هل كانَ النبيُّ (ص) يعلمُ أنّه نبيٌّ قبلَ نزولِ الوحي أم لا؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : أفضلُ ما يكونُ جواباً على هذا السؤالِ هو ما ذكرَه العلّامةُ المجلسيُّ في بحارِه عندَ تعرّضِه لعبادةِ النبيّ قبلَ البعثة، فقد أثبتَ بعدّةِ طُرقٍ نبوّتَه قبلَ أن يبعثَ بالرّسالة، حيثُ يقول: (فاعلَم أنَّ الذي ظهرَ لي منَ الأخبارِ المُعتبرة، والآثارِ المُستفيضة هوَ أنّه (ص) كانَ قبلَ بعثتِه مُذ أكملَ اللهُ عقلَه في بدوِ سنِّه نبيّاً مؤيّداً بروحِ القُدس ، يكلّمُه الملكُ، ويسمعُ الصوتَ، ويرى في المنام، ثمَّ بعدَ أربعينَ سنةً صارَ رسولاً، وكلّمَه الملكُ مُعاينةً، ونزلَ عليه القرآنُ، وأمرَ بالتبليغِ، و كانَ يعبدُ اللهَ قبلَ ذلكَ بصنوفِ العباداتِ إمّا موافقاً لِما أمرَ بهِ الناسُ بعدَ التبليغِ وهوَ أظهر، أو على وجهٍ آخر، إمّا مُطابقاً لشريعةِ إبراهيمَ (ع)، أو غيرِه ممَّن تقدّمَه منَ الأنبياء: لا على وجهِ كونِه تابعاً لهم وعامِلاً بشريعتِهم، بل بأنَّ ما أوحيَ إليهِ (ص) كانَ مُطابقاً لبعضِ شرائعِهم، أو على وجهٍ آخر نُسخَ بما نزلَ عليه بعدَ الإرسال، ولا أظنُّ أن يخفى صحّةُ ما ذكرتُ على ذي فطرةٍ مُستقيمة، وفطنةٍ غيرِ سقيمةٍ بعدَ الإحاطةِ بما أسلَفنا منَ الأخبارِ في هذا الباب، وأبوابِ أحوالِ الأنبياء: وما سنذكرُه بعدَ ذلكَ في كتابِ الإمامةِ، ولنذكُرَ بعضَ الوجوهِ لزيادةِ الاطمئنانِ على وجهِ الإجمال: الأوّلُ: أنَّ ما ذكَرنا مِن كلامِ أميرِ المؤمنينَ (ع) مِن خُطبتِه القاصعةِ المشهورةِ بينَ العامّةِ والخاصّةِ يدلُّ على أنّه (ص) مِن لدنِ كانَ فطيماً كانَ مؤيّداً بأعظمِ ملكٍ يُعلّمُه مكارمَ الاخلاقِ، ومحاسنَ الآداب، وليسَ هذا إلّا معنى النبوّةِ كما عرفتَ في الأخبارِ الواردةِ في معنى النبوّة، وهذا الخبرُ مؤيّدٌ بأخبارٍ كثيرةٍ سبقَت في الأبوابِ السابقةِ في بابِ منشئه (ص)، وبابِ تزويجِ خديجةَ وغيرِها منَ الأبواب. الثاني: الأخبارُ المُستفيضةُ الدالّةُ على أنّهم: مؤيّدونَ بروحِ القُدس مِن بدءِ حالِهم بنحوِ ما مرَّ منَ التقرير. الثالث: صحيحةُ الأحولِ وغيرُها حيثُ قال: «نحوَ ما كانَ رأى رسولُ الله (ص) مِن أسبابِ النبوّةِ قبلَ الوحي حتّى أتاهُ جبرئيلُ مِن عندِ اللهِ بالرّسالة» فدلَّت على أنّه (ص) كانَ نبيّاً قبلَ الرّسالة، ويؤيّدُه الخبرُ المشهورُ عنه (ص): «كنتُ نبيّاً وآدمُ بينَ الماءِ والطين» أو «بينَ الروحِ والجسد» ويؤيّدُه أيضاً الأخبارُ الكثيرةُ الدالّةُ على أنَّ اللهَ تعالى اتّخذَ إبراهيمَ (ع) عبداً قبلَ أن يتّخذَه نبيّاً، وأنَّ اللهَ اتّخذَه نبيّاً قبلَ أن يتّخذَه رسولاً، وأنَّ اللهَ اتّخذَه رسولاً قبلَ أن يتّخذَه خليلاً، وأنَّ اللهَ اتّخذَه خليلاً قبلَ أن يجعلَه إماماً. الرابعُ: ما رواهُ الكُليني في الصّحيحِ عن يزيد الكناسي قالَ: سألتُ أبا جعفرٍ (ع) أكانَ عيسى بنُ مريمَ حينَ تكلّمَ في المهدِ حُجّةً للهِ على أهلِ زمانِه؟ فقالَ: كانَ يومئذٍ نبيّاً حُجّةً للهِ غيرَ مُرسلٍ أما تسمعُ لقولِه حينَ قال: «إنّي عبدُ الله آتاني الكتابَ وجعلَني نبيّاً وجعلني مُباركاً أينَما كنتُ وأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دمتُ حيّاً» قلتُ: فكانَ يومئذٍ حُجّةُ اللهِ على زكريّا في تلكَ الحالِ وهوَ في المهد؟ فقالَ: كانَ عيسى في تلكَ الحالِ آيةً للناسِ ورحمةً منَ اللهِ لمريمَ حينَ تكلّمَ فعبّرَ عنها وكانَ نبيّاً حُجّةً على مَن سمعَ كلامَه في تلكَ الحالِ ثمَّ صمتَ فلم يتكلّم حتّى مضَت لهُ سنتان، وكانَ زكريّا الحُجّةَ للهِ على الناسِ بعدَ صمتِ عيسى بسنتين، ثمَّ ماتَ زكريّا فورّثَ ابنَه يحيى الكتابَ والحكمةَ وهوَ صبيٌّ صغير، أما تسمعُ لقولِه عزّوجل: «يا يحيى خُذِ الكتابَ بقوّةٍ وآتيناهُ الحُكمَ صبيّاً» فلمّا بلغَ عيسى (ع) سبعَ سنين تكلّمَ بالنبوّةِ والرسالةِ حينَ أوحى اللهُ تعالى إليه، فكانَ عيسى الحُجّةَ على يحيى وعلى الناسِ أجمعينَ إلى آخرِ الخبر.وقد وردَ في أخبارٍ كثيرةٍ أنَّ اللهَ لم يُعطِ نبيّاً فضيلةً ولا كرامةً ولا مُعجزةً إلّا وقد أعطاهُ نبيّنا (ص)، فكيفَ جازَ أن يكونَ عيسى (ع) في المهدِ نبيّاً، ولم يكُن نبيُّنا (ص) إلى أربعينَ سنة نبيّاً؟ ويؤيّدُه ما مرَّ في أخبارِ ولادتِه (ص) وما ظهرَ منهُ في تلكَ الحالِ مِن إظهارِ النبوّةِ، وما مرَّ وسيأتي مِن أحوالِهم وكمالِهم في عالمِ الأظلّةِ وعندَ الميثاق، وأنّهم كانوا يعبدونَ اللهَ تعالى ويسبّحونَه في حُجبِ النورِ قبلَ خلقِ آدمَ (ع) وأنَّ الملائكةَ منهُم تعلّموا التسبيحَ والتهليلَ والتقديسَ إلى غيرِ ذلكَ منَ الأخبارِ الواردةِ في بدءِ أنوارِهم، ويؤيّدُه ما وردَ في أخبارِ ولادةِ أميرِ المؤمنينَ (ع) أنّه عليهِ السلام قرأ الكتبَ السماويّةَ على النبيّ (ص) بعدَ ولادتِه، وما سيأتي مِن أنَّ القائمَ (ع) في حجرِ أبيهِ أجابَ عن المسائلِ الغامضةِ، وأخبرَ عن الأمورِ الغائبةِ، وكذا سائرُ الأئمّةِ: كما سيأتي في أخبارِ ولادتِهم: ومُعجزاتِهم، فكيفَ يُجوّزُ عاقلٌ أن يكونَ النبيُّ (ص) في ذلكَ أدونَ منهُم جميعاً؟الخامسُ: أنّه (ص) بعدَ ما بلغَ حدَّ التكليفِ لابدَّ مِن أن يكونَ إمّا نبيّاً عامِلاً بشريعتِه أو تابعاً لغيرِه، لِما سيأتي منَ الأخبارِ المتواترةِ أنَّ اللهَ لا يُخلي الزمانَ مِن حُجّةٍ ولا يرفعُ التكليفَ عن أحد، وقد كانَ في زمانِه أوصياءُ عيسى (ع) وأوصياءُ إبراهيم (ع) فإن لم يكُن أوحيَ إليهِ بشريعةٍ ولم يعلَم أنّهُ نبيٌّ كيفَ جازَ له أن لا يُتابعَ أوصياءَ عيسى (ع) ولا يعملَ بشريعتِهم إن كانَ عيسى (ع) مبعوثاً إلى الكافّة، وإن لم يكُن مبعوثاً إلى الكافّة، وكانَت شريعةُ إبراهيمَ (ع) باقيةً في بني إسماعيل كما هوَ الظاهر، فكانَ عليهِ أن يتّبعَ أوصياءَ إبراهيم (ع)، ويكونوا حُجّةً عليه (ص)، وهوَ باطلٌ بوجهين: أحدُهما أنّه يلزمُ أن يكونوا أفضلَ منهُ كما مرَّ تقريرُه. وثانيهما: ما مرَّ مِن نفي كونِه محجوجاً بأبي طالبٍ ، بل كانا مستودعين للوصايا. السادسُ: أنّه لا شكَّ في أنّه (ص) كانَ يعبدُ اللهَ قبل بعثتِه بما لا يعلمُ إلّا بالشرعِ كالطوافِ والحجِّ وغيرِهما كما سيأتي أنّهُ (ص) حجَّ عشرينَ حجّةً مُستسرّاً، وقد وردَ في أخبارٍ كثيرةٍ أنّه (ص) كانَ يطوفُ وأنّه كانَ يعبدُ اللهَ في حراء، وأنّه كانَ يراعي الآدابَ المنقولةَ منَ التسميةِ والتحميدِ عندَ الأكلِ وغيرِه، وكيفَ يجوزُ ذو مسكةٍ منَ العقلِ على اللهِ تعالى أن يُهملَ أفضلَ أنبيائِه أربعينَ سنةً بغيرِ عبادةٍ؟ والمُكابرةُ في ذلكَ سفسطةٌ، فلا يخلو إمّا أن يكونَ عامِلاً بشريعةٍ مُختصّةٍ به أوحى اللهُ إليه، وهوَ المطلوبُ، أو عاملاً بشريعةِ غيرِه وهوَ لا يخلو مِن وجوه: الأوّلُ: أن يكونَ علمَ وجوبَ عملِه بشريعةِ غيرِه، وكيفيّةِ الشريعةِ منَ الوحي وهوَ المطلوبُ أيضاً، لأنّه (ص) حينئذٍ يكونُ عامِلاً بشريعةِ نفسِه، موافِقاً لشريعةِ مَن تقدّمَه كما مرَّ تقريرُه في كلامِ السيّد. الثاني: أن يكونَ علمُهما جميعاً مِن شريعةِ غيرِه، وهوَ باطلٌ عُرفَت بوجهين: أحدُهما: أنّه يلزمُ كونُ مَن يعملُ بشريعتِه أفضلَ منه. وثانيهما: أنّهُ معلومٌ أنّه (ص) لم يُراجِع في شيءٍ منَ الأمورِ إلى غيرِه، ولم يُخالِط أهلَ الكتاب، وكانَ هذا مِن مُعجزاتِه (ص)، أنّه أتى بالقصصِ معَ أنّه لم يُخالِط العلماءَ ولم يتعلّم منهم: كما مرَّ في وجوهِ إعجازِ القرآن، وقد قالَ تعالى: «هوَ الذي بعثَ في الأميّينَ رسولاً منهم» والمُكابرةُ في هذا أيضاً ممّا لا يأتي بهِ عاقلٌ. الثالثُ: أنّه (ص) علمَ وجوبَ العملِ بشريعةِ مَن قبله بالوحي، وأخذَ الشريعةَ مِن أربابِها، وهذا معَ تضمّنِه للمطلوبِ كما عرفتَ ـ إذ لا يلزمُ منهُ إلّا أن يكونَ نبيّاً أوحيَ إليه أن يعملَ بشريعةٍ موافقةٍ لشريعةِ مَن تقدّمَه ـ باطلٌ بما عرفتَ منَ العلمِ بعدمِ رجوعِه (ص) إلى أربابِ الشرائعِ قط في شيءٍ مِن أمورِه، وأمّا عكسُ ذلكَ فهوَ غيرُ متصوّرٍ إذ لا يُجوّزُ عاقلٌ أن يوحيَ اللهُ إلى عبدِه بكيفيّةِ شريعةٍ لأن يعملَ بها ولا يأمرَه بالعملِ بها حتّى يلزمَه الرجوعُ في ذلكَ إلى غيرِه، معَ أنّه يلزمُ أن يكونَ تابعاً لغيرِه مفضولاً وقد عرفتَ بطلانَه، ثمَّ إنَّ قولَ مَن ذهبَ إلى أنّه (ص) كانَ عاملاً بالشرائعِ المنسوخةِ كشريعةِ نوحٍ وموسى (عليهم السلام) فهوَ أشدُّ فساداً، لأنّهُ بعدَ نسخِ شرائعِهم كيفَ جازَ له (ص) العملُ بها إلّا بأن يعلمَ بالوحي أنّه يلزمُه العملُ بها، ومعَ ذلكَ لا يكونُ عاملاً بتلكَ الشريعة، بل بشريعةِ نفسِه موافقاً لشرائعِهم كما عرفتَ، وأمّا استدلالُهم بقولِه تعالى: «ما كنتَ تدري ما الكتابُ ولا الإيمان» فلا يدلُّ إلّا على أنّه (ص) كانَ في حالٍ لم يكُن يعلمُ القرآنَ، وبعضَ شرائعِ الإيمان، ولعلَّ ذلكَ كانَ في حالِ ولادتِه قبلَ تأييدِه بروحِ القُدس، كما دلّت عليهِ روايةُ أبي حمزةَ وغيرُها، وهذا لا يُنافي نبوّتَه قبلَ الرسالةِ، و العملَ بشريعةِ نفسِه قبلَ نزولِ الكتاب، وبعدَ ما قرّرنا المطلوبَ في هذا البابِ وما ذكَرنا منَ الدلائلِ لا يخفى عليكَ ضعفُ بعضِ ما نقلنا في ذلكَ عن بعضِ الأعاظم، ولا نتعرّضُ للقدحِ فيها بعدَ وضوحِ الحق، ولو أرَدنا الاستقصاءَ في إيرادِ الدلائلِ ودفعِ الشُّبهةِ لطالَ الكلام، ولخرَجنا عَن مقصودِنا منَ الكتاب، واللهُ الموفّقُ للصّواب. (بحارُ الأنوار ج 18 مِن ص277 إلى ص281)
اترك تعليق