لماذا أُدرجَ الجهادُ في بابِ العباداتِ مع أنّهُ لا يُشترطُ فيه قصدُ القُربة؟
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه،
عدَّ كثيرٌ منَ الفقهاءِ الجهادَ منَ العباداتِ، وهذهِ بعضُ كلماتِهم:
قالَ الشيخُ الطوسيّ في [الاقتصاد ص239]: « عباداتُ الشرعِ خمس: الصّلاةُ، والزكاةُ، والصّومُ، والحجُّ، والجهاد »، وقالَ في [مصباحِ المُتهجّدِ ص4]: « عباداتُ الشرعِ على ثلاثةِ أقسام: أحدُها: تختصُّ الأبدانَ، والثاني: تختصُّ الأموالَ، والثالثُ: تختصُّ الأبدانَ والأموال. فالأوّلُ كالصّلاةِ والصّوم، والثاني كالزكاةِ والحقوقِ الواجبةِ المُتعلّقةِ بالأموال، والثالثُ كالحجّ والجهاد »،
وقالَ ابنُ زهرة الحلبيّ في [غنيةِ النزوع ص33]: « اعلَم أنّ الأركانَ من عباداتِ الشرعِ خمسةٌ: الصلاةُ، والزكاةُ، والصومُ، والحجُّ، والجهادُ »، وقالَ ابنُ حمزةَ الطوسيّ في [الوسيلة ص45]: « عباداتُ الشرعِ عشرٌ: الصلاةُ، والزكاةُ، والصومُ، والحجُّ، والجهادُ، وغسلُ الجنابةِ، والخُمسُ، والاعتكافُ، والعُمرة، والرّباط ».
وقالَ المُحقّقُ الحلّيّ في [شرائعِ الإسلام ج1 ص7]: « القسمُ الأوّل: في العباداتِ، وهي عشرةُ كتبٍ، نبدأ بالأهمِّ منها فالأهم، كتابُ الطهارة.. كتابُ الصّلاة.. كتابُ الزكاة.. كتابُ الخُمس.. كتابُ الصّوم.. كتابُ الاعتكاف.. كتابُ الحجّ.. كتابُ العُمرة.. كتابُ الجهاد.. كتابُ الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ».
وقالَ يحيى بنُ سعيدٍ الحليّ في [نزهةِ الناظر ص7]: « إنّ العباداتِ كثيرةٌ، والذي قد حصرتُ منها خمساً وأربعينَ قسماً وهي: الطهارةُ ـ وضوءاً كانَ أو غُسلاً أو تيمّماً ـ، وإزالةُ النجاساتِ عن البدنِ والثياب، والصلاةُ، والزكاةُ، والصّومُ، والحجُّ وما يتبعُه، والجهادُ، والاعتكافُ، والخُمسُ، والعُمرة، والرّباطة.. »
وقالَ عليٌّ بنُ محمّد السبزواريّ في [جامعِ الخلافِ والوفاق ص14]: « اعلم أنّ أركانَ عباداتِ الشرعِ خمسة: الصلاةُ، والزكاةُ، والصّوم، والحجُ، والجهاد ».
هؤلاءِ الفقهاءُ وغيرُهم عدّوا الجهادَ ضمنَ العبادات، وبعضُ العلماءِ أهملوا ذكرَه عندَ تعدادِ العبادات، كالديلميّ في [المراسمِ العلويّة ص28] إذ قال: « فالعباداتُ تنقسمُ ستّةَ أقسام: طهارةٌ، وصلاةٌ، وصومٌ، وحجٌّ، واعتكافٌ، وزكاة »، وكأبي يعلى سلار أيضاً، ينظر: [نزهةُ الناظر ص6].
و المُلاحظُ أنّ أكثرَ الفقهاءِ الذينَ عدّوا الجهادَ من العباداتِ أهملوا شرطَ قصدِ القُربة ـ أي قصدَ الأمر ـ عندَ ذكرِ أحكامِ الجهاد، فلم ينصّوا على لزومِها ولا على عدمِ لزومِها، مع تنصيصِهم على كونِها منَ العباداتِ كما هوَ واضح.
وبناءً على هذا اختلفَ موقفُ العلماءِ على ثلاثةِ أنحاءٍ في أنّ الجهادَ فعلٌ عباديّ أو توصّليّ، يشترطُ فيهِ قصدُ القُربةِ أو لا:
النحو الأوّل: أنّ تنصيصَ الفقهاءِ على كونِ الجهادِ منَ الأمورِ العباديّة، والعباداتُ يشترطُ فيها قصدُ القُربة، فيُلتزمُ بلزومِ قصدِ القربةِ عندَ الجهاد، ولعلّ عدمَ تنصيصِ كثيرٍ منَ الفقهاءِ على لزومِ قصدِ القُربةِ لارتكازيّةِ ذلك أو لاكتفائِهم بها سابقاً.. قالَ أبو الصّلاحِ الحلبيّ في [الكافي في الفقه ص246]: « يجبُ جهادُ كلٍّ منَ الكفّارِ والمُحاربينَ من الفسّاق.. على جهةِ القربةِ إليهِ سبحانَه والعبادةِ له، على كلّ رجلٍ، حرٍّ، كاملِ العقل، سليمٍ من العمى والعرجِ والمرض، مُستطيعٍ للحرب.. »، وذكرَ فخرُ المُحقّقينَ في [الفخريّةِ في معرفةِ النيّة ص83] في كتابِ الجهادِ والمُرابطة: « ونيّتُه إذا توجّهَ إلى الجهاد: أتوجّهُ إلى الجهادِ لوجوبِه قُربةً إلى الله ». وكلامُ الحلبيّ صريحٌ بلزومِ نيّةِ القربة، وكلامُ الفخرِ قد يظهرُ منهُ ذلك.
