إذا كانَ المبعثُ النبويُّ في شهرِ رجب أي أنّ النبي (ص) نزلَ عليهِ الوحي، فكيفَ يذكرُ اللهُ تعالى شأنُه أنَّ القرآنَ أنزلَ في ليلةِ القدرِ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ذُكرَ لهذا الإشكالِ عدّةُ أجوبةٍ، مِنها ما ذكرَه صاحبُ تفسيرِ الميزان، والذي مُلخّصُه، أنّ للقرآنِ نزولين ، دفعي وتدريجي، التدريجيُّ منهُ نزلَ بحسبِ الوقائعِ اليوميّة التي يعيشُها النبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وآله، أو كما يعبَّرُ عنه (نزلَ نجوماً)، وهذا النزولُ بدأ في بدايةِ البعثةِ أي في رجب، وأمّا النزولُ الدفعيُّ أي نزولُ القرآنِ على قلبِ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله دفعةً واحدةً، فقد كانَ في ليلةٍ مُباركةٍ وهيَ ليلةُ القدر في شهرِ رمضان، لذا نجدُ القرآنَ يُعبّرُ عن النزولِ التدريجيّ بـ (التنزيل)، لِما يفيدُه الفعلُ المُضارِع منَ التدرّجِ في الحدوث، وعبّرَ عن الدفعيّ بالنزول، قالَ السيّدُ الطباطبائي (ره): " والذي يعطيهِ التدبّرُ في آياتِ الكتابِ أمرٌ آخرُ فإنَّ الآياتِ الناطقةَ بنزولِ القرآنِ في شهرِ رمضان أو في ليلةٍ منه إنّما عبّرَت عن ذلكَ بلفظِ الإنزالِ الدالِّ على الدفعةِ دونَ التنزيلِ كقولِه تعالى: "شهرُ رمضانَ الذي أنزلَ فيهِ القرآن:" البقرةُ - 185 وقولِه تعالى: "حم. والكتابِ المُبين إنّا أنزلناهُ في ليلةٍ مُباركة": الدخانُ - 3، وقولِه تعالى: "إنّا أنزلناهُ في ليلةِ القدر": القدر – 1". والمُستفادُ منه (ره)، أنَّ المُرادَ منَ الكتابِ النازلِ في ليلةِ القدرِ هوَ حقيقةٌ أخرى غيرَ ما نفهمُه وهوَ بسيطٌ غيرُ مُركّبٍ مِن سورٍ وآيات، وقد عرضَ عليه التفصيلُ بعدَ ذلك، يقولُ (ره): "الكتابُ ذا حقيقةٍ أخرى وراءَ ما نفهمُه بالفهمِ العادي الذي يُقضى فيه بالتفرّقِ والتفصيلِ والانبساطِ والتدريجِ هوَ المُصحّحُ لكونِه واحداً غيرَ تدريجيّ ونازلاً بالإنزالِ دونَ التنزيل... وهذا الاحتمالُ الثاني هوَ اللائحُ منَ الآياتِ الكريمة كقولِه تعالى: "كتابٌ أحكمَت آياتُه ثمَّ فُصّلَت مِن لدنِ حكيمٍ خبير": هود - 1، فإنَّ هذا الإحكامَ مقابلُ التفصيلِ، والتفصيلُ هوَ جعلهُ فصلاً فصلاً وقطعةً قطعة فالإحكامُ كونُه بحيث لا يتفصّلُ فيه جُزءٌ مِن جُزء ولا يتميّزُ بعضٌ مِن بعض لرجوعِه إلى معنىً واحدٍ لا أجزاءَ ولا فصولَ فيه، والآيةُ ناطقةٌ بأنَّ هذا التفصيلَ المُشاهدَ في القرآنِ إنّما طرأ عليهِ بعدَ كونِه مُحكماً غيرَ مُفصّل. وأوضحُ منه قولهُ تعالى: "و لقد جئناهُم بكتابٍ فصّلناهُ على علمٍ هدىً ورحمةً لقومٍ يؤمنون، هل ينظرونَ إلّا تأويلَه يومَ يأتي تأويلهُ يقولُ الذينَ نسوه مِن قبل قد جاءَت رسلُ ربّنا بالحق:" الأعراف - 53، وقوله تعالى: وما كانَ هذا القرآنُ أن يُفترى مِن دونِ اللهِ ولكن تصديقَ الذي بينَ يديه وتفصيلَ الكتابِ لا ريبَ فيه مِن ربِّ العالمين - إلى أن قال: - بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمِه ولمّا يأتِهم تأويله: يونس - 39 فإنَّ الآياتِ الشريفة وخاصّةً ما في سورةِ يونسَ ظاهرةُ الدلالةِ على أنَّ التفصيلَ أمرٌ طارئٌ على الكتابِ فنفسُ الكتابِ شيءٌ والتفصيلُ الذي يعرضُه شيءٌ آخر". وبناءً على ما تقدّمَ فإنَّ القرآنَ بدأ نزولهُ التدريجيُّ في رجب معَ بدايةِ البعثةِ النبويّة، وأمّا الآياتُ التي تكلّمَت على نزولِ القرآنِ في شهرِ رمضان فالمرادُ مِنها نزولهُ الدفعيُّ على قلبِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله.
اترك تعليق