هل يتمكن الإلحاد من إيجاد تفسير مادي للأخلاق؟
(9)يقول الملحدون: في البداية كانت الدوافع المادية هي وراء المواقف الأخلاقية، هذه الدوافع هي في الإيثار مثلاً تقدم الدعم للأقربين من اجل الشهرة، أو من أجل الحصول على دعم مماثل، أو من اجل المصلحة، لكن فيما بعد هذه الأهداف وضعت جانباً، وأصبحت الرغبة في الإيثار رغبة مستقلة. ومن هنا فإن الانتخاب الطبيعي في زمن الأسلاف عندما كنا نعيش في مجموعات جوالة كالبابون برمجت في عقولنا الميول الإيثارية إلى جانب الميول الجنسية والجوع والخوف من الأجنبي وما شابه ذلك، وعندما يقرأ زوجان من الأذكياء اليوم كتاب داروين فإنها يعرفان أن السبب النهائي لاندفاعهم الجنسي هو التكاثر، ويعلمون بأن المرأة لن تحمل لأنها اخذت حبوب منع الحمل، فهل تتوقف رغبتها الجنسية لأن الهدف النهائي من ذلك لا يتحقق وهو التكاثر بسبب استخدام حبوب الحمل؟ بل أصبحت الرغبة الجنسية مستقلة، وهكذا الأمر في كل القضايا الأخلاقية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
يبدو أن هذا الكلام مبني على الفذلكة التي عمل ريتشارد دوكنز على تسويقها بوصفها تفسيراً علمياً لنشوء الأخلاق عند الإنسان، وقد أشرنا في رد سابق كيف أن ريتشارد حاول التخلص من الجين الأناني ليمهد الطريق لصفة الإيثار، وذلك بالتفريق بين الجين الأناني، والكائن أو الجنس الأناني، وبذلك أوهم نفسه بأن الأنانية صفة للجين وليست للكائن بما هو كائن، مع أن هذا الكائن هو عبارة عن تجمع مكثف لهذه الجينانت الأنانية.
فإذا كان الكائن الحي يحرص على البقاء والاستمرار نتيجة للأنانية المتأصل فيه، فمن أين اكتسب هذا الكائن الإثار؟
حاول رتشارد أن يُنظّر للإثار من خلال قانون الانتخاب الاجتماعي الذي جاء على وزن قانون الانتخاب الطبيعي، إلا أن ذلك لا يشكل حلاً بقدر ما يشكل خدعة وتحايل، فالتطور الذي يحدث في الكائنات الحية بحسب النظرية الداروينية يقوم على بقاء الاجدر والاقوى والاصلح، فإن قبلنا ذلك جدلاً في إطار المادة غير الواعية كيف يمكن فهمه واستيعابه ضمن الحياة العاقلة والمريدة عند الإنسان؟. والإنسان في حركته الاجتماعية يتطلع نحو الكمال في حركة واعية قد يفضل معها التضحية بالذات من أجل الاخرين، الامر الذي لا يمكن فهمه واستيعابه ضمن الانانية المتأصلة في الكائن الحي، وقانون الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح لا يوفر تبريراً منطقياً لتنازل الإنسان بمحض إرادته عن ذاته وكيانه من اجل بقاء الأخر. فالاستجابات العصبية، والسلوكيات الغرائزية، عملية غير واعية، أما السلوك الحر القائم على الوعي والإرادة والقدرة على الاختيار والتمييز فهو حتماً سلوك مختلف عن الحالة الغرائزية.