وقد يظهرُ لزومُ قصدِ القربةِ ممّا رُويَ عن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليه وآله) أنّه قال: « إنّما الأعمالُ بالنيّاتِ، ولكلِّ امرئٍ ما نوى، فمَن غزا ابتغاءَ ما عندَ اللهِ فقد وقعَ أجرُه على الله، ومن غزا يريدُ عرضَ الدّنيا أو نوى عقالاً لم يكُن له إلّا ما نوى ». [مسائلُ عليٍّ بنِ جعفر ص346، الأمالي للطوسي ص618]
النحو الثاني: أنّ تنصيصَ الفقهاءِ على عباديّةِ الجهادِ مِن جهة، وعدم تنصيصِهم على قصدِ القُربةِ مِن جهة أخرى، قد يكونُ ذلكَ مِن أجلِ كونِ الجهادِ بنفسِه وبذاتِه فعلاً قربيّاً، فيكفي قصدُ نفسِ الجهادِ لتحقّقِ العباديّة؛ باعتبار أنّه لحفظِ الدينِ وإعلاءِ كلمةِ الإسلام، فطبيعةُ الجهادِ قربيّةٌ، ولا يلزمُ قصدُ القربةِ زائداً على قصدِ ذاتِ الجهاد.. قالَ السيّدُ السبزواريّ في [مهذّبِ الأحكام ج15 ص78]: « مُقتضى ظواهرِ الأخبارِ أنَّ الجهادَ في سبيلِ الله ـ بأيّ معنىً وبأيّ مرتبةٍ لوحظ ـ منَ القربيّاتِ بنفسِ ذاتِه، لا يتوقّفُ على قصدِ القربةِ زائداً على قصدِ ذاته. ولكن يظهرُ مِن خبرِ ابنِ جعفرٍ توقّفُه على قصدِ القُربة، فعن موسى بنِ جعفرٍ عن آبائِه (عليهم السّلام)، عن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله): (إنّما الأعمالُ بالنيّات، ولكلّ امرئٍ ما نوى، فمَن غزا ابتغاءَ ما عندَ اللهِ فقد وقعَ أجرُه على الله، ومَن غزا يريدُ عرضَ الدّنيا أو نوى عقالاً لم يكُن له إلّا ما نوى)، ويمكنُ حملهُ على ما ذكرناه »، وظاهرُ هذا الكلام: أنّ الجهادَ من العبادات، ولكن لا يشترطُ في امتثالِها قصدُ القُربة، بل يكفي قصدُ ذاتِ الجهادِ لأنّ الجهادَ بنفسِ ذاتِه منَ الأمورِ القربيّة ومُتمحضةٌ فيها.
النحو الثالث: أنّ للعباداتِ اصطلاحين: أحدُهما: العباداتُ قبالَ التوصّليات، فالفعلُ العباديُّ هو ما يشترطُ فيه قصدُ القربة ـ أي قصدُ الأمر ـ. والآخرُ: كلُّ عملٍ يُضافُ إلى اللهِ تعالى، سواءٌ كانَ بقصدِ القُربةِ أو قصدِ الملاكِ أو صرفِ الإضافةِ للهِ تعالى. وهذا الاصطلاحُ الثاني أعمُّ منَ الأوّل، وهو المرادُ في تبويبِ الكتبِ الفقهيّة، فهي قبالَ المُعاملات، ويمكنُ عدُّ الجهادِ من العباداتِ بهذا المعنى، فهيَ وإن كانَت توصليةً باعتبارِ عدمِ لزومِ قصدِ القربةِ فيها ولكنّها عباديّةٌ من حيثيّةِ كونِها مُضافةً للهِ تعالى وأنّها في سبيلِ الله، ولهذا نجدُ أنّ الفقهاءَ ذكروا الجهادَ ضمنَ مصاديقِ سبيلِ الله في مصرفِ الحقوِق الماليّة.
وأمّا الروايةُ النبويّةُ المُتقدّمةُ فيُرادُ بها الثواب، أي الثوابُ مشروطٌ بقصدِ القربة، وأمّا إسقاطُ الوجوبِ فلا يشترطُ فيه قصدُ القربة.
ولعلّه لهذا نجدُ جملةً منَ الفقهاءِ ما ذكروا الجهادَ ضمنَ العبادات، بل بعضُهم نصّ على كونِها منَ التوصليّات، مِن أمثال: السيّدِ أبو القاسمِ الخوئيّ كما في [مصباحِ الفقاهة ج1 ص717]، والسيّدِ محمّد سعيد الحكيم في [مصباحِ المنهاج، الطهارة ج2 ص516].
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق