رواية تقول :( إن كان من يفسّر القرآن برأيه فهو في جهنم) اذا على ماذا اعتمد المفسرون في تفاسيرهم؟ وما المنهج الذي اتّخذوه في تحليلهم للنصوص القرآنية؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
الرّواياتُ التي نهَت عنِ التّفسيرِ بالرّأي كثيرةٌ، منها ما رواهُ الصّدوقُ عن رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) في حديثٍ قُدسيٍّ أنّه قالَ: (ما آمنَ بي مَن فسّرَ برأيه كلامي) (الأماليّ للصّدوقِ ص 6)، وروى أبو النّضرِ محمّدٌ بنُ مسعودٍ العيّاشي بإسنادِه عنِ الإمامِ الصّادقِ (عليه السّلام) قالَ: (مَن فسّرَ القرآنَ برأيه فأصابَ لم يُؤجَر، وإن أخطأ كانَ إثمُه عليه، وفي روايةٍ أخرى: وإن أخطأ فهوَ أبعدُ منَ السّماء)( مُقدّمةُ تفسيرِ العيّاشي، ج1، ص 17)، والنّصوصُ كثيرةٌ التي تؤكّدُ أنَّ مَن قالَ في القرآنِ بغيرِ علمٍ فليتبوأ مقعدَه منَ النّار، وعليه لا شبهةَ ولا إشكالَ في حُرمةِ تفسيرِ القرآنِ بالرّأي، إلّا أنَّ ذلكَ لا يعني أنَّ العقلَ الإنسانيَّ غيرُ قادرٍ على فهمِ القرآنِ أو أنَّ فهمَه للقرآنِ مُحرّمٌ ومرفوضٌ، إذ كيفَ نحملُ الرّواياتِ على ذلكَ المعنى والقرآنُ هو الذي يدعو إلى التّعقّلِ والتّدبّرِ في آياتِه؟ قالَ تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَم عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا)، ومِن هُنا لابدَّ منَ التّفريقِ بينَ أمرينِ الأوّلُ: حملُ معاني القرآنِ على ما ينسجمُ معَ رغباتِ النّفسِ وتمنّياتها، ويسمّى ذلكَ في الإصطلاحِ القرآنيّ بالظّنِّ الذي لا يُغني عنِ الحقِّ شيئاً، والثّاني: فهمُ القرآنِ بما ينسجمُ معَ الضّوابطِ العقليّةِ وما تعاهدَ عليهِ العقلاءُ، الذي جعلَهُ القرآنُ حجّةً بينَ اللهِ وعبادِه.
ولغموضِ الحدودِ الفاصلةِ بينَ الأفكارِ النّابعةِ منَ الذّاتِ وبينَ الأفكارِ النّابعةِ منَ العقلِ، نرى منَ الضّروريّ الوقوفَ عند هذا الأمرِ مِن خلالِ آياتِ القرآنِ الكريم.
فإذا حملنا الأحاديثَ التي نهَت عنِ التّفسيرِ بالرّأي على الظّنّ، حينَها يكونُ النّهيُ واضحاً ومُبرّراً؛ وذلكَ لأنَّ القرآنَ نهى بنفسِه عنِ الظّنِّ في كثيرٍ منَ الآياتِ، فالإنسانُ في الحقيقةِ والواقعِ كائنٌ مُركّبٌ تتنازعُه قوّتانِ إحداهما تُمثّلُ جانبَ الكمالِ، والأخرى تُمثّلُ جانبَ الضّعفِ، فالأولى: هيَ العلمُ والعقلُ، والثّانيةُ: هيَ النّفسُ والأهواءُ والشّهواتُ، ولكلِّ واحدةٍ مِن هاتينِ القوّتينِ أدواتُها وطريقتُها الخاصّةُ في إنتاجِ الأفكارِ وترتيبِ الأولويّاتِ، ومنَ الخطأ الإعتقادُ بأنَّ العقلَ هوَ المسؤولُ الوحيدُ عَن فكرِ الإنسانِ ومعارفِه، وإنّما النّفسُ أيضاً لها أفكارُها ومعارفُها، بل يمكنُنا أن نقولَ إنَّ النّفسَ قد تكونُ أكثرَ هيمنةً على أفكارِ الإنسانِ ومعارفِه منَ العقلِ والعلمِ، فالإنسانُ في العادةِ يُرتّبُ أفكارَه ويختارُ قناعاتِه بالشّكلِ الذي تنسجمُ فيهِ معَ مصالحِه الذّاتيّةِ، وفي المُحصّلةِ هناكَ قوّتانِ تتنازعانِ أفكارَ الإنسانِ تُمثّلُ الأولى العلمَ والحقَّ، وتُمثّلُ الثّانيةُ الظّنَّ والباطلَ، قالَ تعالى: (إِنَّا هَدَينَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). وبما أنَّ الإسلامَ نظامٌ منَ المعارفِ والأفكار، كذلكَ الكفرُ أيضاً نظامٌ منَ المعارفِ والأفكارِ، والفرقُ بينَهُما أنَّ الأوّلَ نابعٌ منَ الحقِّ والهُدى، والثّاني نابعٌ منَ الباطلِ والضّلالِ، وفلسفةُ القرآنِ قائمةٌ على التّمييزِ بينَ الإتّجاهينِ والتّأكيدِ على خيارِ الحقِّ ونبذِ خيارِ الباطلِ، وفي المُقابلِ هناكَ الشّيطانُ الذي يُحرّكُ الغرائزَ ويزيّنُ الشّهوات.
ومعَ أنَّ الحقَّ والباطلَ بينَهما تباينٌ كبيرٌ، إلّا أنّهما يختلطانِ كثيراً عندَ الإنسانِ بحيثُ يصعبُ عليهِ التّمييزُ بينَهما، ولذا منَ الضّروريّ إيجادُ معيارٍ لتحقيقِ هذا التّمايز. وقد أشارَ القرآنُ إلى معيارينِ أحدُهما عامٌّ يُمثّلُ مشتركاً بينَ جميعِ البشر، والثّاني خاصٌّ يُمثّلُ الموقفَ الشّخصيَّ لكلِّ إنسان. أمّا الأوّلُ: فهوَ محاكمةُ الفكرةِ علميّاً وذلكَ مِن خلالِ الكشفِ عَن مصدرها وأدلّتِها والطّرقِ المُوصلةِ لها. أمّا الثّاني: فهوَ المسؤوليّةُ الفرديّةُ والشّعورُ الدّاخليُّ لكلِّ إنسان.
فيما يخصُّ المعيارَ العامَّ قالَ تعالى: (وَقَالُوا لَن يَدخُلَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَو نَصَارَىٰ تِلكَ أَمَانِيُّهُم قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ) أي أنَّ هناكَ فكرةٌ قائلةٌ بأنَّ الجنّةَ لا يدخلها إلّا يهوديٌّ أو نصرانيٌّ، وعليهِ كيفَ يمكنُ أن نكشفَ عَن مدى صحّةِ هذهِ الفكرةِ؟ وهَل هيَ نابعةٌ منَ العلمِ والعقلِ أم نابعةٌ مِن هوى النّفس؟ المعيارُ الذي طرحَتهُ الآيةُ هوَ المطالبةُ بالبُرهانِ على هذهِ الفكرةِ (قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، والبرهانُ هوَ الدّليلُ الذي يجعلُ الإنسانَ مُسلِّماً بمطابقةِ الفكرةِ للواقعِ، فإذا تحصّلَ البُرهانُ علِمنا أنَّ الفكرةَ نابعةٌ منَ العلمِ وليسَ الهوى. وفي هذهِ الآيةِ نجدُ أنّها حدّدَت مصدرَ الفكرةِ بوضوحٍ عندَما قالَت (تِلكَ أَمَانِيُّهُم) أي أنّها مُجرّدُ تمنّياتٍ ورغبةٍ نفسيّةٍ.
وقد فصّلَت آياتٌ أخرى مشكلةَ التّمنّي في توليدِ قناعاتِ الإنسانِ، وكيفَ ميّزَ اللهُ بينَ الأفكار النّابعةِ منَ الحقِّ وبينَ الأفكار النّابعةِ منَ الأمنياتِ، قالَ تعالى: (وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلقَى الشَّيطَانُ فِي أُمنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلقِي الشَّيطَانُ ثُمَّ يُحكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِّيَجعَلَ مَا يُلقِي الشَّيطَانُ فِتنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخبِتَ لَهُ قُلُوبُهُم وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِريَةٍ مِّنهُ حَتَّىٰ تَأتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغتَةً أَو يَأتِيَهُم عَذَابُ يَومٍ عَقِيمٍ). تحدّثتِ الآيةُ الأولى عَن دورِ الشّيطانِ وكيفَ يُلقي وساوسَه في أمنياتِ البشرِ، ولا ينجو مِن ذلكَ إلّا مَن عصمَهُ اللهُ، ولذا نجدُ أنَّ اللهَ ينسخُ ما يلقيهِ الشّيطانُ للرّسولِ ثمَّ يحكمُ آياتِه، وبعدَ ذلكَ تتحدّثُ الآيةُ الثّانيةُ عَن إستقلالِ الشّيطانِ للقلوبِ المريضةِ التّابعةِ للهوى، وكيفَ أنّهُ يُزيّنُ لها الأفكارَ الضّالّةَ ليفتنَهُم ويُضلّهُم عنِ الهُدى، ثمَّ تنتقلُ الآيةُ الثّالثةُ لتتحدّثَ عنِ العلمِ وذلكَ مِن أجلِ التّمييزِ بينَه وبينَ أفكارِ النّفسِ ووساوسِ الشّيطانِ، فتتحدّثُ عنِ الذينَ أوتوا العلمَ كيفَ أنّهم يعلمونَ أنّهُ الحقُّ مِن ربِّهم، وكيفَ تُسلِمُ قلوبَهم له، (فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخبِتَ لَهُ قُلُوبُهُم)، حيثُ لا يمكنُ للإنسانِ أن يستغني عَن هدايةِ اللهِ لمعرفةِ الحقِّ لأنّه هوَ الذي يهدي إلى الصّراطِ المُستقيم، ثمَّ تعودُ الآيةُ الرّابعةُ مِن جديدٍ لتُبيّنَ الحالةَ النّفسيّةَ التي تصيبُ مَن إتّبعَ هوى النّفسِ ورفضَ الإقرارَ بالحقِّ (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِريَةٍ مِّنهُ) ولا سبيلَ لكشفِ السّتارِ عَن قلوبِهم إلّا بأن تأتيهم السّاعةُ بغتةً أو يأتيهم عذابُ يومٍ عقيم.
والنّتيجةُ المُتحصّلةُ مِن هذهِ الآياتِ هوَ أنَّ الأمنياتِ وما تهواهُ النّفسُ هو مصدرُ كلِّ الأفكار والمُعتقداتِ الضّالّةِ، والمعيارُ الذي وضعتهُ الآياتُ للتّمييزِ بينَ أفكارِ النّفسِ وأفكارِ العقلِ هوَ البرهانُ. وهناكَ آياتٌ أخرى جعلَت البرهانَ هوَ المعيارَ العامَّ للتّمييزِ بينَ الأفكارِ، مثلَ قولِه تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم هَٰذَا ذِكرُ مَن مَّعِيَ وَذِكرُ مَن قَبلِي بَل أَكثَرُهُم لَا يَعلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعرِضُونَ)، وقالَ تعالى: (وَمَن يَدعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفلِحُ الكَافِرُونَ). وقالَ تعالى: (أَمَّن يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، وقالَ تعالى: (وَنَزَعنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلنَا هَاتُوا بُرهَانَكُم فَعَلِمُوا أَنَّ الحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنهُم مَّا كَانُوا يَفتَرُونَ)، وعليهِ أيُّ تفسيرٍ للقرآنِ وأيُّ أفكارٍ يتمُّ إستنباطُها منَ الآياتِ ما لم يكُن عليها برهانٌ تعدُّ تفسيراً بالرّأي، والبرهانُ هُنا هوَ أن تكونَ الفكرةُ مسنودةً بدلالةِ العقلِ وبالرّواياتِ وبكلِّ القرائنِ المُعترفِ بها عندَ العقلاء، فالموقفُ الشّخصيُّ القائمُ على حبِّ الفكرةِ سواءٌ أنّها تنسجمُ معَ قناعاتِه الخاصّةِ أو أنّها تُوفّرُ له حمايةً مُجتمعيّةً أو أنّها قائمةٌ على التّقليدِ الأعمى للآباءِ أو غير ذلكَ منَ الأفكار غير المُبرّرةِ علميّاً لا تعدُّ حجّةً ولا يجوزُ التّمسّكُ بها.
أمّا ما يخصُّ معيارَ الضّمير فالمقصودُ بهِ هوَ شهادة ُالإنسان على نفسِه وإقرارُه بالحقِّ في عُمقِ وجدانِه، فمهما تحايلَ الإنسانُ على الآخرينَ لا يمكنُه التّحايلُ على ما تسرُّ بهِ نفسُه (بَلِ الإِنسَانُ عَلَىٰ نَفسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَو أَلقَىٰ مَعَاذِيرَهُ)، وعليهِ فإنَّ المعارفَ والأفكارَ والمُعتقداتِ هيَ مسؤوليّةٌ فرديّةٌ قبلَ أن تكونَ مسؤوليّةَ أمّةٍ ومجتمعاتٍ، وقد أشارَت الكثيرُ منَ الآياتِ لعلمِ الإنسانِ بالحقِّ في قرارةِ نفسِه معَ ذلكَ فضّلَ الباطلَ لهوىً في نفسِه، قالَ تعالى: (يا أَهلَ الكِتَابِ لِمَ تَلبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُم تَعلَمُونَ)، أي يعلمونَ بالحقِّ إلّا أنّهم يكتمونَه ويلبسونَه بالباطلِ لهوىً في أنفسِهم.
وقالَ تعالى: (وَلَا تَلبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُم تَعلَمُونَ)، وقالَ تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُم ظُلمًا وَعُلُوًّا فَانظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفسِدِينَ)، وغيرُ ذلكَ منَ الآياتِ الكاشفةِ عَن محكمةِ الضّمير عندَ كلّ إنسان، حيثُ تجعله مسؤولاً عنِ الحقِّ الذي يراهُ في قرارةِ نفسِه، وقد فصّلَت لنا آياتٌ أخرى سببَ ميلِ الإنسانِ إلى الباطلِ معَ علمِه بالحقِّ، وقد أرجعَت كلَّ ذلكَ إلى هوى النّفسِ، قالَ تعالى: (لَقَد أَخَذنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسرَائِيلَ وَأَرسَلنَا إليهِم رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُم رَسُولٌ بِمَا لَا تَهوَىٰ أَنفُسُهُم فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقتُلُونَ).