ولا يختلف معنا ريتشارد في أن الكائنات لابد أن تكون أنانية بطبعها، إلا أنه يحاول أيجاد خطة أخرى تحفظ بها الكائنات نفسها، ولا نستغرب إن كان من بين هذه الخطط أن تتحول هذه الكائنات من حالة الانانية المتأصلة فيها إلى الايثار، فيعمل على قلب كل المفاهيم ليجعل المادة مصدراً للأخلاق، وأن تمكن من ذلك وهو أمر مستحيل، لا يعدو أن يكون التفاف بعيد للوصول إلى حقيقة بديهية متأصلة في الإنسان بما يمتلكه من روح متطلعة إلى الغيب، والإصرار على تفسير الاخلاق تفسيراً مادياً أو جعل المادة هي أساس للأخلاق لا يتم إلا بالتجاوز الواضح لأبسط بديهيات العقل والمنطق، إلا أن الإلحاد اختار الطريق البعيد فجعل الاخلاق حالة مادية لا علاقة لها بالروح المتطلعة إلى الغيب، يقول ريتشارد: (وهناك بعض الظروف، وليست نادرة بأي شكل، حيث تضمن المورثة بقاءها بجعل الكائن يتصرف بطريقة ايثارية) ثم يسترسل في تقديم بعض النماذج الايثارية لكي يتجاوز وبسرعة ما احدثه من تناقض وانقلاب في المفاهيم، فمفهوم الانانية يقع في الطرف المناقض لمفهوم الايثار، ولا يمكن أن يجتمعان في لحظة واحدة وفي كيان واحد، فاللحظة التي يكون فيها الكائن اناني لا يكون مؤثراً لغيره والعكس صحيح، ويبدو ان خلط المفاهيم عنده جعله يذكر امثلة للإثار هي في الواقع أنانية في اجلى صورها، فعندما تؤثر الأخر بما عندك طمعاً فيما عنده لا يكون ذلك إيثاراً وإنما انانية متسترة بالإيثار، أما الإيثار كقيمة أخلاقية لا يمكن مقاربته بالشكل الذي قاربه ريتشارد، الامر الذي يجعلنا نشكك في معنى الاخلاق عنده من الأساس، وكي نفهم ما يقول لابد ان نستعرض الايثار عند ريتشارد كما ذكره هو.
يقول: (وهذه الظروف أصبحت مفهومة بشكل جيد في أيامنا وتصنف على فئتين رئيسيتين. المورث التي تبرمج الكائن لإيثار الأقارب الحاملين لنفس النوع من المورثات... والمثال الاوضح على ذلك هو رعاية الأطفال) فبحسب هذا الكلام فان الإنسان وبقية الكائنات الحية ترعى اطفالها لأن الجين الوراثي يملي عليها ذلك، وما يصاحب هذه الرعاية من إيثار وتضحية ليس من أجل قيمة أخلاقية مفارقة وإنما غريزة طبيعية متأصل في الكائن، ونحن لا نعارض وجود مثل هذه الغريزة في الحيوان فانه يندفع بشكل طبيعي لرعاية صغاره، ولكن تفسير الايثار كقيمة أخلاقية بهذا البعد الغرائزي فيه تجاوز للبعد المنطقي، فحتى يستقيم أي وصف لابد ان يكون هناك وصف وموصوف وبينهما تناسب، وهذا الوصف لابد ان يكون سابقاً للموصوف ويتكون في مرحلة لا علاقة لها بالموصوف، فعندما أقول: (هذه اللوحة جميلة)، لابد ان يكون معنى الجمال عندي سابق لهذه اللوحة، بل وجد وتكون في مكان أخر لا علاقة له باللوحة، وكذلك الحال في كل المفاهيم التي تنطبق على مصاديقها، وعليه فالإيثار الذي قدمه ريتشارد من خلال التربية ورعاية الصغار ليس إلا اصباغ مفهوم مسبق عنده على واقع خارجي، الامر الذي يرجعنا من جديد للتساؤل، من أين حصل عندنا مفهوم (الايثار) قبل ان نصف به أي حقيقة خارجية؟ ومن أين علمنا أنه مفهوم ذو قيمة أخلاقية؟. فمن الواضح أن الإنسان له وعي سابق بقيمة الإيثار ويرتبط معها وجدانياً وروحياً، وعلى أساس هذا الوعي يستطيع أن يميز بين الأفعال المختلفة، وليس كما يزعم ريتشارد بان الايثار كقيمة أخلاقية غير موجود عند الإنسان وغير معروف وإنما اكتسبه غريزياً بسبب الحفاظ على نوعه وجيناته الوراثية.
وإذا سلمنا معه بهذا التفسير لقيمة الايثار حينها لا بد ان يكون محصوراً بين أصحاب الجينات المشتركة وداخل الاسرة الواحدة، وهذا خلاف واقع الإيثار كقيمة أخلاقية تتجاوز كل الحدود الضيقة.
يقول: (النوع الرئيسي الآخر من الايثار والذي له تفسير دارويني متكامل هو الايثار المتبادل، (حك لي ظهري لأحك لك). وهذه النظرية قدمها لأول مرة في ميدان التطور الطبيعي العالم روبرت تريفيرس وغالباً ما يعبر عنها بمصطلحات رياضية تخص العاب الرهان، ولا تعتمد على تقاسم المورثات، وبالتأكيد تعمل بشكل ممتاز وحتى بشكل أفضل بين كائنات متباينة ومختلفة وتسمى عندها بالمتعايشات. المبدأ هو نفسه في التبادل والمقايضة الذي يعتمده الإنسان..) ولا يمكن أن نقبل باي حال من الأحوال تفسير الإيثار بهذه النماذج والامثلة، لأن طبيعة الايثار ومفهومه متقوم بعدم وجود مردود، بمعنى ان الفعل لا يقال له فعلاً إيثارياً إلا إذا لم يكن في قباله أي تعويض، واللحظة التي نتحدث فيها عن المقابل لا يكون الفعل إيثاراً، قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) هكذا تتجلى قيمة الإيثار بالشكل الذي لا يمكن تفسيره من خلال نظرية حك ظهري لأحك ظهرك.
والخلط الذي احدثه ريتشارد بين الإيثار كقيمة أخلاقية وبين الانانية يكشف عن غياب حقيقي للرؤية الأخلاقية عند الملحدين، وهذه المحاولة التي اجتهد فيها لكي يقدم تفسير طبيعي للأخلاق تكشف عن الازمة التي تواجه هذا النمط من التفكير، فكل النماذج التي قدمها في البعد الثاني للإيثار لم تكن إلا نماذج للأنانية، فالإيثار له معنى واحد قائم على العطاء بدون مقابل، قال تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (9 الإنسان). في حين أن الانانية يمكن تصورها ضمن نوعين من النماذج، الأول: من يريد مكسباً بدون مقابل، والثاني: من يريد مكسباً بمقابل، ففي كلا النموذجين تتجلى الانانية بدرجات متفاوتة، الامر الذي يجعل لنا الحق في التشكيك في فهم ريتشارد للأخلاق من الاساس.
وحتى أكون محقاً في تشكيكي انقل هنا الأمثلة التي ذكرها للإيثار يقول: (الصياد يحتاج إلى رمح والحداد يحتاج لحماً. واللا تساوي بينهما يؤدي لعقد من نوع ما. النحل يحتاج إلى الرحيق والزهور بحاجة إلى اللقاح، والزهور لا تستطيع الطيران وبالتالي فإنها تدفع للنحل الرحيق كعمولة لاستعمال اجنحتها. الطير المسمى بمرشد العسل يستطيع إيجاد عش النحل ولكنه لا يستطيع اقتحامه. والغرير (البادجر) يستطيع اقتحامه ولكنه بدون اجنحة للبحث عنهم. مرشد النحل يقود الغرير (والانسان في بعض الأحيان) للعسل بطريقة طيران مغرية ولا تستعمل تلك الطريقة في الطيران لأي غرض آخر. والطرفان يستفيدان من الصفقة. ربما تقع قطعة من الذهب تحت حجر لا يستطيع المكتشف تحريكه بمفرده. ويطلب المساعدة من الآخرين رغم أنهم سيقاسمونه لأنه بدون مساعدتهم لن يصحل على أي شيء. ومملكة الحياة غنية بأمثلة كهذه عن العلاقات المشتركة: الثيران الامريكية والعصفور ناقر الثيران، الزهو الحمر والطائر الونان، البقر والبكتريا المعوية. الايثار المشترك يعمل لأن اللا تناظر في الاحتياجات والمقدرات يساعدها في ذلك ولذلك تعمل بنجاح أكبر بين الكائنات المختلفة حيث اللا تناظر أكبر وأوضح)
ينتاب الإنسان العَجب من طريقة التفكير التي يروج بها أكبر الملحدين للإلحاد، بهذه الأمثلة يريد أن يؤسس ريتشارد لأخلاق يستغني بها الإنسان عن الإله، وانا اربو بنفسي بأن اعلق على هذه الأمثلة والنماذج التي لا علاقة لها بالإيثار لا من بعيد ولا من قريب.
