لماذا لم يروِ الكلينيّ عن السّفراءِ الأربعة؟
السّلامُ عليكم ورحمة الله
في بادئِ الأمر نوردُ أمرينِ ننطلقُ منهما إلى ما يمكنُ أن يكونَ جواباً يُطمأنُّ إليهِ في هذا المقام:
أحدُهما: مجرّدُ المعاصرةِ لا تستلزمُ إمكانيّةَ الرّوايةِ، إذ أنّ المرادَ منَ المُعاصرةِ هوَ أنّ الطرفينِ عاشا في نفسِ المدّةِ الزمنيّةِ، وإمّا أنّهما عاشا في نفسِ المكانِ وإلتقى أحدُهما بالآخرِ، فهذا لا يفهمُ منَ التّعبيرِ بالمُعاصرةِ، فليسَ كلُّ مَن عاصرَ شخصاً قد روى عنهُ كما هوَ مقرّرٌ في علمِ الحديثِ، ومَن قرأ سيرةَ ثقةِ الإسلامِ الكُليني رضوانُ اللهِ عليه علمَ أنّهُ عاشَ أغلبَ حياته في الريّ ولم يذهب إلى بغداد موطن السّفراءِ الأربعةِ إلّا في آخرِ حياتِه. فقد ذكرَ النّجاشي في ترجمتِه: شيخُ أصحابِنا في وقتِه بالرّي ووجههم، وكانَ أوثقَ النّاسِ في الحديثِ، وأثبتَهم صنّفَ الكتابَ الكبيرَ المعروفَ بالكليني يُسمّى الكافي في عشرينَ سنة.
ومِن هُنا نعلمُ أنّ ذهابَه إلى بغدادَ كانَ في آخرِ حياتِه ولعلّهُ بعدَ تصنيفِ كتابِه الكافي الذي هوَ محلّ بحثِنا.
والآخرُ: يحتملُ إحتمالاً كبيراً وجودُ مانعٍ منَ الرّوايةِ المباشرةِ عنِ السّفراءِ، إذ إنّ هؤلاءِ كانوا يعيشونَ حالةَ تقيّةٍ، ويحاولونَ التخفّي بشتّى الطرقِ المُمكنةِ، فقد ذكرَ الشيخُ الطوسي رضوانُ اللهِ عليه في كتابِ الغيبةِ 354 عندَ تعرّضِه لترجمةِ السّفيرِ الأوّلِ عثمانَ بنِ سعيدٍ العمري: ويقالُ له: السّمّان، لأنّهُ كانَ يتّجرُ في السّمنِ تغطيةً على الأمرِ، وكانَ الشّيعةُ إذا حملوا إلى أبي محمّدٍ عليهِ السّلام ما يجبُ عليهم حمله منَ الأموالِ أنفذوا إلى أبي عمرو، فيجعله في جرابِ السّمنِ وزقاقِه ويحمله إلى أبي محمّدٍ عليه السّلام تقيّةً وخوفاً.
فالعمريُّ الأوّلُ - إذن - كانَ يُخفي أنّه مِن أهلِ العلمِ والفضلِ ويتظاهرُ بأنّه مِن تجّارِ السّمنِ لكيلا يُعلمَ أمرُه، فلو رُويَ عنهُ في كتابٍ مشهورٍ مثلِ الكافي سيفتضحُ أمرُه وينكشفُ بينَ الأعداء
. وذكرَ الشيخُ في ترجمةِ السّفيرِ الثالثِ الحُسينِ بنِ روحٍ النوبختي في كتابِ الغيبةِ 384 ما يلي: وكانَ أبو القاسمِ رحمَه اللهُ مِن أعقلِ النّاسِ عندَ المُخالفِ والموافقِ ويستعملُ التقيّةَ! ونقلَ الشيخُ على ذلكَ شواهدَ، منها هذهِ الحكايةُ التي نقلَها في كتابِه الغيبة، ص ٤١٢، عن أبي نصرٍ هبةِ اللهِ بنِ محمّدٍ ، قالَ : حدّثني أبو عبدِ اللهِ بن غالبٍ حمو أبي الحسنِ بنِ أبي الطيّبِ قالَ: ما رأيتُ مَن هوَ أعقلُ منَ الشيخِ أبي القاسمِ الحُسينِ بنِ روحٍ، ولعهدي بهِ يوماً في دارِ إبنِ يسار ، وكانَ لهُ محلٌّ عندَ السيّدِ والمُقتدرِ عظيمٌ، وكانَت العامّةُ أيضاً تُعظّمُه، وكانَ أبو القاسمِ يحضرُ تقيّةً وخوفاً, وعهدي بهِ وقد تناظرَ إثنانِ، فزعمَ واحدٌ أنَّ أبا بكرٍ أفضلُ النّاسِ بعدَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ثمَّ عُمر ثمَّ علي ، وقالَ الآخرُ: بل عليٌّ أفضلُ مِن عُمر، فزادَ الكلامُ بينَهما، فقالَ أبو القاسمِ رضيَ اللهُ عنه: الذي إجتمعَت الصّحابةُ عليهِ هوَ تقديمُ الصدِّيقِ ثمَّ بعدَه الفاروقُ ثمَّ بعدِه عثمانُ ذو النورينِ ثمَّ عليٌّ الوصي، وأصحابُ الحديثِ على ذلكَ، وهوَ الصّحيحُ عندَنا، فبقيَ مَن حضرَ المجلسَ مُتعجّباً مِن هذا القولِ، وكانَ العامّةُ الحضورُ يرفعونَه على رؤوسِهم وكثرَ الدّعاءُ لهُ والطعنُ على مَن يرميهِ بالرّفض.
