ما هيَ سماتُ القراءةِ الحداثيّةِ للنصِّ الدّيني؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
تستوجبُ الإجابةُ على هذا السؤالِ الوقوفَ على مجموعةٍ منَ المسائلِ المُختلفة سواءٌ على المُستوى المنهجيّ أو المعرفي، وبما أنَّ المقامَ لا يساعدُ على مثلِ هذا التفصيلِ سوفَ نكتفي بالإشارةِ إلى أهمِّ سمةٍ لتلكَ القراءة.
منَ الواضحِ أنَّ المؤدّى النهائيّ للقراءاتِ الحديثةِ هيَ تعدّدُ القراءاتِ والتأصيل للنسبية الدينية، الأمرُ الذي يؤدّي إلى زعزعةِ الصورة المعهودةِ عن الإسلامِ بوصفِه مشروعاً إلهيّاً له رؤيةٌ مُحدّدةٌ في جميعِ أبعادِ الحياة، وبالتالي تنتجُ تلكَ القراءةُ أنماطاً جديدةً للإسلامِ ينسجمُ كلُّ نمطٍ منها معَ الضرورةِ العصريّةِ للحياة، وبعبارةٍ أكثرَ مباشرةً لا يحتوي القرآنُ على معانٍ مُحدّدةٍ يسعى الإنسانُ إلى إدراكِها وفهمِها، وإنّما المعاني هيَ التي يوجدُها الإنسانُ بحسبِ الأفقِ الثقافي الذي يحملهُ، أي أنَّ الإنسانَ هوَ الذي يفرضُ قناعاتِه على النصِّ بحسبِ ما يمليهِ الجوّ الثقافيّ الذي يعيشه، وتستعيرُ هذهِ النظريّةُ آلياتٍ ومناهجَ أفرزَتها الفلسفةُ الغربيّة مثل الهرمنيوطيقا، والتفكيكيّة، والبنيويّة، وغيرِها منَ النظريّاتِ التي تؤصّلُ للنسبيّة، وهذا لا يمكنُ التسليمُ به حتّى وإن كانَ الهدفُ هو استيعابُ التعدّدِ والتبريرُ لوجودِه بوصفِه نتاجاً حتميّاً لطبيعةِ الوعي الإنساني، فمنَ المُسلّمِ به أنَّ القرآنَ يُمثّلُ رسالةَ الربِّ للإنسان، الأمرُ الذي يقودُ إلى الجزمِ بوجودِ حقائقَ مُحدّدةٍ أرادَ إيصالَها عبرَ تلكَ الرّسالة، ومنَ المُسلّمِ به أيضاً أنَّ هناكَ مُشتركاً إنسانيّاً يشكّلُ الأساسَ لاستقبالِ رسائلَ ذاتِ حقائق واحدةٍ، والتشكيكُ في هذه المُسلّماتِ تشكيكٌ في إمكانيّةِ هذه الرّسالةِ منَ الأساس، أمّا التباينُ بينَ البشرِ الذي تفرضُه الظروفُ والأمزجةُ وكثيرٌ منَ العواملِ المؤثّرةِ على شخصيّةِ الإنسانِ أمرٌ مفهومٌ إلّا أنّهُ لا يتمُّ فهمهُ إلّا مِن خلالِ امتلاكِ الإنسانِ لحقائقَ ثابتةٍ تمكّنُه منَ التمييزِ بينَ الحقِّ والباطل، والقبيحِ والحسن، ولا يتوقّفُ تقبّلُ التعدديّةِ على زعزعةِ كلِّ المعرفةِ الإنسانيّة والتشكيكِ في كلِّ الحقائقِ الثابتة.
فالقراءةُ الحديثةُ المُرتكزةُ على الهرمنيوطيقا كفلسفةٍ أو كمنهجٍ لتأويلِ النصوصِ تؤكّدُ على أنَّ تأويلَ أيَّ نصٍّ عمليّةٌ مُستمرّةٌ ومُنفتحةٌ إلى ما لا نهاية تستوعبُ كلَّ الأفهامِ المُتعددةِ والمُختلفة وتراها كلّها صحيحةً حتّى وإن كانَت مُتباينةً ومختلفة، الأمرُ الذي يُهدّدُ هويّةَ النصِّ القرآني وما يحتملهُ مِن مقاصدَ ودلالات، ولخطورةِ هذهِ النتيجةِ التي تعملُ على زعزعةِ الإسلامِ كدينٍ يُمثّلُ رسالةَ الربِّ للإنسانِ لا بدَّ مِن مُناقشتِها وتقييمِها بشكلٍ علميٍّ وموضوعيّ وبخاصّةٍ أنَّ هذا المنهجَ أصبحَ له حضورٌ واضحٌ في الساحةِ الإسلاميّةِ وهناكَ مَن يتبنّاهُ ويدعو لتفعيلِه لتجاوزِ كلِّ الصّور التقليديّة للإسلامِ بحسبِ زعمه، وبحمدِ اللهِ هناكَ الكثيرُ منَ الكتبِ والدراساتِ الإسلاميّة التي تناولت هذهِ المناهجَ وبيّنَت ما تحمله مِن مخاطرَ وما تكتنفُه مِن قصورٍ منهجي.
وسوفَ نوردُ بعضَ الشواهدِ التي تؤكّدُ على أنَّ القراءةَ الحديثةَ تستهدفُ الإسلامَ بوصفِه مشروعاً إلهيّاً مُستبطِناً لحقائقَ مُحدّدةٍ يجبُ الالتزامُ بها، يقولُ نصر حامِد أبو زيد: "إنَّ القرآنَ نصٌّ دينيٌّ ثابتٌ مِن حيثُ منطوقِه، لكنّهُ مِن حيثُ يتعرّضُ له العقلُ الإنساني ويصبحُ مفهوماً يفقدُ صفةَ الثبات، إنّهُ يتحرّكُ وتتعدّدُ دلالتُه. إنَّ الثباتَ مِن صفاتِ المُطلقِ المُقدّس، أمّا الإنسانيُّ فهوَ نسبيٌّ مُتغيّر، والقرآنُ نصٌّ مُقدّسٌ مِن ناحيةِ منطوقِه، لكنّهُ يصبحُ مفهوماً بالنسبيّ والمُتغيّر، أي مِن جهةِ الإنسانِ ويتحوّلُ إلى نصٍّ إنسانيّ (يتأنسن)" (نقدُ الخطابِ الدّيني، ص 93) فالنصُّ القرآني حتّى وإن كانَ ينتمي إلى المُطلقِ إلّا أنّهُ نسبيٌّ عندَما يتعرّضُ له العقلُ الإنساني، وفي المُحصّلةِ لا يكونُ النصُّ إلّا نسبيّاً طالما لا يتعرّضُ له إلّا العقلُ الإنساني.
فالمُرتكزُ الأوّلُ لهذه القراءةِ هوَ جعلُ القرآنِ نصّاً إنسانيّاً وفكُّ ارتباطِه بالله، الأمرُ الذي يجرّدُ القرآنَ مِن خصوصيّتِه ومحوريّتِه المعرفيّة التي تختزنُ مُرادَ اللهِ تعالى، فالنصُّ الذي يكونُ أجوف - مِن أيّ قصدٍ يريدُ اللهُ إيصاله - لا يمتلكُ أيَّ قيمةٍ تُبرّرُ وجودَه منَ الأساس؛ فبهِ ومن دونِه يمكنُ للإنسانِ أن يُفكّرَ ولا يحتاجُ إلى نصٍّ يسقطُ عليهِ أفكاره، يقولُ شرفي عبد الكريم: "وما دامَ الأمرُ كذلكَ، فلا يوجدُ في الأصلِ أيُّ تأويلٍ للنصوص، بل يوجدُ استعمالاتٌ فقط: إنّنا نستعملُ النصوصَ حسبَ مقاصدِنا وغاياتِنا المُعلنةِ أو المخفيّة" (مِن فلسفاتِ التأويلِ إلى نظريّاتِ القراءة، ص 57).
ومِن هُنا لا يمكنُ اعتبارُ القراءةِ الحديثةِ جُزءاً منَ المشروعِ الإسلامي التجديدي؛ لأنّها لا تسعى لإظهارِ حقيقةِ الإسلام، وإنَّما لزعزعةِ تلكَ الحقيقة والقضاءِ نهائيّاً على وجودِها، فأيُّ معنىً يبقى للإسلامِ عندَما يُجرّدُ مِن أيّ معانٍ مُطلقةٍ يحتفظُ بها، يقولُ عبدُ الكريم سروش مؤكّداً ذلك: "إذاً المعرفة الدينيّةُ جهدٌ إنسانيٌّ لفهمِ الشريعة، مضبوط ومنهجيٌّ وجمعيٌّ ومتحرّك، ودينُ كلِّ واحدٍ هوَ عينُ فهمِه للشريعةِ، أمّا الشريعةُ الخالصة، فلا وجودَ لها إلّا لدى الشارع" (القبضُ والبسطُ في الشريعة، ص 30). فكيفَ تصبحُ المعرفةُ مُمكنةً، ومضبوطةً، ومنهجيّةً، وجمعيّةً، بحسبِ تعبيرِ سروش وفي نفسِ الوقتِ دينُ كلِّ إنسانٍ ما يفهمُه؟ فالتأسيسُ لهذا التباينِ لا ينسجمُ مع كونِ المعرفةِ مُنضبطةً ومنهجيّةً وجمعيّة.
فإذا كانَ منَ المُستحيلِ تأسيسُ معرفةٍ موضوعيّة، وكانَ الإسلامُ حقيقةً غيرَ قابلةٍ للإدراكِ فحينَها كيفَ يختلفُ هذا القولُ عن القولِ بأنّهُ ليسَ هناك إسلام؟
ومِن كلِّ ذلكَ يتأكّدُ أنَّ مشروعَ القراءةِ الحديثةِ ليسَ مشروعاً ترميميّاً لما هوَ موجود، وإنّما بناءٌ جديدٌ يتجاوزُ كلَّ الصورِ التقليديّةِ للإسلام، ولا يتمُّ ذلكَ برسمِ تصوّرٍ مفهوميٍّ جديدٍ للإسلامِ يقعُ في عرضِ المفاهيمِ الأخرى، وإنّما بإيجادِ إسلامٍ مُنفتحٍ وسيّالٍ يحتضنُ كلَّ الثقافاتِ بكلِّ ما فيها مِن تناقضات، الأمرُ الذي يكشفُ عَن مدى سيطرةِ نزعةِ الحداثةِ على أصحابِ هذا الاتّجاه، تلكَ النزعةُ التي تستخفُّ بكلِّ مشروعٍ تجديديٍّ للفكرِ الإسلاميّ ينطلقُ منَ البحثِ عمّا يحملهُ النصُّ مِن معانٍ أرادَها اللهُ منَ الإنسان.
اترك تعليق