بأي قرآن كان الإمامُ عليّ (ع) يصلي في إمارةِ الكوفةِ،بالقرآنِ المُحرّفِ أو القرآنِ الذي أخفاه؟

: السيد رعد المرسومي

السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،كانَ أميرُ المؤمنينَ (صلواتُ اللهِ عليه) يصلّي بالقرآنِ الذي هوَ ما بينَ الدفّتين، وهوَ الرأيُ الذي عليهِ جمهورُ عُلماءِ الإماميّةِ، وإذا كانَ في سؤالِك غمزٌ وهمزٌ عن التحريفِ الذي يُتّهمُ به جمهورُ علماءِ الإماميّة، فلا بُدَّ أن تعرفَ أنّهم بيّنوا المعنى المُرادَ منَ التحريفِ الواردِ في رواياتِهم، وقد ذكَرنا ذلكَ في أكثرِ مِن مرّة، ومِن بابِ (في الإعادةِ إفادة)، نقولُ: إنّ التحريفَ في الاصطلاحِ له عدّةُ معانٍ، نذكرُ المهمَّ منها: 1- التحريفُ المعنويُّ، ويشتملُ على نوعين: أحدُهما: يرادُ به حملُ اللفظِ على معانٍ بعيدةٍ عنه ، لا علاقةَ له بظاهرِه، معَ مُخالفتِه للمشهورِ مِن تفسيرِه، وهذا النوعُ واقعٌ في القرآن، وذلكَ عن طريقِ تأويلِه مِن غيرِ علم، وهوَ مُحرّمٌ بالإجماع، إذ وردَ عن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، أنّه قال:  (مَن قالَ في القرآنِ بغيرِ علمٍ فليتبوّأ مقعدَه منَ النار)، كما في كتابِ (التبيانِ للطوسيّ 1: 24)، و(كتابِ الإتقانِ للسيوطيّ 4: 210).والثاني: يُراد به حملُ اللفظ على معانٍ بعيدة عنه، لأسباب مذهبيّة وعقديّة ونحوِهما مِـمّا ورثَه منَ الآباءِ والأجداد، تجعلهُ يُكابرُ ويراوغُ في قبولِ الحقّ الذي اطّلعَ عليه، فحالُ مَن يسلكُ مثلَ هذا السلوكِ في تفسيرِ آياتِ الكتابِ العزيز كحالِ مَن كانوا يسمعونَ كلامَ اللهِ تعالى ثُمَّ يُحرِّفُونَهُ مِن بَعدِ مَا عَقَلوه. 2- التحريفُ اللفظيُّ، مِن جهةِ الزيادةِ والنقصانِ في بعضِ آياتِه وسورِه، أو في بعضِ كلماتِه أو في بعضِ حروفِه، وفيما يلي بيانُ ذلك: أ ـ التحريفُ بالزيادة: بمعنى أنّ بعضَ المصحفِ الذي بينَ أيدينا ليسَ منَ الكلامِ المُنزل. والتحريفُ بهذا المعنى باطلٌ بإجماعِ المُسلمين، لأنّه يُفضي إلى أنّ بعضَ ما بينَ الدفّتين ليسَ منَ القرآن، وهو مِـمّا ينافي آياتِ التحدّي والإعجاز، كقولِه تعالى: ((قُل لئنِ اجتَمَعَتِ الإنسُ والجِنُّ عَلَى أن يأتُوا بمِثلِ هَذا القُرآنِ لا يأتُونَ بِمِثلِهِ وَلو كانَ بَعضُهُم لِبَعضٍ ظَهِيراً)) [الإسراء 17: 88]. ب ـ التحريفُ بالنقص: بمعنى أنّ بعضَ المصحفِ الذي بينَ أيدينا لا يشتملُ على جميعِ القرآنِ الذي نزلَ على نبيّنا محمّدٍ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، بأن يكونَ قد ضاعَ بعضُ القرآنِ على الناسِ إمّا عمداً، وإمّا نسياناً، وقد يكونُ ما ضاعَ كلمةً أو آيةً أو سورة، والتحريفُ بهذا المعنى هو مثارُ جدلٍ بينَ أهلِ العلم ، إذ ادّعى بعضُهم وقوعَه في القرآنِ الكريم استناداً إلى أحاديثَ هيَ في مُجملها إمّا ضعيفةُ السندِ وغيرُ حُجّة، وإمّا هيَ مؤوّلةٌ على وجهٍ يُخرِجُها عن إفادةِ ذلكَ التحريف، مع العلمِ بأنّ تلكمَ الأحاديثَ التي يُفهمُ منها التحريفُ إنّما هيَ أحاديثُ وأخبارٌ مدسوسةٌ وباطلةٌ، قد أعرضَ عنها محقّقو المُسلمينَ على مرِّ العصور. ج ـ تحريفُ الكلماتِ، وهو إمَّا أن يكونَ في أصلِ المصحف، وهوَ باطلٌ بالإجماع، وإمَّا أن تكونَ زيادةً واضحةً مُعلَّماً عليها بعلامةٍ مُعيّنة لبيانِ فهمِ المُرادِ مِن ذلكَ اللفظ، وهوَ جائزٌ بالاتّفاق. د ـ تحريفُ الحروفِ أو الحركات، وهذا راجعٌ إلى القراءاتِ القُرآنيّة، وهو باطلٌ إلّا في ألفاظٍ قليلةٍ كقراءةِ قولِه تعالى: ((وَامسَحُوا بِرُؤُسِكُم وَأرجُلَكُم)) [المائدة 5: 6]. بكسرِ لفظةِ (الأرجل) ونصبِها، وغيرِها مِـمّا لم يُخالِف أُصولَ العربيّةِ وقراءة جمهورِ المُسلمين، ووردَ به أثرٌ صحيحٌ. ومَن أرادَ المزيدَ منَ الإيضاحِ في هذهِ المسألة، فبوسعِه الرجوعُ إلى كتابِ (البيانِ في تفسيرِ القرآنِ للسيّدِ الخوئيّ قدس). فإذا عرفتَ ذلك تعرفُ أنّ المرادَ منَ التحريفِ الواردِ في بعضِ الروايات، مِن قبيل: (وحرّفوا آياتِ القرآن)، إنّما هوَ التحريفُ المعنويّ الذي يحملُ اللفظَ على معانٍ بعيدةٍ عمّا يُرادُ به لأسبابٍ عقديّةٍ أو مذهبيّةٍ أو نحوِهما كما تقدّمَ بيانه، وهوَ أمرٌ واردٌ لا ينكرُه إلّا مَن كانَ على السيرةِ الملتوية، والطريقةِ غيرِ المُستوية. وأمّا ما يتعلّقُ بالقرآنِ الذي أخفاهُ أميرُ المؤمنينَ (ع)، فاعلم أنّه كانَ مُرتّباً وِفقَ النزولِ كما هو معروفٌ بينَ أهلِ العلم، وبالتالي فهوَ لا يختلفُ عن القرآنِ الموجودِ بينَ أيدينا سوى في التقديمِ أو التأخيرِ في آياتِه.  قالَ الشيخُ مُحمّد عبدُ العظيم الزرقان في كتابِه، (مناهلُ العرفانِ في علومِ القرآن)، (ج1/ص370): وهذا مصحفُ عليٍّ كانَ مُرتّباً على النزولِ ، فأوّلُه « اقرأ » ثمَّ المدّثر ثمَّ « ق » ، ثمَّ المزمل ، ثمَّ « تبّت » ثمّ التكوير ، وهكذا إلى آخرِ المكّيّ والمدني. [وانظُر كتابَ مباحثٌ في علومِ القرآنِ لمنّاع القطّان، ص142].علماً أنّ هذا القرآنَ المُرتّبَ على النزولِ كانَ يتمنّى التابعيّ المعروفُ ابنُ سيرين أن يحصلَ عليه، فقد أوردَ ابنُ عبدِ البرِّ في الإستيعاب ج 3 ص 974: بالإسنادِ إلى أيّوبَ السختياني، عن محمّدٍ بنِ سيرين، قالَ: لمّا بويعَ أبو بكرٍ الصدّيقُ أبطأ عليٌّ عن بيعتِه وجلسَ في بيتِه فبعثَ إليه أبو بكر: ما أبطأ بكَ عنّي، أكرهتَ إمارتي؟ قالَ عليٌّ: ما كرهتُ إمارتَك، ولكنّي آليتُ ألّا أرتدي ردائي إلّا إلى صلاةٍ حتّى أجمعَ القرآن.قالَ ابنُ سيرين: فبلغني أنّه كتبَ على تنزيلِه، ولو أصيبَ ذلكَ الكتابُ لوجدَ فيه علمٌ كثير) . ورواهُ عبدُ الرزّاقِ في مُصنّفه ج 5 ص 450 وقالَ في هامشه: رواهُ البلاذريُّ عن ابنِ سيرين موقوفاً مُختصراً، راجِع أنسابَ الأشراف 1/587).  فإذن: جمهورُ عُلماءِ الإماميّةِ قد أجابوا عن ذلكَ بأجوبةٍ صريحةٍ واضحة، ولكن إلى يومِنا هذا فإنّ جمهورَ علماءِ السنّةِ لم يقدّموا الأجوبةَ الصريحةَ عن كثيرٍ منَ الأحاديثِ الصريحةِ والواضحةِ في التحريفِ والزيادةِ والنقصِ في القرآنِ الكريم، معَ أنّها مرويّةٌ في أصحِّ كتبِهم كالصّحيحينِ والسُّننِ والمسانيدِ وغيرِها، والعِبرةُ هُنا بمَن يُحكّمُ عقلَه ويكونُ مُنصِفاً في دراسةِ هذه الأمورِ الخطيرة، وأن لا يبقى يدورُ في فلكِ التشكيكِ ورمي التهمِ على الآخرينَ باعتمادِه على الإعلامِ المُضلّلِ الذي طالما سعى إلى تهويشِ الحقائقِ والسّعي في طمسِها، وإلّا فهناكَ يومٌ ستبلى فيه كلُّ نفسٍ بما كسبَت، ولا يظلمُ ربُّكَ أحداً. ودمتُم سالِمين.