هل يسمح للملحد أن يحدثنا عن الأخلاق؟
(3)يقول دوكنز في كتابه وتحت عنوان التطرّف وتقويض العلم التطرّف الديني نزعة بدون رحمة لتخريب الثقافة العلميّة للآلاف ممن لا يحصى من الأبرياء ذوي النيّات الطيبة والعقول الشابّة المندفعة، والدين المعتدل الا متطرّف ربّما لن يفعل ذلك، ولكنّه يجعل الطريق ممهّداً للمتطرّفين عندما يتمّ تعليم الأطفال منذ نعومة أظفارهم بأنّ الإيمان بدون شك قيمة عليا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
التطرف والعنف امر تكرهه النفوس الطيبة، والقلوب الرحيمة، وينفر منه العقلاء، وتدينه الشرائع السماوية والارضية، إلا أن المدهش والعجيب حقاً أن يتحدث ريتشارد دوكنز عن ادانة التطرف من بعد أخلاقي، فيحمل الأديان المسؤولية ويبشر بعالم لا تطرف فيه مع الإلحاد، وسبب الدهشة أن ريتشارد ينطلق في بنيته المعرفية من الداروينية القائمة على قانون الانتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى، وقد ظهر هذه التعجب ايضاً على لسان ألفرد والاس الذي رفض المنظور الدارويني بوصفه لا أخلاقي ويشجع على العنف وسلطة القوة، فكتب عام 1864 يتسأل: "كيف افرز الانتخاب الطبيعي المفاهيم الأخلاقية الجيدة، كالمنطقية والإثار؟، ويرى والاس أن مبدأ الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح قد أديا إلى تفوق الإنسان الحديث على حساب الإنسان البدائي، الذي أنقرض نتيجة لعدوانية اجدادنا، أي أن بقاء الأول كان على حساب فناء الثاني. لما كانت هذه النتيجة لا تتماشى مع منظومتنا الأخلاقية، فذلك يعني أن لأخلاقنا مصدراً آخر غير الصراع، ويرى والاس أن هذا المصدر ليس إلا الإله الخالق للعقل البشري خلقاً مباشراً"
وقد حمل البعض التفكير الدارويني مسؤولية ما وقع من دمار في الحرب العالمية، وذلك للفلسفة العنصرية التي أسسها تشارلز داروين في كتابه أصل الإنسان، والذي حاول فيه البرهنة على وجود تمايز حقيقي بين البشر، وقد يرتفع هذا التمايز إلى مستوى أن يكون كل عرق نوعاً إنسانياً مستقل عن الآخر، يقول: "قام الإنسان بالارتفاع إلى منزلته الحالية. ولكن منذ أن وصل إلى المرتبة الإنسانية، فإنه قد تشعب إلى أعراق متباينة، أو كما يمكن أن يطلق عليهم بشكل أكثر انطباقاً (أنواع فرعية) وبعض تلك الأنواع الفرعية، مثل الزنوج أو الأوروبيين يكونوا غاية في التباين، إلى درجة أنه إذا تم إحضار عينة إلى عالم في التاريخ الطبيعي، بدون أي معلومات إضافية، فإن من شأنهم بلا شك، أن يتم اعتبارهم عن طريقه، على أساس أنهم أنواع صحيحة وحقيقية" .
