أبرهة الحبشي كان مسيحيا فهل يمكن لعاقلٍ أن يقبل أنّ الله وقف مع الوثنيين ضدّ المسيحيين؟و ارسل حجارة من سجيل ليقتلهم ؟
الزعمُ أنّ أبرهة الحبشي غزا مكة، لا أصل له لأنه طبقاً للنقوش التي تركها أبرهة الحبشي في اليمن بما في ذلك النقوش التي تركها على سد مأرب وبقايا سد مأرب، الحبشي كان رجلاً مسيحياً وهو يكتب نقوشه بالخط المسند اليمني على جدران وبقايا سد مأرب كتب: بسم الربّ المسيح أو بسم المسيح الرب”، مضيفاً أنّ أبرهة كان مسيحياً ولم يكن وثنياً وأبرهة الحبشي توفي عام 535 ميلادي وليس عام 570 كما يقول المؤرخون وأنه غزا مكة في هذه الفترة، وهناك 35 سنة فرق، وطوال مدة حكمه إنشغلَ الحبشيّ بقمع تمرّد القبائل اليمنية على حكمه. وابنه يكسوم الذي ورث الحكم منه هو الذي بنى الدولة الشهيرة المسيحية التي عُرفت بدولة أكسوم أو يكسوم، وهي إندماج جنوب اليمن مع الحبشة في دولة مسيحية، ثم أخيراً هل من المنطقي أنّ الله سبحانه وتعالى يمكن أن يرسل الحجارة ليقتل جيش مسيحياً وينتصر للوثنيين؟ هل يمكن لعاقلٍ أن يقبل أنّ الله وقف مع الوثنيين ضدّ المسيحيين؟”.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أثارَ هذا الإشكالَ الكاتبُ العراقيّ فاضل الرّبيعي في مقابلةٍ تلفزيونيّة، وقد أحدثَ جدلاً واسعاً في وسائلِ التواصلِ الإجتماعيّ، معَ أنَّ ما ذكرَه مِن أدلّةٍ ليسَ فيهِ الدّلالةُ الواضحةُ على ما يدّعيهِ، بل يمكنُ توظيفُ ما قالَه لصالحِ إثباتِ الحادثةِ أكثرَ مِن نفيها، فالجمعُ بينَ الرّواياتِ التاريخيّةِ هوَ الخيارُ الأنسبُ لتقديمِ المشهدِ التاريخيّ بصورةٍ أكمل وأوضح.
وهنا نستعرضُ ما قاله في نقاط:
أوّلاً: إعتمدَ في دليلِ النّفي على نقطةٍ مركزيّةٍ وهيَ إثباتُ كونِ أبرهةَ مسيحيّاً، وإستدلَّ على ذلكَ بالنّقوشِ التي تركَها على سدِّ مأرب. والعجيبُ أنَّ مسيحيّةَ أبرهةَ لم تكُن موردَ خلافٍ تاريخيّ، فالتواريخُ البيزنطيّةُ والإسلاميّةُ أشارَت بوضوحٍ إلى ذلكَ، وعليه فإنَّ الكلامَ عنِ النّقوشِ الأثريّةِ ليسَ إلّا تعميةً وإستعراضاً لا علاقةَ لهُ بغزو مكّةَ أو عدمِها؛ بل قد يُستفادُ مِن هذهِ النّقوشِ كدليلٍ يثبتُ وجودَ شخصٍ (باسمِ أبرهةَ) كانَ حاكماً على اليمنِ في تلكَ الفترةِ التاريخيّة، وهذا بذاتِه مؤيّدٌ للرّواياتِ التاريخيّةِ التي تحدّثَت عن أبرهةَ كحاكمٍ لليمنِ حاولَ تهديمَ الكعبةِ، ولا يمكنُ إعتبارُ هذه النّقوشِ معارضةً لتلكَ الرّواياتِ طالما لم تُشِر هذه النّقوشُ لهذه الغزوةِ منَ الأساسِ. ومنَ المعلومِ أنَّ الإستدلالَ بالنّقوشِ والآثارِ القديمةِ يمكنُ أن يكونَ مفيداً كأثرٍ ماديٍّ للأحداثِ أو الأشخاصِ الذينَ تمَّ ذكرُهم في كتبِ التّاريخِ، ولا يمكنُ الإستغناءُ بذلكَ عن بقيّةِ المصادرِ التي دوّنَت الأحداثَ بشكلٍ أكثرَ تفصيلاً.
وعليهِ فإنَّ الآثارَ التاريخيّةَ لا تفيدُ الباحثَ إلّا إذا كانَت لها علاقةٌ بموضوعِ بحثِه، وموضوعُ البحثِ هُنا هوَ غزو مكّةَ في حينِ أنَّ النّقوشَ تشيرُ فقط إلى أنّهُ كانَ مسيحيّاً، اللهمَّ إلّا أن يقالَ أنَّ إيمانَ أبرهةَ بالمسيحيّةِ يمنعُه مِن غزو الكعبةِ وهذا دليلٌ إستحسانيٌّ لا علاقةَ له لا بالمصادرِ التاريخيّةِ ولا بالنّقوشِ على سدِّ مأرب، والأدلّةُ الإستحسانيّةُ شأنٌ خاصٌّ لا يرتقي إلى مستوى البحثِ العلمي.
والعجيبُ أيضاً أنَّ المصادرَ التاريخيّةَ ربطَت بينَ غزو الكعبةِ وبينَ مسيحيّةِ أبرهةَ، حيثُ يُحكى أنَّ أبرهةَ بنى كنيسةً ضخمةً إسمُها القليسُ في صنعاء، وكانَ هدفُ بناءِ الكنيسةِ على ما أوردَ الرّواةُ، هوَ صرفُ العربِ عَن حجِّ مكّةَ وتحويلِ أنظارِهم إلى كنيستِه في صنعاء. فقامَ أبرهةُ بتعيينِ رجلٍ إسمُه محمّدٌ بنُ خزاعي سيّداً على مُضرَ وأمرَه أن يدعو النّاسَ بالحجِّ إلى الكنيسةِ فلمّا وصلَ لديارِ بني كنانةَ ضربَه رجلٌ منهم بسهمٍ ممّا أثارَ غضبَ أبرهةَ وعزمَ أن يهدمَ الكعبةَ لأجلِ ذلك. وقد أوردَ الطبريُّ كثيراً مِن هذهِ التّفاصيل. ممّا يعني أنَّ النّقوشَ الدّالّةَ على مسيحيّةِ أبرهةَ منسجمةٌ تماماً معَ الرّواياتِ التاريخيّةِ التي تحدّثَت عن غزوهِ للكعبةِ تعصّباً لكنيستِه التي بناها.
ثانياً: يشكّكُ الكاتبُ في تاريخِ وفاةِ أبرهةَ التي ذكرَتها المصادرُ الإسلاميّةُ وهيَ سنةَ 570م، ويدّعي أنَّ وفاتَه كانَت بتاريخِ 535م، والفرقُ بينَهما 35 عام. وحتّى لو ثبتَ ما ذهبَ إليهِ لا يكونُ كافياً لنفي الحادثةِ لأنَّ الإختلافاتِ في التواريخِ أمرٌ شائعٌ في الكتبِ التاريخيّةِ، وكثيراً ما يقعُ الخلطُ في تحديدِ التواريخِ بينَ المؤرّخينَ ولا يعدُّ هذا سبباً كافياً للتشكيكِ في الحوادثِ التي تناولتها المصادرُ التاريخيّةُ المُختلفةُ، وبخاصّةٍ أنَّ هناكَ مصادر تشيرُ إلى أنَّ هناكَ أبرهة بن الصّباح الحميري المُتوفّي في 535 م "ملكُ تهامةَ" الذي غزا نجداً، وهناكَ أبرهةُ الحبشيُّ 575م الذي حاولَ هدمَ الكعبةِ ممّا يعني أنَّ هناكَ شخصيّتين باسمِ أبرهةَ ولكلِّ واحدٍ منهُم تاريخُ وفاةٍ، والخلطُ بينَهما قد يكونُ هوَ سببُ الإشتباهِ عندَ البعضِ. بالتّالي لا يمكنُ الإحتكامُ لمصدرٍ تاريخيٍّ دونَ الآخر، وبخاصّة إذا كانَ هدفُ الباحثِ هو نفيُ واقعةٍ تاريخيّةٍ بحجمِ غزوةِ أبرهةَ للكعبةِ، فعندَما نزلَ على النبيّ سورةُ (الفيل) لم يعترِض عليه كفّارُ قريش ولم يُنكروا مثلَ هذهِ الحادثةِ ممّا يعني أنّها كانَت معروفةً ومشهورةً في أوساطِهم.
