هل صحيحٌ أنّه كانَت معَ نوح (ع) ابنتُه فقط، فتناسلَ الناسُ منها؟
السّلامُ عليكم ورحمة الله،
لا يصحُّ ذلك مُطلقاً، لا زواجُ الأبِ مِن ابنتِه، ولا زواجُ الأخِ من أختِه، إذ بينّا في جوابٍ سابقٍ عن أصلِ حقيقةِ التناسلِ بينَ البشرِ بالاستنادِ إلى ما ورد عن أئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام الذين أنقذنا اللهُ بهم مِن زيفِ الزائفينَ وتدليسِ المُبطلين، إذ بينّا هناكَ أنّ أصلَ التناسلِ قد حصلَ حينَ أنزلَ اللهُ تعالى حوراءَ منَ الجنّةِ إلى آدم (ع)، فزوّجَها أحدَ ابنيه، وتزوّجَ الآخرُ من الجنّ فولدتا جميعاً، ونعيدُ ذكرَ بعضٍ مِن تلكُم الرواياتِ لمزيدِ الفائدة، فمنها:
1- ما وردَ عن معاويةَ بنِ عمّار قالَ: سألتُ أبا عبدِ الله عليهِ السّلام عَن آدمَ أبي البشرِ أكانَ زوّجَ ابنتَه مِن ابنِه؟ فقالَ: معاذَ الله، واللهِ لو فعلَ ذلكَ آدمُ عليهِ السّلام لما رغبَ عنهُ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله، وما كانَ آدمُ إلّا على دينِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله، فقلتُ: وهذا الخلقُ مِن ولدِ مَن هُم ولم يكُن إلّا آدمُ وحواء؟ لأنَّ اللهَ تعالى يقول : { يا أيّها الناسُ اتّقوا ربّكم الذي خلقَكم مِن نفسٍ واحدةٍ وخلقَ منها زوجَها وبثَّ منهُما رجالاً كثيراً ونساء } فأخبرنا أنَّ هذا الخلقَ مِن آدمَ وحوّاء عليهما السّلام فقالَ عليهِ السّلام: صدقَ اللهُ وبلّغَت رسلهُ وأنا على ذلكَ منَ الشاهدين، فقلتُ: ففسِّر لي يا ابنَ رسولِ الله، فقالَ: إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لمّا أهبطَ آدمَ وحوّاء إلى الأرضِ وجمعَ بينَهما ولدَت حوّاءُ بنتاً فسمّاها عناقاً، فكانَت أوّلُ مَن بغى على وجهِ الأرضِ فسلّطَ اللهُ عليها ذئباً كالفيلِ ونسراً كالحمارِ فقتلاها، ثمَّ ولدَ له أثرَ عناقٍ قابيلُ بنُ آدم، فلمّا أدركَ قابيلُ ما يدركُ الرّجلُ أظهرَ اللهُ عزَّ وجلَّ جنّيّةً مِن ولدِ الجان يقالُ لها جهانة في صورِة إنسيّة، فلمّا رآها قابيلُ ومقها فأوحى اللهُ إلى آدم: أن زوِّج جهانةَ مِن قابيل فزوّجَها مِن قابيل، ثمَّ ولدَ لآدم هابيل فلمّا أدركَ هابيلُ ما يدركُ الرّجلُ أهبطَ اللهُ إلى آدمَ حوراء واسمُها ترك الحوراء، فلمّا رآها هابيلُ ومقَها فأوحى اللهُ إلى آدمَ أن زوِّج تركاً مِن هابيل ففعلَ ذلك، فكانَت تركُ الحوراءُ زوجةَ هابيل بنِ آدم ... (البحار : 11 : 227)
2- وعن أبي جعفرٍ (عليه السّلام) قالَ : إنَّ اللهَ عزّ وجلّ أنزلَ حوراءَ منَ الجنّةِ إلى آدم فزوّجَها أحدَ ابنيه، وتزوّجَ الآخرُ الجنَّ فولدتا جميعاً، فما كانَ منَ النّاسِ مِن جمالٍ وحسنِ خلقٍ فهوَ منَ الحوراءِ، وما كانَ فيهم مِن سوءِ الخلقِ فمِن بنتِ الجانِّ، وأنكرَ أن يكونَ زوّجَ بنيهِ مِن بناتِه (البحارُ عنِ العِلل: 45)
وللمزيدِ راجع بحارَ الأنوار المُجلّد الحادي عشر الباب الخامس تزويجُ آدم حوّاء وكيفيّةُ بدءِ النسلِ منهما.