والنتيجة المتحصلة من هذا التمايز العرقي؛ هو منح العرق المتحضر منها الحق في القضاء على العرق الهمجي، ضمن قانون البقاء للأصلح والانتقاء الطبيعي، حيث يقول فيه: "في مرحلة مستقبلية معينة، ليست ببعيدة، سوف تقوم الأعراق البشرية المتحضرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية واستبدالها في شتى أنحاء العالم." ولهذا النمط من التفكير نجد عالم التاريخ الأمريكي توماس ناب thomas knapp من جامعة لويال يقول: " كان الناس ينتظرون الحرب قبل عام 1914م بمنتهى الشغف، وكانوا يتمنون قيام الحرب، وكان الدافع لسيطرة هذا الفرح عليهم هو سيطرة الداروينية الاجتماعية على الناس في تلك الفترة حيث طُبقت في مدارس أوربـا، فهي ترى الحرب دافعـا للرقي للأقوى ودافع للنشاط"
بل الإلحاد لا يمكنه أن يؤسس لنظرية أخلاقية يمكنها أن تضبط السلوكي الشخصي للأفراد، ناهيك عن السلوك الاجتماعي، يقول إسماعيل عرفة: "أمّا ريتشارد دوكنز فقد صرّح في تغريدة له على موقع تويتر بأن الإجهاض فعل أخلاقي ومشروع طالما ليس هناك ألم، وبرّر ذلك قائلا: لأن الجنين في بطن أمّه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ. في نفس الإطار يرى الملحد الأسترالي وأستاذ الفلسفة الأخلاقية بيتر سنجر أن ممارسة البشر للجنس مع الحيوانات والبهائم أمر طبيعي ومقبول في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان، فلا خطأ في ذلك على الإطلاق، بل إنه أمر محمود طالما يؤدي إلى استمتاع الطرفين الحيوان والإنسان.
هل معنى ذلك أن الملاحدة كلهم لا أخلاقيّون؟ بالطبع لا، يقول فرانك توريك: "لا أقول بأن الملاحدة لا يعرفون الأخلاق وإنما أقول إنهم لا يمكنهم تبرير الأخلاق. نعم يمكنهم التصرّف بخُلق ويمكنهم الحكم على بعض الأفعال بأنها أخلاقية أو لا أخلاقية، لكنهم لا يستطيعون توفير قاعدة موضوعية لأحكامهم الأخلاقية. وأيا ما كان الأمر: الهولوكوست، الاغتصاب، ذبح الأطفال، أو أكل الأطفال، فلا يوجد لدى الملحدين معيار موضوعي للحكم على أي منهم. وهو الأمر الذي قرّره كذلك علي عزت بيجوفيتش قائلا: "يوجد ملحدون على خلق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي"
يقول الفيلسوف الأميركي اللاأدري توماس ناغل في كتابه "العقل والكون: لماذا يكاد يكون التصوّر المادّي الدارويني خطأ قطعا؟ أن هناك ثلاثة عناصر تعجز الرؤية الكونية المادّية أن تقدّم تفسيرا لها، وهي: الوعي، والإدراك، والقيم الأخلاقية .
ولو اعتبرنا أن عملية الانتخاب الطبيعي ليست موغلة في الأنانية، وإنما هي قائمة على انتخاب أخلاقي يراعي الخير والفضيلة، مع أنه غير ممكن بحسب النظرية الداروينية، إلا أنه ومع ذلك الاعتبار لا تكون عملية مفهومة بدون مرجعية أخلاقية، وكل ما يمكن تفهمه هو النسبية القائمة على المعيار الشخصي، لأن عملية الانتخاب الطبيعي ليست عملية حتمية تصادر إرادة الإنسان، وإنما تخضع لخياراته هو وبحسب الظروف والمرجحات، الأمر الذي يجعلنا نبحث من جديد عن أخلاق تمتلك مفهوماً مطلقاً يمكن أن يرجع إليه المجتمع في عملية الانتخاب، وبدون المعيارية الذاتية للقيم الأخلاقية لا يكون هناك مبرراً لوجودها من الأساس ناهيك عن إمكانية انتخابها اجتماعياً، وبالتالي فليعمل كل إنسان بحسبه دون أن يكون هناك رادع لفعله.
وفي الختام يتضح أن ريتشارد دوكنز لا يمتلك أي حق في الحديث عن الأخلاق أو عن التطرف طالما لا يؤمن بشيء سوى الانتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى، وعليه فإن السردية الإلحادية القائمة على الداروينية هي من أفقر السرديات أخلاقاً. أما تعليقنا على قوله: (.. ولكنّه يجعل الطريق ممهّداً للمتطرّفين عندما يتمّ تعليم الأطفال منذ نعومة أظفارهم بأنّ الإيمان بدون شك قيمة عليا.) ونحن هنا بدورنا نؤكد على ضرورة تعليم الأطفال كون الإيمان قيمة عليا وذلك لكون الإيمان يربط الأطفال بالقيم والأخلاق النبيلة.
اترك تعليق