لماذا يتزوّجُ الإمامُ مِن زوجةٍ يعلمُ بعدائِها وبغضِها للمعصوم؟ وكيفَ علمَ أنّها هيَ التي تقتله، كجعدةَ بنتِ الأشعِث وأمِّ الفضلِ بنتِ المأمون وعائشةَ وحفصة؟
السّلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته،
لا يخفى أنّ زواجَ بعضِ المعصومينَ مِن نساءٍ غيرِ صالحاتٍ أمرٌ واقعٌ ومتحقّق، وأوضحُ شاهدٍ على ذلكَ زوجةُ نبيّ اللهِ نوح (عليه السّلام) وزوجةُ نبيّ اللهِ لوط (عليه السّلام)، وقد ذكرَهُما اللهُ تعالى في كتابِه بقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امرَأَتَ نُوحٍ وَامرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحتَ عَبدَينِ مِن عِبَادِنَا صَالِحَينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَم يُغنِيَا عَنهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيئًا وَقِيلَ ادخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التّحريم: 10].
ولا شبهةَ في أنّ إقدامَ المعصومِ (عليه السّلام) على مثلِ هذا الفعلِ لا يخلو عن حِكمٍ ومبرّراتٍ، سواءٌ إطّلعنا على هذه الحِكم ِوعرفناها أو لا؛ إذ أنّه ـ إضافةً لكونِه سيّدَ العقلاءِ ـ معصومٌ مطهَّرٌ، فلا تكونُ أقواله وأفعاله خاليةً عن الحكمةِ.
ويمكنُ أن يُذكرَ بعضُ العللِ والحِكم التي قد تكونُ هيَ الدّاعيةَ لإقدامِ المعصوم (عليه السّلام) على ذلك:
منها: حكمةُ الابتلاءِ والامتحان، فإنّ زواجَ المعصومِ (عليهِ السّلام) من زوجةٍ غيرِ صالحةٍ يكونُ للامتحانِ والابتلاءِ على ثلاثِ مستويات:
أوّلاً: إبتلاءٌ للمعصومِ نفسِه، فإنّ زواجَ المعصومِ مِن زوجةٍ عدوّةٍ له يعدّ إبتلاءً؛ إذ منَ الواضحِ أنّ إسكانَ العدوّةِ في الدّارِ وإيواءَها والإحسانَ لها ومعاشرتَها بالمعروفِ إبتلاءٌ عظيم، سيّما مع كونِها مُبغضةً، حقودةً، جاسوسةً، سيّئةَ الأخلاق.
ثانياً: إبتلاءٌ للزّوجةِ نفسِها، إذ أنّها تسكنُ معَ وليّ اللهِ وحُجّتِه، وتعاينُ آياتَه وبراهينَه، وترى جميلَ عشرتِه ولطفَ معاملتِه وحسنَ خلقِه، وتطّلعُ على سرِّه وظاهرِه وتجدُ أنّها لا تختلفُ، فتكونُ الحُجّة ُعليها آكدَ وأتم.
ثالثاً: إبتلاءٌ للأمّةِ والنّاس، فإنّ اللهَ يمتحنُ الأمّةَ ليرى أيُطاعُ هوَ وحجّتُه أم يُطاع غيرُه، وقد أشارَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السّلام) لهذا بقولِه: « إنَّ أمَّكم إبتلاكُم اللهُ بها ليعلمَ أَمعَهُ تكونونَ أم معها؟ » [كتابُ سُليم ص919]، وقد رُويَ عن الصحابيّ عمّارٍ بنِ ياسر (رضوانُ اللهِ عليه) شبيهاً بهذا الكلام، فقد روى البخاريّ في [الصّحيحِ ج8 ص97] أنّه قال: « إنّ عائشةَ قد سارَت إلى البصرةِ، وواللهِ إنّها لزوجةُ نبيّكم (صلّى اللهُ عليه [وآله] وسلّم) في الدّنيا والآخرة، ولكنَّ اللهَ تباركَ وتعالى إبتلاكُم ليعلمَ إيّاهُ تطيعونَ أم هي »، وهذهِ روايةٌ عاميّةٌ محلُّ الشاهدِ فيها هي الفقرةُ الأخيرةُ من كونِ عائشةَ بلاءً للأمّةِ ليتبيّنَ مَن يطيعُ اللهَ ومَن يطيعَها، وأمّا الفقرةُ التي تسبقُها من أنّها زوجةُ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) في الآخرةِ فيجلُّ مثلُ عمّارٍ بنِ ياسر أن يفوهَ بها كما لا يخفى.
ومنها: حكمةُ ترطيبِ قلوبِ الأعداءِ ودفعِ مؤامراتِهم والحدّ منها، فإنّ زواجَ المعصومِ (عليه السّلام) مِن إمرأةٍ عدوّةٍ أو أنّها إبنةُ رجلٍ طالحٍ أو أسرةٍ طالحةٍ قد يكونُ من بابِ ترطيبِ قلوبِهم بالمُصاهرةِ والحدِّ مِن مؤامراتِهم ودفعِها وتخفيفِها ولو بنسبةٍ معيّنةٍ، باعتبارِ وجودِ صلةِ القرابةِ بينهم، فإنّ لعُقدةِ المصاهرةِ والقرابةِ السببيّةِ رادعاً اجتماعيّاً عرفيّاً عن ارتكابِ بعضِ الشنائعِ والمؤامراتِ والتجاهرِ بها.
وقد حكى الشيخُ القميُّ في [التفسيرِ ج1 ص329] أنّ قوماً جاؤوا لبيتِ النبيّ هود (عليهِ السّلام) فلقوا إمرأةً شمطاءَ عوراءَ وسألوها عَن هود (عليه السلام) فانتقصَت منه، ثمَّ إلتقوا به وسألوه عنها « فقالَ هود: تلكَ أهلي، وأنا أدعو اللهَ لها بطولِ البقاء، فقالوا: وكيفَ ذلك؟ قالَ: لأنّه ما خلقَ اللهُ مؤمناً إلّا وله عدوٌّ يؤذيه، وهيَ عدوّتي، فلأن يكونَ عدوّي ممّن أملكُه خيرٌ مِن أن يكونَ عدوّي ممّن يملكُني »، ولعلّه (عليهِ السّلام) يشيرُ إلى أنّه قرّبَ عدوّتَه وجعلَها في محلِّ نظرِه وتحتَ جناحِه فتكونُ مقيّدةً بذلكَ ولا تكونُ حرّةً تصنعُ ما تشاء من المكائدِ والمؤامرات.
ومنها: حكمةُ الهدايةِ، فإنّ الزواجَ مِن زوجةٍ غيرِ صالحةٍ قد يكونُ لغرضِ تعليمِها وهدايتها وإصلاحِ حالها ـ ولو بنسبةٍ معيّنةٍ ـ بالمعاملةِ الحسنةِ والعشرةِ بالمعروف والقولِ اللينِ والدعوةِ بالحكمةِ والنّصيحة الصّادقة وغير ذلك.
وحينئذٍ عندَما نجدُ بعضَ تلكَ النّساءِ اللاتي كُنَّ في كنفِ المعصومِ (عليه السّلام) وقد جاهدَ في هدايتهنَّ وإصلاحِ حالهن، ومعَ ذلكَ صدرَ عنهنَّ أفعالٌ شنيعةٌ بل في غايةِ الشّناعةِ والقباحةِ، ينبئُ ذلكَ عن أنّ طينةَ هؤلاءِ النّساءِ في غايةِ السّفالة؛ إذ معَ كلّ تلكَ المحاولاتِ المعصوميّةِ لهدايتهنَّ قد صدرَت عنهنَّ أفعالٌ في غايةِ القباحةِ، فكيفَ لو لم يكُنَّ زوجاتٍ للمعصومينَ ولم تكُن هناكَ محاولاتٌ لهدايتهنَّ وإصلاحِ حالهن، هل يمكنُ تصوّرُ مدى شناعةِ وقباحةِ الأفعال التي كانَت ستصدرُ عنهن؟!!
ويمكنُ أن تكونَ هناكَ حكمٌ وعللٌ أخرى وراءَ زواجِ المعصومينَ (عليهم السّلام) مِن زوجاتٍ طالحاتٍ، وما ذكرناهُ فيه الكفايةِ إن شاءَ اللهُ تعالى.
وأمّا علمُ المعصومِ (عليهِ السّلام) بأنّ زوجتَه فلانة ستقتلُه، أو أنّ فلاناً سيقتله، ونحوَ ذلك، فهوَ علمٌ موهبيّ يهبَه اللهُ تعالى لخِيرةِ عبادِه، وهو مكتوبٌ عندَهم في كتبِهم التي يتوارثونَها، كما أنّ النبيَّ الأكرمَ (صلّى اللهُ عليه وآله) أخبرَ أهلَ بيته (عليهم السّلام) بذلك، وقد جاءَت الرّواياتُ أنّ الأئمّة (عليهم السّلام) عندَهم علمُ المنايا والبلايا، فقد روى الشيخُ الصفّارُ في [بصائرِ الدّرجات ص138] عدّةَ رواياتٍ عن الإمام السجّادِ والإمامِ الباقر والإمامِ الرّضا (عليهم السّلام) أنّهم قالوا: « عندَنا علمُ المنايا والبلايا »، وروى الشيخُ الكلينيّ في [الكافي ج1 ص197] عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السّلام) أنّه قالَ: « علمتُ علمَ المنايا والبلايا »، وفي [ج1 ص198] عنه (عليه السّلام): « ولقد أعطيتُ الستَّ: علمَ المنايا والبلايا، والوصايا، وفصلَ الخطابِ.. إلخ »، ومثلُ هذه الرّواياتِ كثيرةٌ في كتبنا.
بل إنّ اللهَ تعالى حبا بعضِ حواريّ الأئمّةِ (عليهم السّلام) بمثلِ هذا العلمِ، كرشيدٍ الهجري (رضوانُ الله عليه)، فقد روى الشيخُ الكلينيّ في [الكافي ج1 ص484] بإسنادِه عن إسحاقَ بنِ عمّار، قالَ: « سمعتُ العبدَ الصّالحَ [يعني الإمامَ الكاظمَ (عليه السّلام)] ينعى إلى رجلٍ نفسَه، فقلتُ في نفسي: وإنّه ليعلمُ متى يموتُ الرّجلُ من شيعتِه؟! فالتفتَ إليّ شبهَ المُغضبِ، فقالَ: يا إسحاقُ، قد كانَ رشيدٌ الهجريّ يعلمُ علمَ المنايا والبلايا، والإمامُ أولى بعلمِ ذلك »، ورواهُ الشيخُ الكشيّ كما في [إختيارِ معرفةِ الرّجال ج2 ص709].
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق