مَا هيَ الفَلسفَة؟
كرّار محمّد: السَّلامُ عليكُم .. أخِي العزيزُ مَا هيَ الفلسفَةُ؟ ومَا علاقتُهَا بالدِّينِ الإسلاميِّ؟ ولماذَا بعضُ العلماءِ يُفتونَ بِحرحرمَةِ دراستِهَا والتَّعمُّقِ فيهَا؟ ومَا هوَ الفرقُ بينَهَا وبينَ المنطقِ؟ ومَا تقولونَ فِي القصَّةِ الَّتي تَذكُرُ أحدَ العلماءِ الماضين رحمَهُمُ اللهُ بلقائهِ معِ الإمامِ الحُجَّةِ عجَّلَ اللهُ فرجهُ الشَّريفَ وقدْ قالَ لهُ (أي الإمامُ): اترُك هذهِ العلومَ (فِي إشارَةٍ إلى تأليفِهِ كتابَاً حولَ الفلسفَةِ) فهيَ ليسَتْ مِنْ علومِنَا. رحمكُمُ اللهُ أتمنَّى الرَّدَّ والإجابَة.
هُناكَ تعريفاتٌ متعدِّدَةٌ للفلسفةِ بتعدُّدِ الحقولِ الفلسفيَّةِ الَّتي ينتمِي إليهَا التَّعريفُ، وبِمَا أنَّ السَّائلَ يهتمُّ بدورِهَا في الحقلِ الإسلاميِّ سنكتفِي بعرضِ التَّعريفِ الشَّائعِ بينَ فلاسفةِ المُسلمينَ. ويَبدُو أنَّ التَّعريفاتِ اتفقَتْ على كونِ الفلسفةِ هيَ الوصولُ إلى الحقائقِ عبرَ الطّاقةِ البشريَّةِ، فمثلاً إبنُ سينا يُعرِّفُهَا بقولِهِ: (إستكمَالُ النَّفسِ الإنسانيَّةِ بتصوُّرِ الأمورِ والتَّصديقِ بالحقائِقِ النَّظريَّةِ والعلميَّةِ على قدرِ الطَّاقةِ الإنسانيَّةِ)، بينمَا يُعرِّفُهَا إخوانُ الصَّفاءِ بقولِهِم: (مَعرفةُ حقائقِ الموجُوداتِ بحسبِ الطَّاقةِ البشريَّةِ)، أمَّا صدرُ الدِّينِ الشِّيرازيِّ يقولُ: (الفَلسفةُ إستِكمالُ النَّفسِ الإنسانيَّةِ بمعرفةِ حقائِقِ المَوجوداتِ عَلى مَا هيَ عليهِ والحُكمُ بوجُودِهَا تَحقِيقَاً بالبرَاهينِ لَا أخْذَاً بالظَّنِّ والتَّقليدِ بقدرِ الوسعِ الإنسانيِّ)، ومنَ الوَاضحِ أنَّ جميعَ التَّعريفَاتِ تؤكِّدُ على أنَّ الفلسفةَ هيَ تحصيلُ المَعرِفةِ بقدرِ الطَّاقةِ الإنسانيَّةِ، الأمرُ الَّذِي يؤكِّدُ علَى أنَّ طبيعَةَ الفلسفَةِ هيَ الاِعتِمَادُ عَلى العَقلِ دُونَ غيرِهِ فِي تَحقيقِ المَعرفةِ، ومِنْ هذهِ الحَيثيَّةِ يُمكنُنَا مَعرفَةُ التَّحفُّظَاتِ الَّتي يُبديهَا البَعضُ على الفَلسفةِ، وهيَ إهمَالُ الوَحيِ الَّذي يُعدُّ طَريقاً لا بُدَّ مِنهُ لتحقيقِ المَعرفةِ الصَّحيحَةِ بالوُجُودِ وبالأشيَاءِ، والفلسفةُ ضِمنَ التَّعريفَاتِ السَّابقةِ تجعلُ الإنسانَ قادرَاً علَى كَشفِ الحقائِقِ بِقُدرةٍ ذاتيَّةٍ ومَلكَةٍ نفسيَّةٍ، بينَمَا يُعتبَرُ العقلُ ضِمنَ الفَهمِ الإسلاميِّ فِي حَاجَةٍ دَائمَةٍ لإرشَاداتِ الوحيِ، وبالتَّالِي العَقلُ المُستبصِرُ ببصائِرِ الوَحْيِ هُوَ الَّذي يُمثِّلُ الحُجَّةَ بينَ الإنسانِ وبينَ اللهِ تَعالى، أمَّا العَقلُ الفلسفِيُّ المُتأثِّرُ بالثَّقافَاتِ اليُونانيَّةِ والمُتباينُ نَتيجَةَ التَّبَايُنَاتِ فِي التَّوجُّهَاتِ الفَلسفيَّةِ لا يُمكِنُ الوثُوقُ بهِ بَعيداً عنْ ضَمانِ الوحْيِ، وبالتَّالِي ليسَ مِنَ المُسلَّمِ القَولُ بأنَّ الفلسفةَ تُمثِّلُ النَّاتجَ الصَّافِي للعقلِ أو هِيَ الآليَّةُ المُناسِبَةُ لجَعلِ العَقلِ أكثَرَ فَاعليَّةً فِي الإطَارِ المَعرفِيِّ.
أمَّا الشِّقُّ الآخرُ مِنَ السُّؤَالِ وَهُوَ عَلاقَةُ الفلسفَةِ بالدِّينِ، فَهُوَ سُؤالٌ عريضٌ يتطلَّبُ بَحثَاً مُفصَّلَاً ولِذَا سَوفَ نَحصُرُ الإجَابةَ فِيمَا لهُ عَلاقَةٌ بإشكَاليَّةِ تأويلِ النُّصُوصِ الدِّينيَّةِ بِمَا يَتوافَقُ معَ التَّصوُّراتِ الفلسفيَّةِ، وبِذَلكَ نَكونُ قَدْ كشفْنَا عنْ سِرِّ التَّحفُّظِ الَّذي يُبديهِ بَعضُ العُلماءِ عَلى الفلسفَةِ، مِنْ أمثالِ العلَّامةِ ميرزا مَهدي الأصفهانيّ الَّذِي أشارَ السَّائلُ إلى قصتِهِ ضِمنَ سُؤَالِهِ. وبِشَكلٍ مُختصرٍ يُمكنُنَا أنْ نَقولَ إنَّ إشكاليَّةَ الفلسفةِ فِي المعرفَةِ الدِّينيَّةِ هِيَ تَصرُّفُ الفلسفةِ فِي الآياتِ القرآنيَّةِ والعمَلُ علَى تأويلِهَا حَتَّى تنسجِمَ مَعْ تَصوُّرَاتِهِم الفلسفيَّةِ، وَهذَا مَا يرفضُهُ علماءُ الشَّريعَةِ بِوصفِهِ تَلاعُبَاً فِي مُرادِ اللهِ تَعالَى، وبِالتَّالِي النِّزَاعُ الَّذِي حَدثَ مَثلاً بينَ إبنِ رُشدٍ وبينَ الفُقهاءِ، لمْ يكُنْ نِزاعَاً حولَ مَنْ يُؤمِنُ بالعقلِ وبينَ مَنْ لَا يُؤمِنُ بهِ، وَإنَّمَا كانَ نِزاعَاً بينَ مَنْ يُؤمِنُ بالفلسفَةِ المشَّائيَّةِ وبَينَ مَنْ لَا يؤمِنُ بِهَا، ومِنْ هُنَا تَحفَّظَ الفُقهاءُ علَى طريقةِ إبنِ رُشْدٍ التَّأويليَّةِ لكونِهَا تطويعَاً للنَّصِّ بِمَا يَتَناسبُ معَ الفلسفةِ المَشَّائيَّةِ. وقَدْ أشارَ مِيرزا مَهدي الأصفهانيّ إلَى عَدمِ صَلاحيَّةِ تِلكَ الفلسفةِ لفَهمِ القُرآنِ بقولِهِ: (وزَعمُوا أنَّ فهمَ مُرادَاتِ الأئمَّةِ (عليهِمُ السَّلام) يَتوقَّفُ علَى تعلُّمِ العلومِ اليُونانيَّةِ وهَذا غيرُ صحيحٍ، لأنَّ حملَ ألفاظِ الكتابِ والسُّنَّةِ عَلى المَعانِي الإصطلاحيَّةِ وتوقُّفِ هدايَةِ البَشرِ عَلى تعلُّمِهَا بعدَ بداهةِ وجَهلِ عامَّةِ الأمَّةِ بتِلكَ الإصطلاحاتِ إلَّا قليلَاً منهُمْ، مُساوقٌ لخُرُوجِ كلامِ اللهِ تعالَى وكَلامِ رَسولِهِ عَنْ طَريقِ العُقلاءِ وإحالتِهِمْ تَكميلَ الأمَّةِ إلَى مَنْ يَعلَمُ الفلسَفَةَ اليُونانيَّةَ، وهَذا نَقضَ غَرضَ البَعثَةِ وَهَدَمَ آثارَ النُّبوَّةِ والرِّسالَةِ وهُوَ ظُلمٌ دُونَهُ السَّيفُ والسِّنانُ)"(1).
