حرية العبد دون نظام و مرشد يأخذ بيده نحو الصلاح!!

هناك مقالٌ للكاتب كمال اللبواني عنوانه (الليبرالية والدين) يتضمّنُ في داخله مسلكَ إلهام النبوة والرسالة كما جاء في : ......والله الذي يتحكمُ بكلّ شيء وحده، ترك للإنسان حرية ، وليس لأحد أن ينصب نفسه بديلاً عن الله، يفرض إرادته على الآخرين فكلّ أنسان في النهاية تحت ألطاف الله , وهو برغم حريته في الإختيار ومسؤوليته , لكنه لا يملك حتى مصيره وليس له ان يشاء حتى يشاء الله , فالسيّد المالك المسير للكون هو الله وبقيَ يسرد في مقاله حرية العبد دون نظام ومرشد يأخذ بيده نحو الصلاح أرجو إذا أمكن نسج خيوط العقل لدى القارئ وحياكتها بما يناسب ونظام الله الراسخ.

: الشيخ معتصم السيد احمد

بعدَ الإطّلاعِ على المقالِ المذكورِ يمكنُنا تسجيلُ الملاحظاتِ التّالية:  

أوّلاً: لا خلافَ على أنَّ الحريّةَ والمسؤوليّةَ منَ القيمِ الكُبرى التي تحقّقُ للإنسانِ إنسانيّتَه، وعليهِ فإنَ أيّ مشروعٍ ثقافيٍّ أو سياسيّ ينطلقُ مِن مُصادرةِ حريّةِ الإنسانِ وكرامتِه يعدُّ مشروعاً مشوّهاً ومرفوضاً حتّى لو كانَ باسمِ الدّين، ومِن هُنا نتّفقُ معَ الكاتبِ في الجُملةِ في دفاعِه عن الحريّةِ والمسؤوليّة.  

ثانياً: يبدو أنَّ الكاتبَ ينطلقُ في فهمِه للحريّةِ مِن نظريّةِ الكسبِ الأشعريّةِ، ويُفهمُ ذلكَ مِن بعضِ العباراتِ التي ساقَها في حديثِه عن الحريّةِ مثل قوله: (وهكذا نعلمُ أنّنا لسنا مسؤولينَ عنِ النّتائجِ بل عنِ السّعي، وعلينا فقط أن نسعى، وما سيحدثُ مرهونٌ بمشيئةِ الله) وقوله: (ولكِن فقَط نحاولُ كسبَ ثوابِ السّعي نحوَ ما نراهُ أنّهُ الخيرُ وأنّهُ الحق). وبعيداً عن النّقاشِ المُثارِ في علمِ الكلامِ عن نظريّةِ الكسبِ، نعتقدُ أنَّ هذهِ النظريّةَ لا تمكّنُ الكاتبَ منَ الوصولِ إلى النتائجِ التي يسعى إليها، وهيَ جعلُ حريّةِ الإنسانِ مُطلقةً ليسَ فيها قيودٌ، في حينِ أنَّ الكسبَ يخرجُ نتائجَ الأفعالِ عن إرادةِ الإنسانِ وحريّتِه، فالإنسانُ ليسَ حرّاً في إختيار النتائجِ وإنّما حريّتُه تنحصرُ فقط في إختيار الوسائلِ، وهذا إعترافٌ غيرُ صريحٍ بمحدوديّةِ حريّةِ الإنسان، واللحظةُ التي يتمُّ فيها الحديثُ عنِ الحريّةِ المحدودةِ هيَ ذاتُها اللحظةُ التي يمكنُ أن ينفتحَ فيها البابُ أمامَ ضرورةِ وجودِ قيّمٍ على الإنسانِ يسوسُه طالما كانَت إمكانيّاته محدودة. ويبدو أنَّ الذي يخدمُ الكاتبَ هوَ تبنّي نظريّةِ التفويضِ المُعتزليّة وهيَ كونُ الإنسانِ خالقاً لأفعالِه وإنّهُ قادرٌ على أن يفعلَ ما يشاءُ متى شاءَ وبأيّ وسيلةٍ شاءَ أرادَ اللهُ ذلكَ أو لم يُرد. وغير ذلكَ لا مانعَ مِن وجودِ سلطةٍ سياسيّةٍ تحكمُ الإنسانَ باسمِ الله؟ ومنَ الواضحِ بحسبِ التّنظيرِ الفلسفيّ أنَّ المانعَ منَ ذلكَ هوَ أن يكونَ الإنسانُ مفوّضاً بشكلٍ مُطلقٍ لا تتحكّمُ فيهِ أيُّ سلطةٍ فوقيّةٍ وهذا خلافُ ما تبنّاهُ الكاتب.  