وما تراهُ في كلماتِ بعضِ الأعلامِ مِن قبولِ وقوعِ زواجِ الأختِ منَ الأخ فإنّما ذلك يجري بحسبِ الإمكان، خصوصاً وأنّ بعضَهم عَـدَّ ذلك حُكماً تشريعيّاً راجعاً إلى اللهِ سُبحانه، فلهُ أن يُبيحَه يوماً ويُحرِّمه آخر، مؤيّداً ذلك بما قاله اللهُ سبحانَه وتعالى في مُحكمِ كتابه: ﴿وَاللّهُ يَحكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ﴾ [الرعد:41] وبما قاله أيضاً: ﴿إِنِ الحُكمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾ [يوسف:40]. ثمَّ تراه بعدَ ذلكَ يستندُ إلى ظاهرِ إطلاقِ قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء﴾ [النساء:1] ، إذ تراه يَعُـدُّ النسلَ الموجودَ في الإنسانِ إنَّما ينتهي إلى آدم وزوجتِه على سبيلِ الانحصار، مِن غير أن يشاركهُما في ذلكَ غيرُهما مِن ذكرٍ أو أُنثى!!
وهذا الكلامُ فيه نظر، لأنّ قوله تعالى:﴿وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء﴾ يشيرُ إلى بيانِ كيفيّةِ تولّدِ الخلقِ من تلكَ النفسِ والروحِ المخلوقِ منهما البنين والبنات الكثيرة، للدّلالةِ على القُدرةِ القاهرةِ التي مِن حقّها أن تُخشى والنعمةِ الباهرةِ التي توجبُ طاعةَ مولاها لاسيّما أنّ الآياتِ التي بعدَها تؤيّد ذلك. فلا علاقة – إذن - للآيةِ بحصرِ الخلقِ بأبناءِ آدمَ وبناتِه، [ينظر: تفسيرُ كنزِ الدقائق للميرزا المشهديّ ج3/ص312].
أضِف إلى ذلك أنّنا نعلمُ أنّ الأحكامَ تابعةٌ للمصالحِ والمفاسدِ الواقعيّة، وليسَت مجرّدَ أمورٍ مجعولةٍ تكتسبُ قيمتَها مِن نفسِ إنشائِها وجعلها. وهذا معناه: أنّه لا يمكنُ أن يكونَ زواجُ الأخِ بأختِه حلالاً، ولا زواجُ الأبِ مِن ابنتِه حلالاً ثمَّ يصيرُ حراماً، لأنّ المنعَ فيه إنّما هوَ لخصوصيّةٍ ومفسدةٍ واقعيّة أدّت إلى إلزامِ الناسِ بالابتعادِ عنه. والمصالحُ والمفاسدُ قد تكونُ ظاهرةً ومعلومة، وقد تكونُ ممّا يحتاجُ إلى تعليمٍ وكشفٍ وبيان، فإذا تولّى الشارعُ الكشفَ عن هذه المصالحِ والمفاسد، فيدركُ العقلُ القُبحَ والحُسنَ في مجالِ العمل، مِن حيثُ يحكمُ بأنّ ما فيهِ مصلحةٌ واقعيّة لا بدّ أن يكونَ ممّا ينبغي فعله، وما فيهِ مفسدةٌ واقعيّة فهوَ ممّا ينبغي تركه. وحُكمُ الشارعِ بحُرمةِ زواجِ الأخِ بأختهِ، أو زواجِ الأبِ بابنتِه إنّما هو حكمٌ مؤبّدٌ، مترتّبٌ على الموضوعِ بعنوانِه الأوّلي. أي مِن حيثُ هو أبٌ وابنته، أو أخٌ وأخته، إذ يكشفُ عن وجودِ مفسدةٍ واقعيّةٍ اقتضَت هذا الحُكم...، فيأتي العقلُ العمليّ ليحسِّنَ ما ظهرَت مصلحتُه، أو ليقبّحَ عملَ ما ظهرَت مفسدته.. ولعلّ هذا هوَ السببُ في حُكمِ بعضِ الأعلام كالسبزواريّ بقُبحِ زواجِ الأخِ بأختِه فيما يرتبطُ بأبناءِ آدم (عليهِ السلام).
