بحثَت في تاريخِ الأئمّةِ (عليهم السّلام) سعَت إلى الكشفِ عَن أدوارهم الدّينيّةِ والعباديّةِ والفكريّةِ ولم تهتمَّ بالشّكلِ المطلوبِ بأدوارهم السّياسيّة.
فالسّؤالُ الذي يجيبُ عَن علاقةِ المُختار بالإمامِ زينِ العابدين (عليه السّلام)، وبينَ الإمامِ الباقر (عليه السّلام) وأخيهِ الشّهيدِ زيدٍ بنِ عليّ، وبينَ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام) ويحيى بنِ زيدٍ ومحمّدٍ النّفسِ الزّكيّةِ وأخيهِ إبراهيم، هوَ الكفيلُ بالكشفِ عنِ الدّورِ السّياسيّ للأئمّةِ (عليهم السّلام)، ومِن هُنا تكتسبُ هذهِ الأسئلةُ أهمّيّتَها لكونِها تقودُنا إلى المسارِ السّياسيّ للأئمّةِ بعدَ عاشوراء.
وبما أنَّ دراسةً بهذا الشّكلِ تستوجبُ عملاً ضخماً لا يتناسبُ مع هذا المقامِ، سوفَ نعملُ على وضعِ إشاراتٍ عامّةٍ يمكنُ للمُهتمِّ الإنطلاقُ منها لدراسةٍ مُعمّقةٍ لتاريخِ الأئمّةِ (عليهم السّلام).
ويبدو أنَّ التّحوّلَ الكبيرَ الذي حدثَ في الأمّةِ بعدَ إستشهادِ الإمامِ الحُسينِ (عليه السّلام)، تمثّلَ في إستشعارِ الأمّةِ بخطرِ بني أميّةَ على الإسلامِ بعدَ أن كانَ محصوراً في نُخبٍ مُحدّدةٍ، فأصبحَت بذلكَ الثّورةُ مطلباً جماهيريّاً على إمتدادِ السّاحةِ الإسلاميّةِ، الأمرُ الذي فرضَ على الأئمّةِ نمطاً جديداً منَ العملِ يقتضي قيادةَ المجموعاتِ المُخلصةِ وتوجيهِها، وإذا تمكّنّا مِن رسمِ هذهِ الصّورةِ سوفَ يتّضحُ لنا أنَّ الأئمّةَ كانوا على رأسِ الهرمِ يقودونَ الصّفوةَ منَ الفُقهاءِ والزّهّادِ والعبّادِ والمُتكلّمينَ وأصحابِ العلومِ المُختلفةِ، مُضافاً إلى السّياسيّينَ والقياداتِ العسكريّةِ وما أشبهَ، وبالتّالي تصبحُ كلُّ خيوطِ العملِ الثوريّ بأيديهم، وهذهِ هيَ الطّريقةُ الوحيدةُ التي تفرضُها طبيعةُ الظّروفِ في تلكَ الفترةِ التّاريخيّةِ، فالأئمّةُ لم يكُن يستهدفونَ فقَط إحداثَ تغييرٍ سياسيٍّ وإنّما كانوا يسعونَ إلى التّغيير الجذريّ الذي يشملُ كلَّ النّواحي والإتّجاهاتِ ممّا يسمحُ للإسلامِ بالبقاءِ والإستمرار.
ومنَ المُؤكّدِ أنَّ الأئمّةَ كانَت لهُم مسؤوليّاتٌ جسيمةٌ مِن بينِها تغييرُ أنظمةِ الحُكمِ وتحريرُ الشّعوبِ مِن إستعبادِ الأنظمةِ القمعيّةِ، فعلى أقلِّ التّقاديرِ لابُدَّ أن يكونَ لهُم تعاطفٌ معَ الثّوراتِ التي قامَت على تلكَ الأنظمةِ، يقولُ الإمامُ الصّادقُ (عليهِ السّلام): (لا زالَ شيعتي بخيرٍ ما خرجَ الخارجيُّ مِن آلِ محمّدٍ، ولوددتُ أنَّ الخارجيَّ مِن آلِ محمّدٍ خرجَ وعليَّ نفقتُه) (بحارُ الأنوارُ: ج46 ص112)، فليسَ بالضّرورةِ أن يتصدّى الإمامُ بنفسِه لكلِّ عملٍ في السّاحةِ وإنّما مُهمّتُه الكُبرى هوَ كيفَ يديرُ الأمّةَ مِن خلالِ توظيفِ كلِّ الإمكاناتِ المُتاحةِ فيها، مُضافاً إلى تهيئةِ القياداتِ الوسيطةِ التي تباشرُ الأعمالَ الجماهيريّةَ، فوظيفةُ القائدِ الحقيقيّةُ هيَ تحريكُ كلِّ مكوّناتِ الأمّةِ وإعدادِ الكوادرِ المُناسبةِ للقيامِ بالمهامِّ الموكلةِ لها، حيثُ يُعِدُّ بعضَهم للحركاتِ السّرّيّةِ وآخرينَ للحركاتِ العلنيّةِ، والبعضَ الآخرَ يُعدُّه للفقهِ وعلمِ الشّريعةِ أو في الزّهدِ والتّقوى وهكذا، فمثلاً نجدُ الإمامَ السّجّادَ ربّى منَ الفقهاءِ مِن أمثالِ سعيدٍ بنِ جُبير، وسعيدٍ بنِ المسيّبِ، وربّى منَ الثّوارِ إبنَهُ زيداً بنَ عليّ الذي فجّرَ سلسلةً منَ الثّوراتِ حتّى أصبحَ الزّيديّةُ في التّاريخِ اليدَ الضّاربةَ للشّيعةِ والدّرعَ الحاميَ لهُم.
كما لا يخفى وجودُ شواهدَ تؤكّدُ علاقةَ الإمامِ زينِ العابدين (عليهِ السّلام) بثورةِ المُختار الثّقفي، فقَد جاءَ في الخبر (أنَّ زينَ العابدين كانَ يدعو في كلِّ يومٍ أن يريَهُ اللهُ قاتلَ أبيهِ مقتولاً، فلمّا قتلَ المُختارُ قتلةَ الحُسينِ (عليهِ السّلام) بعثَ برأسِ عبيدِ اللهِ بنِ زياد ورأسِ عُمر بنِ سعدٍ معَ رسولٍ مِن قبلِه إلى الإمامِ زينِ العابدينَ (عليه السّلام)، وقالَ لرسولِه: إنّهُ يُصلّي منَ اللّيلِ، وإذا أصبحَ وصلّى صلاةَ الغداةِ هجعَ، ثمَّ يقومُ فيستاكُ ويُؤتى بغدائِه، فإذا أتيتَ بابَه فاسأل عنهُ فإذا قيلَ لكَ إنَّ المائدةَ وُضعَت بينَ يديهِ فاستأذِن عليهِ وضعِ الرّأسينِ على مائدتِه، وقُل له: المُختارُ يقرأ عليكَ السّلامَ ويقولُ لكَ يا بنَ رسولِ الله قد بلّغَكَ اللهُ ثأرَك، ففعلَ الرّسولُ ذلكَ، فلمّا رأى زينُ العابدين (عليه السّلام) الرّأسينِ على مائدتِه، خرَّ ساجِداً وقالَ: الحمدُ للهِ الذي أجابَ دعوتي وبلّغني ثأري مِن قتلِة أبي، ودعا للمُختار وجزّاهُ خيراً) (بحارُ الأنوارِ: ج46 ص53) والخبرُ كما هوَ ظاهرٌ يدلُّ على معرفةِ المُختار بتفاصيلِ حياةِ الإمامِ (عليه السّلام) ممّا يُؤكّدُ وجودَ روابطَ وثيقةٍ تربطه بالإمامِ (عليهِ السّلام).
ويبدو أنَّ الإمامَ السّجّادَ (عليه السّلام) هوَ مَن أمرَ المُختارَ أن تكونَ علاقتُه بمُحمّدٍ بنِ الحنفيّةِ فيما يخصُّ مُجرياتِ الثّورةِ، ففي الخبرِ قالَ جعفر بنُ نما: فقَد رويتُ عَن والدي رحمةُ اللهِ عليهِ أنَّ محمّداً بنَ الحنفيّةِ لمّا جاءَت إليهِ جماعةٌ مِن كبارِ الشّيعةِ منَ الكوفةِ مِن رؤساءِ القبائلِ، وكانوا قَد جاءوا إليهِ ليسألوهُ في أمرِ وشأنِ المُختار الذي بدأ يدعو للثّأر منَ الأمويّينَ وإلى الرّضا مِن آلِ محمّدٍ في الكوفة. وقَد قالوا: إنَّ المُختار يريدُ الخروجَ بنا للأخذِ بالثّأرِ وقد بايعناهُ، ولا نعلمُ أرسلَه إلينا محمّدٌ بنُ الحنفيّةِ أم لا؟ فجاءوا إلى محمّدٍ بنِ الحنفيّةِ، فبدأ عبدُ الرّحمنِ بنِ شُريحٍ بحمدِ اللهِ والثّناءِ عليه، وقالَ: أمّا بعدُ فإنّكُم أهل البيتِ خصّكُم اللهُ بالفضيلةِ وشرّفَكُم بالنّبوّةِ، وعظّمَ حقّكُم على هذهِ الأمّةِ، وقد أُصِبتُم بـ(الحُسينِ عليهِ السّلام) مصيبةً عمّت المسلمينَ، وقد قدمَ المُختارُ يزعمُ أنّهُ جاءَ مِن قِبلِكم وقد دعانا إلى كتابِ اللهِ وسُنّةِ نبيّه، والطّلبِ بدماءِ أهلِ البيتِ، فبايعناهُ على ذلكَ فإن أمرتَنا بإتّباعِه إتبعناهُ، وإن نهيتَنا إجتنبناهُ - هُنا يقولُ جعفر بنُ نما عَن والدِه - أنَّ محمّداً بنَ الحنفيّةَ قالَ لهُم: قوموا بنا إلى إمامي وإمامِكم عليٍّ بنِ الحُسين (عليه السّلام)، فلمّا دخلَ ودخلوا عليهِ أخبرَ محمّداً خبرَهم الذي جاءوا لأجلِه، فقالَ الإمامُ عليٌّ بنُ الحسينِ (عليه السّلام): يا عمِّ لو أنّ عبداً زنجيّاً تعصّبَ لنا أهلَ البيتِ، لوجبَ على النّاسِ مؤازرتُه، وقد وليّتُكَ هذا الأمرَ، فاصنَع ما شئتَ، فخرجوا وقد سمعُوا كلامَه وهُم يقولونَ: أذنَ لنا زينُ العابدين ومحمّدٌ بنُ الحنفيّة.
وكانَ المختارُ قد علمَ بخروجِهم إلى محمّدٍ بنِ الحنفيّةِ وقد كانَ يريدُ النّهوضَ بجماعةِ الرّسالةِ قبلَ قدومِهم، فلمّا تهيّأ ذلكَ له، وكانَ يقول: إنَّ نفيراً منكُم تحيّروا وارتابوا، فإن هُم أصابوا أقبلوا منكُم تحيّروا وأنابوا، وإن هُم كبّوا وهابوا واعترضوا وإنجابوا فقَد خسروا وخابوا، فدخلَ القادمونَ مِن عندِ محمّدٍ بنِ الحنفيّةِ فقالَ: ما وراءَكم فقَد فُتنتُم وإرتبتُم؟ فقالوا: قَد أمرنا بنُصرتِك، فقالَ: يا معشرَ الرّسالةِ إنَّ نفراً أحبّوا أن يعلموا مصداقَ ما جئتُ بهِ فخرجوا إلى إمامِ الهُدى والنّجيبِ المُرتضى وإبنِ المُصطفى المُجتبى - يعني الإمامَ زينَ العابدين فعرّفَهم أنّي ظهيرُه ورسوله، وأمرَكُم باتّباعي وطاعتي، وقالَ كلاماً يُرغّبُهم إلى الطّاعةِ والإستنفار معه وأن يُعلمَ الحاضرُ الغائبَ) (بحارُ الأنوار: ج45 ص363)
بذلكَ يتّضحُ أنَّ الأئمّةَ (عليهم السّلام) كانوا يقودونَ الثّوراتِ ضدَّ الأنظمةِ ومِن دونِ أن يتورّطوا في قيادتِها بشكلٍ مُباشرٍ؛ وذلكَ لكونِهم يقودونَ عملاً آخرَ ثقافيّاً وفكريّاً وإجتماعيّاً وعلميّاً، فتصدّيهم المباشرُ للعملِ السّياسيّ يفسدُ أعمالَهم الأخرى، فالثّورةُ تواجهُ إحتمالاتِ الفشلِ فإذا ربطَ الإمامُ نفسَه بشكلٍ مُباشرٍ معَ هذهِ الثّوراتِ يكونُ عرّضَ كلَّ مشروعِه للخطرِ، فالمناسبُ أن يكونَ الإمامُ في الموقعِ الذي يمكّنُه من تغذيةِ المشروعِ الإسلاميّ بكلِّ إتّجاهاتِه.
وكذلكَ يُبيّنُ لنا التّاريخُ الكثيرَ منَ الشّواهدِ التي تثبتُ علاقةَ زيدٍ الشّهيدِ وثورته العظيمةَ بالإمامِ الباقرِ والإمامِ الصّادقِ (عليهم السّلام) حيثُ قالَ الإمامُ الصّادقُ في حقِّه: (رحمَ اللهُ عمّي زيداً، لو ظفرَ لوفى، إنّما دعا إلى الرّضا مِن آلِ محمّدٍ وأنا الرّضا) (بحارُ الأنوار: ج46 ص200) ممّا يؤكّدُ أنَّ زيداً لم يكُن يطمعُ في الإمامةِ لنفسِه وإنّما كانَ يعملُ ليُمهّدَ لإمامةِ الإمامِ الشّرعيّ، والذي يدلُّ على ذلكَ ما جاءَ في الخبرِ عَن محمّدٍ بنِ مُسلم قالَ: دخلتُ على زيدٍ بنِ عليّ (عليه السّلام) فقلتُ: إنَّ قوماً يزعمونَ أنّكَ صاحبُ هذا الأمر قالَ: لا ولكنّي منَ العترةِ، قلتُ: فمَن يلي هذا الأمرَ بعدَكم؟ قالَ: سبعةٌ منَ الخُلفاءِ والمهديُّ منهُم.
قالَ إبنُ مُسلمٍ: ثمَّ دخلتُ على الباقر (عليه السّلام) فأخبرتُه بذلكَ، فقالَ: صدقَ أخي زيدٌ صدقَ أخي زيد، سَيلي هذا الأمرَ بعدي سبعةٌ منَ الأوصياءِ، والمهديُّ منهُم ثمَّ بكى (عليه السّلام) وقالَ: كأنّي بهِ وقد صُلبَ في الكُناسةِ يا بنَ مُسلم، حدّثني أبي عَن أبيهِ الحُسينِ قالَ: وضعَ رسولُ اللهِ )صلّى اللهُ عليهِ وآله) يدَه على كتفي، وقالَ: يا حسينُ يخرجُ مِن صُلبِك رجلٌ يقالُ لهُ زيدٌ يُقتلُ مظلوماً إذا كانَ يومُ القيامةِ حُشرَ وأصحابُه إلى الجنّةِ) (بحارُ الأنوارِ ج46 ص200). ورويَ عَن عمرو بنِ خالدٍ قالَ: قالَ زيدٌ بنُ عليٍّ بنِ الحُسينِ بنِ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ (عليه السّلام) في كلِّ زمانٍ رجلٌ منّا أهلَ البيتِ يحتجُّ اللهُ بهِ على خلقِه وحُجّةُ زمانِنا إبنُ أخي جعفرٌ بنُ محمّدٍ لا يضلُّ مَن تبعَه ولا يهتدي مَن خالفَه) (أمالي الصّدوقِ ص542). فكيفَ بعد ذلكَ نفهمُ تحرّكاتِ زيدٍ السّياسيّةَ بعيداً عَن إشرافِ الإمامِ الصّادقِ الذي يعترفُ زيدٌ بكونِه الإمامَ الشّرعيَّ الذي يجبُ إتّباعُه ولا يجوزُ مُخالفتُه؟ وقد شهدَ الإمامُ الرّضا (عليه السّلام) بإخلاصِ زيدٍ لإمامِ زمانِه عندَما سألَهُ المأمونُ عَن زيدٍ بنِ عليّ، فقالَ: (لقد حدّثني أبي موسى بنُ جعفرٍ (عليهِ السّلام) أنّهُ سمعَ أباهُ جعفراً بنَ محمّدٍ (عليهِ السّلام) يقولُ: رحمَ اللهُ عمّي زيداً إنّه دعا إلى الرّضا مِن آلِ محمّدٍ، ولو ظفرَ لوفى بما دعا إليهِ، وقد إستشارَني في خروجِه، فقلتُ له: يا عمِّ إن رضيتَ أن تكونَ المقتولَ المصلوبَ بالكُناسةِ فشأنُك. فلمّا ولّى قالَ جعفرٌ بنُ محمّدٍ (عليه السّلام): ويلٌ لمَن سمعَ واعيتَه فلَم يُجِبه، فقالَ المأمونُ: يا أبا الحسنِ أليسَ قد جاءَ فيمَن إدّعى الإمامةَ بغيرِ حقِّها ما جاء؟! فقالَ الرّضا (عليه السّلام): (إنَّ زيداً بنَ عليٍّ (عليه السّلام) لم يدَّعِ ما ليسَ لهُ بحقٍّ، وإنّهُ كانَ أتقى للهِ مِن ذاكَ، إنّهُ قالَ: أدعوكُم إلى الرّضا مِن آلِ محمّدٍ، وإنّما جاءَ ما جاءَ فيمَن يدّعي أنَّ اللهَ نصَّ عليهِ، ثمَّ يدعو إلى غيرِ دينِ اللهِ ويضلُّ عَن سبيلِه بغيرِ علمٍ، وكانَ زيدٌ واللهِ ممَّن خُوطبَ بهذهِ الآيةِ: {جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتَبَاكُم}) (عيونُ أخبارِ الرّضا، ج1 ص248)، وقد نعاهُ الإمامُ الصّادقُ عليه السّلام بأعظمِ الكلماتِ عندَما جاءَهُ خبرُ إستشهادِه حيثُ قالَ: (إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعونَ، عندَ اللهِ أحتسبُ عمّي إنّهُ كانَ نِعمَ العمِّ، إنَّ عمّي كانَ لدُنيانا وآخرتِنا مضى واللهِ عمّي شهيداً كشهداءَ إستشهدوا معَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وعليٍّ والحسنِ والحُسينِ صلواتُ الله عليهم) (عيونُ أخبارِ الرّضا، ج1 ص 252) كلُّ ذلكَ يدلُّ على أنَّ الإمامَ الصّادقَ (عليه السّلام) كانَ مُتابعاً بشكلٍ مُباشرٍ لمُجرياتِ ثورةِ زيدٍ، كما تدلُّ أيضاً أنَّ زيداً لم يكُن يتصرّفُ بعيداً عَن إشرافِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام)، وعليهِ إنَّ قيامَ مثلِ هذهِ الثّوراتِ يُمثّلُ ضرورةً لزعزعةِ نظامِ الحُكمِ أوّلاً، وثانياً يُمكّنُ الإمامَ منَ القيامِ بأدواره الأخرى، فالعملُ الثّوريُّ كانَ يُشكّلُ الدّرعَ الذي يُحصّنُ عملَ الأئمّةِ، ولولا تلكَ الجهودِ التي قامَ بها أئمّةُ أهلِ البيتِ لما بقيَ منَ الإسلامِ باقيةٌ. ولِذا لم تتوقّفِ الثّوراتُ بإستشهادِ زيدٍ، حيثُ تجدّدَت الثّورةُ على يدِ يحيى بنِ زيدٍ، حيثُ ذهبَ إلى المدائنِ ومِن ثمَّ إلى خرسانَ وقامَ بالإتّصالِ بقياداتِ الشّيعةِ هُناك، وبقيَ حوالي أربعِ سنواتٍ يبثُّ دعوتَه ويحشدُ الأنصارَ لثورتِه، ثمَّ حاربَ بمجموعةٍ مِن شيعتِه واليَ بني أميّةَ فهزمَ جيشَ الوالي الأمويّ أوّلَ مرّةٍ، وفي المرّةِ الثانيةِ إنهزمَ جيشُ يحيى وجاءَه سهمٌ أصابَ منهُ مقتلاً فأخذَهُ الوالي وصلبَه على بابِ مدينةِ جوزجان في إيران، ثمَّ بعثَ رأسَه إلى الخليفةِ في الشّام الوليدِ بنِ يزيدٍ بنِ عبدِ الملك.
وقد يتساءلُ البعضُ عن جدوى هذهِ الثّوراتِ التي يُقضى عليها في المهدِ، ويغفلُ عنِ التّأثيرِ الذي تُحدثُه في الأمّةِ، فمثلاً عندَ إستشهادِ يحيى بنِ يزيدٍ في بلادِ فارس التي كانَ يحملُ همومَها ويدافعُ عَن حقوقِ الموالي المهضومةِ، أوجدَ بتلكَ الشّهادةِ المُباركةِ زخماً ثوريّاً وأحيى آلافَ النّفوسِ الميتةِ، فالسّلسلةُ التي قُيّدَ بها يحيى إشتُريَت بمبالغَ كبيرةٍ وتحوّلَت إلى ختمٍ في أيدي الثّائرينَ، ولم يُولَد في مُقاطعةِ خراسانَ وأفغانستان وأذربيجان وأرمينيا وبان كوبا، وبُخارى وسمرقند مولودٌ في تلكَ السّنةِ التي قُتلَ فيها يحيى إلاّ سُمّيَ يحيى أو زيد، ثمَّ قامَ الفُرسُ بقيادةِ أبي مسلمٍ الخرسانيّ يدعونَ النّاسَ للثّورةِ باسمِ يحيى بنِ زيدٍ، حتّى إنتصروا على بني أميّةَ وأزيلت دولتُهم منَ الوجودِ، تلكَ الدّولةُ التي كانَت رمزاً للفسادِ والجريمةِ والكُفرِ والشّركِ إنتهَت بمقتلِ يحيى. فقَد جاءَ في ثوابِ الأعمالِ وعقابِها عَن محمّدٍ الحلبيّ قالَ: قال أبو عبدِ اللهِ (عليهِ السّلام) :(إنَّ آلَ أبي سُفيان قتلوا الإمامَ الحُسينَ بنَ عليٍّ (صلواتُ اللهِ عليه) فنزعَ اللهُ مُلكَهُم، وقتلَ هشامٌ زيداً بنَ عليٍّ فنزعَ اللهُ مُلكَه وقتلَ الوليدُ يحيى بنَ زيدٍ رحمةُ اللهِ عليه فنزعَ اللهُ مُلكَه).
وهكذا تواصلَت ثوراتُ العلويّينَ في زمنِ الدّولةِ العبّاسيّةِ، ولو تتبّعنا الشّواهدَ التّاريخيّةَ فإنّها لا تخلو مِن رِضا الأئمّةِ مِن هذهِ الثّوراتِ، كما تكشفُ عنِ الرّوحِ الإيمانيّةِ والثوريّةِ التي أرادَ أئمّةُ أهلِ البيتِ إذكاءها في الأمّةِ، والمُتابعُ للتّاريخِ الشّيعيّ يكتشفُ أنّهم كانوا يُمثّلونَ خطَّ المُعارضةِ لكلِّ الأنظمةِ الجائرةِ، وما زالَت هذهِ الصّفةُ تُلازمُهم جيلاً بعدَ جيلٍ إلى اليوم، ممّا يُؤكّدُ أنَّ الأئمّةَ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) هُم الذينَ ربّوا شيعتَهم على الرّفضِ والتّمرّدِ على كلِّ باطلٍ، وما كانَ هذا ليحصلَ لو كانَ الأئمّةُ مُنعزلينَ عنِ الحياةِ السّياسيّةِ للأمّة.
اترك تعليق