وقد بلغَ الشّيخَ أبا القاسمِ رضيَ اللهُ عنه أنّ بوّاباً كانَ لهُ على البابِ الأوّلِ قد لعنَ معاويةَ وشتمَه، فأمرَ بطردِه وصرفِه عَن خدمتِه، فبقيَ مدّةً طويلةً يسألُ في أمرِه فلا واللهِ ما ردّهُ إلى خدمتِه ، وأخذَه بعضُ الأهلِ فشغّله معهُ كلُّ ذلكَ للتقيّة.
فمِن هُنا نعلمُ أنّ التقيّةَ بلغَت بالحسينِ بنِ روحٍ أنّه كانَ يتظاهرُ بأنّهُ مِن أهلِ السنّةِ والجماعةِ ويظهرُ تولّي فلانٍ وفلان، فكيفَ يمكنُ أن يروي عنهُ الكلينيّ، والحالُ كما رأيتَ؟ وعليهِ فلو سلّمنا بلقاءِ الكليني رضوانُ اللهِ عليه بالسّفراءِ فإنّ المانعَ مِن روايتِه عنهُم هوَ جوّ التقيّةِ التي كانَ يعيشُها هؤلاء.
ثُمَّ لابدّ منَ الإشارةِ إلى أنّ هؤلاءِ السّفراء رضوانُ اللهِ عليهم قد نصبوا لهم وكلاءَ في كلِّ المناطقِ التي يسكنُها المؤمنونَ، وقد ذكرَ الشّيخُ الطوسي هذا المعنى في كتابِ الغيبةِ 415: وقد كانَ في زمانِ السّفراءِ المحمودينِ أقوامٌ ثقاتٌ تردُ عليهم التوقيعاتُ مِن قبلِ المنصوبينَ للسّفارةِ منَ الأصلِ... ، فذكرَ بعضَ الأسماءِ كمحمّدٍ بنِ جعفرٍ الأسدي وحاجزٍ الوشّاءِ وأحمدَ بنِ إسحاقَ الأشعري وإبراهيمَ بنِ محمّدٍ الهمداني وأحمدَ بنِ حمزةَ بنِ اليسع. وذكرَ الشّيخُ الصّدوقُ رضوانُ اللهِ عليه روايةَ تعدّدِ أسماءِ هؤلاءِ، قالَ: عَن محمّدٍ بنِ أبي عبدِ اللهِ الكوفي أنّهُ ذكرَ عددَ مَن إنتهى إليهِ ممَّن وقفَ على مُعجزاتِ صاحبِ الزّمانِ عليه السّلام ورآهُ منَ الوكلاءِ ببغداد: العمري وإبنُه، حاجزٌ، والبلالي، والعطّارُ، ومنَ الكوفةِ: العاصمي، ومِن أهلِ الأهواز: محمّدٌ بنُ إبراهيم بنِ مهزيار، ومِن أهلِ قم : أحمدُ بنُ إسحاقَ، ومِن أهلِ همدانَ: محمّدٌ بنُ صالحٍ، ومِن أهلِ الري: البسامي، والأسدي - يعني نفسَه - ومِن أهلِ آذربيجان: القاسمُ بنُ العلاءِ، ومِن أهلِ نيسابور: محمّدٌ بنُ شاذان، وهؤلاءِ قد روى عَن جملةٍ منهم الشّيخُ الكليني رضوانُ اللهِ عليه في كتابِه الكافي وصرّحَ بأسمائِهم مثلَ (محمّدٍ بنِ جعفرٍ الأسدي و أحمدَ بنِ إسحاق القمّي وغيرِهم...). هذا ما يمكنُ أن يكونَ جواباً عَن سؤالِكم. ودمتُم سالمين.
اترك تعليق