وبعدَ هذهِ المُقدّمةِ يمكنُنا أن نقولَ أنَّ الأفكارَ الصّادرةَ منَ النّفسِ والتّمنّياتِ تُسمّى في المُصطلحِ القُرآنيّ بالظّنون، ومهما بلغَت النّفسُ منَ الدّقةِ في تحديدِ ما يخدمُ هواها لا يصبحُ علماً؛ لأنّه مجرّدُ إندفاعٍ نفسيّ تُحرّكُه الأهواءُ والتّمنّيّات، قالَ تعالى: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأَنفُسُ وَلَقَد جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ أَم لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ). وقد ربطَت هذهِ الآيةُ بينَ الظّنِّ وما تهوى الأنفسُ، حيثُ يبدو أنَّ الواوَ هُنا تفسيريّة، أي أنَّ الظّنَّ هوَ ما تهوى الأنفسُ وليسَ شيئاً آخرَ غيرَ هوى النّفسِ، ثمَّ تأتي الآيةُ التي تليها لتربطَ كلَّ ذلكَ بالتّمنّي (أَم لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ) لتؤكّدَ ما قلناهُ مِن مسؤوليّةِ التّمنّي في إنتاجِ الظّنون. وتتفاوتُ هذهِ الظّنونُ في قربِها أو بعدِها عن الحقِّ، فقد تهوى النّفسُ أحياناً الحقَّ لا لكونِه حقّاً وإنّما لكونِه يُحقّقُ مصلحةً لها، وفي هذهِ الحالةِ يكونُ الظّنُّ مُطابِقاً للواقعِ، ومعَ ذلكَ لا يُعدُّ عِلماً؛ لأنَّ مصدرَهُ الأهواءُ وما تتمنّاهُ النّفس.
وقد أبدى القُرآنُ إهتماماً واضِحاً بالظّنِّ وما يمكنُ أن يُسبّبَه مِن خطرٍ على مسيرةِ الإنسانِ المُؤمنِ، فقد وردَت مادّةُ (ظنّ) في ستّينَ موضعاً منَ القُرآنِ، جاءت مُعظمُها على سبيلِ القدحِ والذّمّ، قوله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُم إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفعَلُونَ). فإذا كانَ الظّنّ لا يُغني عنِ الحقِّ شيئاً، فكيفَ يمكنُ أن يصبحَ الظّنُّ قسيماً للعلمِ أو درجةً مِن درجاتِه؟ بَل نجدُ في آياتٍ أخرى جعلَ اللهُ فيها الظّنّ على نقيضِ العلمِ، مثلَ قولِه تعالى: (وَمَا لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئًا) حيثُ نفى عنهُم العلمَ ثمَّ أثبتَ لهم الظّنَّ ممّا يعني أنَّ الظّنَّ في مقابلِ العلم، وعدمِ إجتماعِ الظّنِّ معَ العلمِ لكونِ كلّ واحدٍ منهُما لهُ مصدرٌ يختلفُ عنِ الآخر، والظّنونُ في منطقِ القرآنِ ليسَت إلّا تخرّصاتٍ نفسيّةً لا علاقةَ لها بالعلمِ أو بالعقلِ، قالَ تعالى: (وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلَّا يَخرُصُونَ)
وعليهِ فإنَّ النّفسَ هيَ المسؤولةُ عنِ الظّنونِ بما فيها مِن أهواء وشهواتٍ ورغباتٍ، والذينَ يتّبعونَ الظّنَّ هُم الذينَ يتبعونَ أهواءَ النّفس، قالَ تعالى: (فَإِن لَم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعلَم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهوَاءَهُم وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهدِي القَومَ الظَّالِمِينَ) فقَد نصَّت هذهِ الآيةُ على أنَّ عدمَ إستجابتِهم للرّسولِ كانَت بسببِ إتّباعِ الهوى، وفي نفسِ الوقتِ نصَّت آياتٌ أخرى على أنَّ عدمَ الإستجابةِ كانَ بسببِ إتّباعِ الظّنّ، قالَ تعالى: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلَّا يَخرُصُونَ)، فالظّنُّ هوَ ما تهوى الأنفسُ وليسَ شيئاً آخر غيرَه، وعليهِ فإنَّ تفسيرَ القُرآنِ بالرّأي يعني تفسيرَه بالظّنون القائمةِ على هوى النّفسِ وتمنّياتِها، وهذا خلافُ تفسيرِه القائمِ على الإستعانةِ بضروراتِ العقلِ والعلمِ وبحسبِ الظّهور العقلانيّ مِن دونِ إهمالٍ لرواياتِ المعصومينَ التي تُحدّدُ الإطارَ الذي يتحرّكُ فيهِ عملُ المُفسّر.
يقولُ الشّيخُ السّبحانيّ: (ثمَّ إنَّ المحظورَ هوَ التّفسيرُ بالرّأي على ما عرفتَ، وأمّا السّعيُ وبذلُ الجُهدِ في فهمِ مقاصدِ الآياتِ ومراميها بالطّرقِ المألوفةِ بينَ العلماءِ خلفاً عن سلف، فليسَ بمحظورٍ، بَل هوَ ممدوحٌ، بَل لا محيصَ عنهُ في فهمِ القرآنِ الكريمِ؛ فإنَّ ما يهتدي إليهِ المُفسّرُ بعدَ التّفكّر والتّأمّلِ في مفرداتِ الآيةِ وجملِها وسياقِها ونظائرها منَ الآياتِ إذا كانَ لهُ صلةٌ بها، هو تفسيرٌ مقبولٌ ولا صلةَ لهُ بالتّفسير بالرّأي، وإذا كانَت الآيةُ ممّا يتضمّنُ حُكماً فقهيّاً يرجعُ في فهمِ الموضوعِ وشرائطِه وجزئيّاتِه وموانعِه إلى الرّواياتِ والأخبارِ المأثورةِ، ثمَّ يتمسّكُ في مواردِ الشّكِّ في إعتبارِ شيءٍ أو خروجِ فردٍ عن شمول الدّليلِ بإطلاقِها أو عمومِها فلا يعدُّ ذلكَ تفسيراً بالرّأي، بل إجتهاداً معقولاً ومقبولاً في فهمِ الآيةِ) (السّبحانيّ، المناهجُ التّفسيريّةُ في علومِ القرآن، ص 67 و 68) ويقولُ السّيّدُ الخوئيّ: (إنَّ الأخذَ بظاهر اللّفظِ، مُستنِداً إلى قواعدَ وأصولٍ يتداولها العُرفُ في محاوراتِهم، ليسَ منَ التّفسيرِ بالرّأي، وإنّما هوَ تفسيرٌ بحسبِ ما يفهمُه العرفُ، وبحسبِ ما تدلُّ عليهِ القرائنُ المُتّصلةُ والمُنفصلةُ، وإلى ذلكَ أشارَ الإمامُ جعفر بنُ محمّد الصّادقِ عليهِ السّلام بقولِه: "إنّما هلكَ النّاسُ في المُتشابِه، لأنّهم لم يقفوا على معناهُ، ولم يعرفوا حقيقتَه، فوضعوا لهُ تأويلاً مِن عندِ أنفسِهم برأيهم، إستغنوا بذلكَ عَن مسألةِ الأوصياءِ فيُعرّفونَهم" قالَ: ويُحتملُ أنَّ معنى التّفسيرِ بالرّأيّ، الإستقلالُ في الفتوى مِن غيرِ مراجعةِ الأئمّةِ عليهم السّلام معَ أنّهم قرناءُ الكتابِ في وجوبِ التّمسّكِ، ولزومِ الإنتهاءِ إليهم فإذا عملَ الإنسانُ بالعمومِ أو الإطلاقِ الواردِ في الكتابِ، ولم يأخُذ التّخصيصَ أو التّقييدَ الواردَ عن الأئمّةِ عليهم السّلام كانَ هذا منَ التّفسير بالرّأي. وعلى الجُملةِ، حملُ اللّفظ على ظاهره بعدَ الفحصِ عنِ القرائنِ المُتّصلةِ والمُنفصلةِ، منَ الكتابِ والسّنّةِ أو الدّليلِ العقليّ، لا يُعدُّ منَ التّفسيرِ بالرّأي، بل ولا منَ التّفسير) (البيانُ، ص 287 و288).
وفي المُحصّلةِ التّفسيرُ بالرّأي هوَ العملُ بالظّنونِ النّابعةِ مِن هوى النّفسِ وتمنّياتِها، أمّا التّفسيرُ القائمُ على المناهجِ العلميّةِ فلا يعدُّ تفسيراً بالرّأي.
اترك تعليق