بعد ذلك حاول ريتشارد ان يوجد أسباب أخرى للإيثار لها علاقة بالسمعة الطيبة وإبراز الاقتدار والهيمنة، وكل ذلك لا يؤصل للإيثار بالمعنى الأخلاقي الذي نفهمه. والمهم أنه في نهاية بحثه استعرض تجربة هاوسر في سلوك الإنسان والتي خلص فيها بان لا فرق بين المتدينين وغير المتدينين في السلوك الأخلاقي، وقد استفاد ريتشارد من ذلك ليقول: "الاستنتاج الرئيسي الذي وصل إليه هاوسر وسينغر هو بأنه ليس هناك احصائياً أي فروق تذكر بين الملحدين والمتدينين من ناحية اتخاذ قرار أخلاقي. وهذا يبدو متطابقاً مع وجهة النظر التي أتمسك والعديدين بها، بأننا لسنا بحاجة إلى الله لنكون صالحين أو طالحين) وقد غفل بان الاخلاق ليست حالة طارئة تفرض على الإنسان بسلطة فوقية، وإنما هي متأصلة في الوجدان الإنساني، ومهمة الأديان هي دفع الإنسان نحو العمل بهذه الاخلاق والتحلي بها في كل أنماطه السلوكية، ونقطة الخلاف بين المتدينين وبين الملحدين هو في مصدر هذه الاخلاق، وقد توهم الملحدون بما فيهم ريتشارد بأن أدعاء المتدينين بأن الاخلاق مصدرها الدين وبدونه لا يكون هناك أخلاق، ومن هنا عملوا على إيجاد نماذج أخلاقية من غير المتدينين وهذا خلط غير مبرر؛ لأن محل النزاع والاختلاف هو حول وجود جانب روحي في الإنسان غير جانبه المادي، وبذلك الجانب الروحي يتفهم الإنسان الأخلاق، وليس بجانبه المادي العنصري والاناني، وحالة التسامي والتجاوز التي يمتلكها الإنسان لا يمكن فهمها إلا من خلال فهم الروح التي تسعى للارتباط بالمطلق، فلو اهملنا هذه الروح ولم نعترف بوجودها كيف يمكن بعد ذلك فهم هذه القيم الأخلاقية؟ ما يقدمه الإلحاد من تصور مادي كما رأينا ريتشارد كيف يحاول ان يقارب قيمة الايثار، هي محاولة ساذجة في نظر المؤمنين بوجود قوة مطلقة تتصف بكل صفات الجمال، وروح الإنسان هي الوحيدة القادرة للاتصال بتلك القوة والاقتراب منها عبر تمثلها بتلك الصفات، ومن هنا فأن الكلام محصور حول تفسير حقيقة موضوعية موجودة يسلم بها المؤمن والملحد وهي تلك القيم الأخلاقية، والخلاف في تفسير هذه القيم ومصدر وجودها، هل هي الروح الواعية التي أوجدها الله فيه وزينها بها؟ أم هي المادة العمياء البلهاء؟
اترك تعليق