ثالثاً: شكّكَ في عدمِ وجودِ أيّة وثيقةٍ تدلُّ على أنَّ أبرهةَ خرجَ منَ اليمنِ وقصدَ الجزيرةَ العربيّةَ لكونِه كانَ مشغولاً بقمعِ تمرّداتِ القبائلِ التي إحتجَّت عليه.
وهذا ليسَ مُسلّماً بهِ فقد تمَّ إكتشافُ آثارٍ وعددٍ مِن نقوشِ أبرهةَ فيها ذكرٌ لغزواتِه لمناطقَ متعدّدةٍ في الجزيرةِ العربيّةِ كالنّقوشِ المُكتشفةِ في نجران.
رابعاً: ذكرَ في آخر كلامِه دليلاً غريباً وهوَ قوله: "هل منَ المنطقيّ أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى يمكنُ أن يرسلَ الحجارةَ ليقتلَ جيشاً مسيحيّاً وينتصرَ للوثنيّينَ؟ هل يمكنُ لعاقلٍ أن يقبلَ أنَّ اللهَ وقفَ مع الوثنيّينَ ضدَّ المسيحيّين؟"
ومنَ الواضحِ أنّهُ تركَ الإستدلالَ العلميَّ بالنّقوشِ والآثارِ التاريخيّةِ ليعملَ بالإستحسانِ مرّةً أخرى، معَ أنَّ الكلامَ ليسَ عن حربٍ بينَ أهلِ التّوحيدِ والشّركِ وإنّما الكلامُ عن مُعتدٍ ينوي هدمَ بيتِ اللهِ الحرامِ، فحتّى لو كانَ مسيحيّاً إلّا أنّهُ تجاوزَ حدودَه ليستحقَّ ما وقعَ به، كما أنَّ ذلكَ يُعدُّ نظرةً قاصرةً تفتقدُ الكثيرَ منَ المُعطياتِ، واللهُ سبحانَه وحدَه هوَ العالمُ بخفايا الأمور ولا يمكنُ إلزامُه بما نراهُ نحنُ منَ الواقعِ، فهناكَ حوادث تاريخيّةٌ كثيرةٌ إنتصرَ فيها أهلُ الشّركِ على أهلِ الإيمانِ كما أنَّ هناكَ حوادثَ تمَّ فيها الإعتداءُ على الكعبة، وبالتّالي لا يمكنُ إستخلاصُ قانونٍ عامٍّ بأنَّ كلَّ حربٍ بينَ الإيمانِ والكُفرِ يجبُ أن ينتصرَ فيها الإيمانُ، أو أيَّ إعتداءٍ على الكعبةِ يستوجبُ إرسالَ الله جنوداً منَ السّماءِ لحمايتِها؛ لأنَّ هناكَ حيثيّاتٍ مُتعدّدةً وغيرَ منظورةٍ يجهلُها الإنسان.
اترك تعليق