ثالثاً: عادةً يقعُ خلطٌ بينَ أمرينِ، الأوّلُ: سلطةٌ سياسيّةٌ دينيّةٌ تحكمُ باسمِ اللهِ على رأسِها نبيٌّ أو إمامٌ مُنصّبٌ مِن قبلِ الله. والثّاني: سلطةٌ دينيّةٌ تحكمُ باسمِ اللهِ مِن غيرِ إذنٍ أو تفويض مِن قبلِ الله. وما يؤسفُ لهُ أنَّ البعضَ في مواجهتِهم للخيار الثاني يرفضونَ حتّى الخيارَ الأوّلَ، ويبدو أنَّ هذا ما وقعَ فيهِ الكاتبُ أيضاً فالتّأسيسُ الفكريُّ الذي عملَ عليهِ يسحبُ البساطَ مِن تحتِ أقدام الأنبياءِ أيضاً، فإذا كانَ الإنسانُ حرّاً في كلِّ شيءٍ لماذا فرضَ اللهُ عليهِ التّخلّي عن حريّتِه وإتّباعِ سلطةِ الأنبياءِ؟ أو كما يعبّرُ الكاتبُ بقولِه: (ولسنا بحاجةٍ ماسّةٍ لمَن يقودُنا على طريقِ الحقِّ ويفرضُ علينا وصايتَه) وهذا الكلامُ يشملُ حتّى حقَّ الطاعةِ للأنبياءِ وهوَ خلافُ ما جاءَ في القرآنِ بالضّرورة. قالَ تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلَا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم ۗ وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (36 الأحزاب).  

رابعاً: يؤسّسُ الكاتبُ لمفهومٍ خاصِّ للدّينِ يقومُ على سلطةٍ تقفُ عندَ حدودِ الضّميرِ والوجدانِ ولا تتعدّاها لسلطةٍ إجتماعيّةٍ أو سياسيّة، كما يؤكّدُ على أنَّ الدّينَ مجرّدُ تجربةٍ ذاتيّةٍ بينَ العبدِ وربِّه، ويُفهمُ ذلكَ مِن قولِه: (إنَّ قوّةَ الدّينِ تظهرُ في ساحةِ إشتغالِه أي في الضّمير، وفي تلكَ الرّابطةِ بينَ الإنسانِ وربِّه) ومنَ الواضحِ أنَّ هذا الفهمَ يسلبُ الدّينَ عناصرَ قوّتِه وحيويّتِه، فالفاعليّةُ الإجتماعيّة والحراكُ الحضاريُّ هوَ أوّلُ أولويّاتِ الدّين، فالقيمُ التي تختزنُها النّصوصُ لا تفهمُ إلّا مِن خلالِ تجليّاتِها الإجتماعيّةِ والسياسيّةِ، فعندَما يتحدّثُ عَن قيمةِ العدلِ أو المساواةِ أو الإحسانِ أو العلمِ أو الحِكمةِ أو الرّحمةِ أو غير ذلكَ إنّما يتحدّثُ عنها بوصفِها الداينمو المحرّكَ لعجلةِ المُجتمعِ، وعليهِ منَ المُجحفِ في حقِّ الإسلامِ أن يُختصرَ ضمنَ التجربةِ الصوفيّةِ التي كلّما زادَ الإرتباط فيها كلمّا زادَ الإبتعادُ عنِ الحياة.    

خامساً: في ظنّي أنَّ إشكاليّةَ الإستبدادِ السّياسي باسمِ الدّينِ يمكنُ معالجتُها بالشكلِ الذي لا يجرّدُ الدّينَ عن حيويّتِه الإجتماعيّةِ وفاعليّتِه السياسيّة، وبالتالي يمكنُنا القولُ أنَّ الإسلامَ لم يُعطِ تفويضاً عامّاً للحكمِ باسمِه، وعليه لا وجودَ لحكومةٍ إسلاميّة أو حكومةٍ باسمِ اللهِ ما لم يكُن اللهُ هوَ الذي إختارَ مَن ينوبُ عنه، وطالما لم يُصرّح الإسلامُ بشكلِ أو بنظامِ الدّولةِ لا يجوزُ نسبةُ إجتهاداتِ الإسلاميّينَ للهِ، ومنَ المؤكّدِ أنّهُ لا وجودَ لمَن هوَ بينَنا يمتلكُ حقَّ

الحديثِ نيابةً عنِ اللهِ أو مَن يبسط سُلطانَه نيابةً عنه، ومعَ ذلكَ يمكنُ أن يكونَ للمُسلمينَ جهدُهم الخاصُّ في إقامةِ نظامٍ إسلاميّ وذلكَ مِن خلالِ العملِ الجماهيريّ الحزبي الذي يتنافسُ معَ الأحزابِ الأخرى بحسبِ برنامجِه السّياسي، فكما أنَّ بعضَ الأحزابِ قد تتشكّلُ ضمنَ رؤيةٍ إشتراكيّةٍ مثلاً، كذلكَ يمكنُ تشكيلُ أحزابٍ ضمنَ الرّؤيةِ الإسلاميّة، ويبقى هناكَ فارقٌ بينَ حكومةِ الإسلامِ وحكومةِ المُسلمين، فالأولى لا تكونُ إلّا بتفويضٍ خاصٍّ منَ اللهِ للأنبياءِ والأئمّة. والثانيةُ لا يمكنُ أن تكونَ باسمِ اللهِ ولا يجوزُ نسبتُها إلّا للمُسلمينَ الذينَ إختاروا أن يحكمَهم نظامٌ سياسيٌّ مُستلهمٌ مِن قيمِ الإسلامِ بوصفِه خياراً جمعيّاً تعاهدوا عليه.

ومِن هنا لا نتّفقُ معَ الكاتب في قوله: (فمُمارسةُ الدّينِ شيءٌ مختلفٌ عن ممارسةِ السّياسة، والسّلطةُ الدينيّة تقعُ في مستوى الضّميرِ والقناعة، بينما السّلطةُ السياسيّة تقعُ في أيدي أشخاصٍ قد يوسوسُ لهم الشّيطان..) فكيفَ نمارسُ العدالةَ بوصفِها مبدأ إسلاميّاً وكيفَ نمارسُ الحريّةَ وكلَّ القيمِ الإسلاميّة إذا لم يكُن ذلكَ مِن خلالِ السّاحةِ السياسيّة؟ ولا نختلفُ معهُ في إمكانيّةِ الإنحرافِ وتدخّلِ الشّيطانِ إلّا أنَّ تلكَ المخاوفَ غيرُ خاصّةٍ بالنّظامِ الإسلاميّ وهيَ آفةٌ قد تصيبُ كلَّ الأنظمةِ، وعليهِ فإنَّ كلَّ ما يمكنُ أن يشكّلَ ضمانةً لعدمِ الإنحرافِ مطلوبٌ إنسانيّاً وإسلاميّاً أيضاً، ومنَ المُجحفِ الحكمُ على النّظامِ الإسلاميّ مِن خلالِ التّجاربِ التاريخيّة أو المعاصرةِ فإنَّ فشلَ بعضِ التجاربِ لا يسلبُ حقَّ الآخرينَ في إعادةِ التّجربة.  

وفي الخِتامِ يحتاجُ المقالُ إلى دراسةٍ أكثرَ تفصيلاً، وإن كنّا نتّفقُ معهُ في بعضِ التشخيصاتِ إلّا أنّنا قد نختلفُ في معالجاتِه التي تمنعُ الإسلامَ من أيّ دورٍ سياسيٍّ وإجتماعي.