ويُشيرُ السَّيِّدُ الطَّباطبائيُّ نَفسُهُ إلى تورُّطِ الفلاسفَةِ فِي تتأويلِ النُّصوصِ بقولِهِ: "وأمَّا الفلاسفَةُ، فقَدْ عَرضَ لَهُمْ مَا عرضَ للمُتكلِّمينَ منَ المُفسِّرينَ، مِنَ الوُقُوعِ فِي ورطةِ التَّطبِيقِ، وتأوِيلِ الآيَاتِ المُخالفَةِ بظاهرِهَا للمُسلَّماتِ فِي فُنونِ الفلسفةِ بالمعنى الأعمِّ، أعنِي الرِّياضيَّاتَ والطبيعيَّاتِ والإلهيَّاتِ والحكمةَ العمليَّةَ، وخاصةً المشَّائينَ، وقَدْ تأوَّلُوا الآيَاتِ الواردةَ فِي حقائِقِ مَا وراءِ الطَّبيعَةِ وآياتِ الخلقَةِ وحُدوثِ السماواتِ والأرضِ".(2)
أمَّا لماذَا يُفتِي بعضُ العلماءِ بحرمَةِ تعلُّمهَا؟ يُمكنُ إرجاعُ ذلِكَ لكونِ الفلسفةِ تُخالِفُ مَا جاءتْ بِهِ الأديانُ فِي كثيرٍ منَ الأمُورِ، مثلَ القولِ بقدمِ العالمِ زمانَاً، وصُدُورِ الخَلقِ منَ الخالقِ، ووحدةِ الوجودِ، والميعادِ الرُّوحانيِّ وليسَ الجِسمانِيِّ.. وغيرِ ذلكَ منَ الأمورِ الَّتي خَالفَ فِيها الفلاسفةُ النُّصوصَ الشَّرعيَّةَ.
وإذَا وقفنَا على رُوحِ الإسلامِ، وتعاليمِهِ، ومَناهجِهِ، وقفنَا عَلى عُمقِ الخطأِ الَّذي يُحاولُ إستعارَةَ مناهِجَ أجنبيَّةٍ، هِيَ أقرَبُ إلى رُوحِ التَّفكيرِ اليُونانيِّ منَ التَّفكيرِ الإلهيِّ القُرآنيِّ، مِمَّا يُؤدِّي حَتمَاً إلى عَواقِبَ وخيمَةٍ؛ وذلكَ لكونِ الفلسفةِ ليسَتْ طريقةً فِي التَّفكيرِ وإنَّمَا هيَ مَبانٍ مَعرفيَّةٌ لَهَا جُذورُهَا الخَاصَّةُ الَّتي قَدْ تَتقَاطَعُ معَ القُرآنِ فِي كثيرٍ منَ المبانِي، فَلا يُستبعَدُ أنْ تُشكِّلَ حِجابَاً بينَ الإنسانِ وبينَ معرفةِ مَا أرادَ اللهُ فِي آياتِهِ، والنَّمَاذِجُ كثيرَةٌ جِدَّاً الَّتِي تَشهدُ عَلى تطويعِ النُّصوصِ وإخراجِهَا عَنْ مَعانيهَا الوَاضحَةِ عَلى أيدِي بَعضِ الفلاسفَةِ، فَمنَ الضَّروريِّ عَلى طالِبِ العِلمِ الاِشتِغالُ أوَّلاً بتحصِيلِ مَعارِفِ القُرآنِ وأهلِ البَيتِ عليهِمُ السَّلامُ وبَعدَ أنْ يَتحصَّنَ جَيِّدَاً يُمكنُهُ الإطِّلاعُ عَلى مَا يَقولُهُ الآخَرونَ حَتَّى يكتشِفَ البَونَ الشَّاسِعَ بينَ المَعارِفِ الإلهيَّةِ والمَعارفِ البَشريَّةِ.
____________________
(1) الاصفهاني، ميرزا مهدي، أبواب الهداية صورة من نسخة مخطوطة.
(2) الطباطبائي، العلامة محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن ج1 ص 6
اترك تعليق