وأمّا أصلُ السؤالِ المُتعلّقِ بالنبيّ نوحٍ (ع)، فذلكَ نشأ مـمّا طرحَه أهلُ العلمِ مِن أقوالٍ وآراء حينَ عرضوا لقوله تعالى: {وَجَعَلنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} [الصافّات : 77]، أي بعدَ الطوفانِ الذي حصلَ لقوم نوحٍ ، وما تلاهُ من أحداثٍ، فكانَ أهلُ العلمِ يطرحونَ السؤالَ بهذه الصياغة: هل البشرُ الموجودونَ على الأرضِ هُم مِن ذرّيّةِ نوح ؟ إذ فسّرَت مجموعةٌ مِن كبارِ المُفسّرينَ الآيةَ وجعلنا ذريّتَه هُم الباقينَ بأنّ كلّ أجيالِ البشرِ التي أتَت بعدَ نوحٍ هيَ مِن ذُرّيتِه . وقد نقلَ الكثيرُ منَ المؤرّخينَ بقاءَ ثلاثةِ أولادٍ مِن ذُرّيّةِ نوحٍ هُم ( سام )، و(حام )، و( يافث ) بعدَ الطوفانِ ، وكلُّ القوميّات الموجودةُ اليومَ على الكرةِ الأرضيّة تنتهي إليهم، وقد أطلقَ على العرقِ العربيّ والفارسيّ والروميّ العرقُ السّاميّ ، فيما عُرفَ العرقُ التركيّ ومجموعةٌ أخرى بأنّهم مِن أولادِ " يافث " ، أما " حام " فإنّ ذريّتَه تنتشرُ في السودانِ والسندِ والهندِ والنوبةِ والحبشة ، وكذلكَ الأقباط والبربرُ هُم مِن ذُريّتِه أيضاً. فالبحثُ في هذهِ المسألةِ ليس المُرادُ منه معرفةُ إلى أيٍّ مِن أولادِ نوحٍ ينتسبُ كلُّ عرقٍ ، لأنّ المسألةَ بحدِّ ذاتِها هي موردُ اختلافٍ بين كثيرٍ منَ المؤرّخينَ والمُفسّرين ، ولكن المُتوخّى منَ البحثِ هو : هل كلُّ القومياتِ البشريّة تعودُ في أصلِها إلى أولادِ نوح الثلاثة. فهُنا يطرحُ هذا السؤالُ نفسَه وهو: ماذا كانَ مصيرُ المؤمنينَ الذينَ ركبوا السفينةَ معَ نوحٍ خلالَ الطوفان ؟ وهل ماتوا جميعاً مِن دونِ أن يتركوا أيّ خلفٍ لهم وإن كانَ لهم ذُريّةٌ ، فهل كانوا بناتٍ تزوجنّ مِن أولادِ نوح ؟
هذه القضيّةُ من وجهةِ نظرِ التأريخِ لا تزالُ غامضةً. وعلى أيّةِ حال فإنّ هناكَ أحاديثَ وآياتٍ قرآنيّةً تشيرُ إلى وجودِ أقوامٍ وأممٍ على الكرةِ الأرضيّة لا ينتهي أصلها إلى أولادِ نوح، منها ما وردَ في تفسيرِ عليٍّ بنِ إبراهيم عن الإمام الباقر ( عليه السّلام ) في توضيحِ الآيةِ المذكورة أعلاه : " الحقُّ والنبوّةُ والكتابُ والإيمانُ في عقبه ، وليسَ كلُّ مَن في الأرضِ مِن بني آدمَ مِن ولدِ نوح ( عليه السلام ). قالَ اللهُ عزّ وجلّ في كتابه : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلنَا احمِل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوجَينِ اثنَينِ وَأَهلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيهِ القَولُ وَمَن آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود : 40]. وقالَ اللهُ عزّ وجلّ أيضاً : {ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبدًا شَكُورًا} [الإسراء : 3].
وعلى هذا فإنّ انتهاءَ كلّ العروقِ الموجودةِ على الأرضِ إلى أبناءِ نوح أمرٌ غيرُ ثابت. [ينظر: تفسيرُ الأمثلِ للشيخِ مكارم الشيرازيّ، (ج14/ص345)]. ودمتُم سالمين.
اترك تعليق