إذا كانَ إبليــــس لم يسجُد لآدمَ (ع) وعاقبَهُ اللهُ عقاباً شخصيّاً إذن لماذا بقيّةُ نسلِ إبليس إتّبعوا نفسَ المعصيــةِ؟ ألم يعلموا أنَّ إبليس سيكونُ في النّار؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
لا يخفى أنّ اللهَ تعالى خلقَ الإنسَ والجنَّ مُختارينَ مُريدينَ، لا مُجبرينَ ولا مفوَّضينَ في أمرِهم، لهم إختيارُ طريقِ الرّشادِ كما لهم إختيارُ طريقِ الغوايةِ.. والعلمُ والمعرفةُ مِن دونِ تقوى وورعٍ لا تكونُ إلّا وبالاً على صاحبِه، والكثيرُ منَ الفسُّاقِ والمنافقينَ والكفّارِ يعلمونَ الحقَّ ويعرفونَ طريقَ الرّشاد ـ ببركةِ إرشادِ حُججِ اللهِ تعالى ـ ولكِن تأبى نفوسُهم الإقرارَ بذلكَ والسّيرَ في طريقِه، قالَ تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُم ظُلمًا وَعُلُوًّا}، ولهذا يُعتبرُ علمُ ذرّيّةِ إبليس بعاقبةِ أبيهم ـ وهوَ دخولُ النّار ـ مقتضٍ للإعتبارِ والإرتداعِ عنِ السّيرِ على منوالِه وطريقتِه، لا أنّه علّةٌ تامّةٌ.. فهم مختارونَ في سلوكِ طريقِ الهُدى أو طريقِ الضّلال.
ثمّ ليسَ منَ الواضحِ أنّ جميعَ ذريّةِ إبليس إختاروا طريقَ الغوايةِ والضّلالةِ؛ لعدمِ معرفتِنا بتفاصيلِ عالمِهم لكونِه محجوباً عنّا.. ويُستفادُ مِن بعضِ الرّواياتِ أنَّ جملةً مِن ذريّةِ إبليس كانوا مؤمنين:
منهم: (هام بنُ هيم بن لاقيس بن إبليس)، فإنّه ممَّن تابَ على يدِ النبيّ نوح عليه السّلام، وإلتقى بخاتمِ الأنبياءِ صلّى اللهُ عليه وآله، وتعلّم القرآنَ على يدِ أميرِ المؤمنينَ عليه السّلام.. روى الشيخُ الصفّارُ في [بصائرِ الدّرجاتِ ص118] بإسنادِه عن عمرو بن يزيد، قالَ: قالَ أبو عبدِ اللهِ عليهِ السّلام: « بينا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله ذاتَ يومٍ جالساً إذ أتاهُ رجلٌ طويلٌ كأنّه نخلةٌ، فسلّمَ عليهِ، فردّ عليه السّلام، فقالَ: يشبهُ الجنَّ وكلامَهم، فمَن أنتَ يا عبدَ الله؟ فقالَ: أنا الهامُ بنُ هيمٍ بنِ لاقيس بنِ إبليس، فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله: ما بينَك وبينَ إبليس إلّا أبوين؟ فقالَ: نعم يا رسولَ الله، قالَ: فكَم أتى لكَ؟ قالَ أكلتُ عُمرَ الدّنيا إلّا أقلّهُ، أنا أيّامَ قتلَ قابيلُ هابيل غلامٌ أفهمُ الكلامَ وأنهى عنِ الإعتصامِ وأطوفُ الآجامَ وأمرُ بقطيعةِ الأرحامِ وأفسدُ الطّعامَ، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله: بئسَ سيرةُ الشيخِ المُتأمّلِ والغلامِ المُقبلِ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله إنّي تائبٌ، قال: على يدِ مَن جرى توبتُك منَ الأنبياءِ؟ قالَ: على يدي نوحٍ، وكنتُ معَه في سفينتِه، وعاتبتُه على دعائِه على قومِه حتّى بكى وأبكاني، وقالَ لا جرمَ أنّي على ذلكَ منَ النّادمينَ وأعوذُ باللهِ أن أكونَ منَ الجاهلينَ.... قالَ: فمَن وجدتُم في الكتابِ وصيَّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله؟ قالَ: هوَ في التوريةِ إليّا، قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله: هذا إليّا هو عليٌّ وصيّي، قالَ الهامُ: يا رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله، فلهُ إسمٌ غيرُ هذا؟ قالَ: نعَم هوَ حيدرةُ، فلمَ تسألني عَن ذلكَ؟ قالَ: إنّا وجدنا في كتابِ الأنبياءِ أنّهُ في الإنجيلِ هيدارا، قالَ: هوَ حيدرة، قالَ: فعلّمَهُ عليٌّ سوراً منَ القرآنِ، فقالَ هام: يا عليّ يا وصيَّ محمّدٍ صلّى اللهُ عليه وآله، أكتفي بما علّمتني منَ القرآن؟ قالَ: نعم يا هام، قليلٌ منَ القرآنِ كثيرٌ، ثمَّ قامَ هام إلى النّبي صلّى اللهُ عليهِ وآله فودّعَه، فلم يعُد إلى النّبي حتّى قُبضَ ».
وهذه الحكايةُ مشهورةٌ عندَ المُحدّثينَ، وردَت بمصادرَ كثيرةٍ عندَ الإماميّةِ والمُخالفين، ينظر: بصائرُ الدّرجاتِ ص121، تفسيرُ القمّي ج1 ص375، الجعفريّاتُ ص175، الخرائجُ والجرائحُ ج2 ص856، الرّوضةُ في فضائلِ أميرِ المؤمنينَ (ع) ص218، الهواتفُ ص77، طبقاتُ المُحدّثينَ بأصبهان ج3 ص265، دلائلُ النبوّةِ ج5 ص418، وغيرُها.
ومنهم: (الهيثمُ بنُ طاح بن إبليس)، فإنّه ممّن قاتلَ معَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله.. فقد وردَ في [مناقبِ آلِ أبي طالب ج1 ص88]: « لمّا صارَ النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وآله إلى وادي حُنينٍ للحربِ إذا بالطلائعِ قد رجعَت والأعلامُ والألويةُ قد وقفَت، فقالَ لهم النّبي: يا قوم ما الخبر؟ فقالوا: يا رسولَ الله، حيّةٌ عظيمةٌ قد سدَّت علينا الطريقَ كأنّها جبلٌ عظيمٌ لا يمكنُنا منَ المسيرِ، فسارَ النّبي صلّى اللهُ عليه وآله حتّى أشرفَ عليها، فرفعَت رأسَها ونادَت: السّلامُ عليكَ يا رسولَ الله أنا الهيثمُ بنُ طاح بنِ إبليس مؤمنٌ بكَ، قد سرتُ إليكَ في عشرةِ آلافٍ مِن أهلِ بيتي حتّى أعينَك على حربِ القومِ، فقالَ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله: إنعزِل عنّا، وسِر بأهلِكَ عَن أيمانِنا، ففعلَ ذلكَ، وسارَ المُسلمونَ ».
وهذهِ الرّوايةُ تفيدُ إيمانَ عشرةِ آلافٍ مِن أهلِ بيتِ الهيثمِ بنِ طاح، والظاهرُ أنّهم مِن ذريّةِ إبليس أيضاً.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق