لماذا ابتدأ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) دعاءَ كُميل بصفةِ الرحمةِ الإلهيّةِ دونَ باقي الصّفات؟ هل مِن نُكتةٍ بلاغيّةٍ أو عقائديّةٍ لذلك؟
السلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه،إنَّ دعاءَ كُميل منَ الأدعيةِ الزاخرةِ بالمعاني العالية، وقد ابتدأ بكلمةِ: « اللهمَّ إنّي أسألُكَ برحمتِك التي وسعَت كلَّ شيء.. »، وتلاها بتسعِ كلماتٍ بهذا النمط، ففي الكلمةِ الثانية: « وبقوّتِك.. »، والثالثةِ: « وبجبروتِك.. »، والرابعةِ: « وبعزّتِك.. »، والخامسةِ: « وبعظمتِك.. »، والسادسةِ: « وبسلطانِك.. »، والسابعةِ: « وبوجهِك.. »، والثامنةِ: « وبأسمائِك.. »، والتاسعةِ: « وبعلمِك.. »، والعاشرةِ: « وبنورِ وجهك »، فهذهِ عشرُ كلماتٍ ابتدأ بها الدعاءُ وجعلَها وسائلَ إلى اللهِ تعالى، فالعبدُ يسألُ اللهَ برحمتِه وبقوّتِه وبجبروتِه و.. إلى آخرِ العشر. ثمّ بعدَ هذهِ الكلماتِ يُنادي العبدُ ربَّه بأربعِ أسماء مِن أسمائِه الشريفةِ، وهيَ: « يا نورُ، يا قدّوسُ، يا أوّلَ الأوّلين، ويا آخرَ الآخرين ». ثمَّ يقول: « اللهمَّ اغفِر لي الذنوبَ التي تهتكُ العِصم، اللهمَّ اغفِر لي الذنوبَ التي تُنزلُ النقم، اللهمَّ اغفِر لي الذنوبَ التي تغيّرُ النعم.. إلى آخرِه ». فقبلَ أن يطلبَ العبدُ غفرانَ الذنوب، يدعو اللهَ تعالى برحمتِه وقوّتِه وجبروتِه و... ويجعلها وسائطَه ويتوسّلُ بها، ويدعو اللهَ بالنورِ والقدّوسِ والأوّلِ والآخر، ثمّ يدعو العبدُ ربَّه أن يغفرَ له ذنوبَه التي تهتكُ العصم، وأن يغفرَ ذنوبَه التي تنزلُ النقم و... إلى آخرِه. إنَّ رحمةَ اللهِ تعالى أعمُّ صفاتِه وأوسعُها، شملَت جميعَ ما سواهُ تعالى، قالَ اللهُ تعالى: {وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ} [سورةُ الأعراف: 156]، وجاءَت الكلمةُ الأولى في دُعاءِ كُميل: « اللهمَّ إنّي أسألُك برحمتِك التي وسعَت كلَّ شيء »، فكلّما يُطلقُ عليه شيءٌ في جميعِ العوالمِ يكونُ مِن رحمتِه تعالى، وفي قولِه تعالى: {وَلَو أنَّمَا فِي الأَرضِ مِن شَجَرَةٍ أَقلامٌ وَالبَحرُ يَمُدُّهُ مِن بَعدِهِ سَبعَةُ أَبحُرٍ ما نَفِدَت كَلِمَاتُ الله} [سورةُ لقمان: 27] إشارةٌ إلى مظاهرِ رحمتِه الواسعة. وصفةُ الرحمةِ لها أهميّةٌ عُظمى ومنزلةٌ كُبرى عندَ اللهِ تعالى، وأوضحُ شاهدٍ على ذلكَ أنّ البسملةَ ـ التي هيَ أعظمُ آيةٍ في القرآنِ الكريم ـ قد تضمّنَت هذه الصّفةَ بشقّيها الرحمانيّةِ والرحيميّةِ، دونَ غيرِها منَ الصّفاتِ الإلهيّة، ففي اختيارِها بشارةٌ للإنسانِ بكونِه موردَ رحمةِ اللهِ تعالى وعطفِه، وفيها إشارةٌ إلى تعليمِ الإنسانِ لتوخّي الرحمةِ والمودّةِ في أفعالِه، وغيرِ ذلك. هذهِ الرحمةُ الإلهيّةُ الجليلةُ هيَ أوّلُ صفةٍ يبتدأ دعاءَ كُميلٍ بذكرِها، فيقولُ: « اللهمَّ إنّي أسألُك برحمتِك التي وسعَت كلَّ شيء »، فجعلَ مفتاحَ مُناجاتِه ودعائِه وخضوعِه بينَ يدي اللهِ تعالى هوَ توسّطُ الرحمة، وكأنّه يقولُ: يا إلهي، لقد كتبتَ على نفسِك الرحمةَ، وقلتَ: « رحمتي سبقَت غضبي »، ورحمتَك لم تختصَّ بالمؤمنينَ فقط، بل شملَت جميعَ الأشياءِ، فإنّي أسألُك بهذهِ الرحمةِ التي وسعَتني ووسعَت كلَّ شيء، أن تغفرَ ذنوبي التي تهتِكُ العصمَ وذنوبي التي تُنزِل النقمَ و... إلى آخرِه. أي: أنّ الرحمةَ الإلهيّةَ وسيعةٌ جدّاً ـ كما تقدّم ـ، وهيَ تشملُ سائرَ خلقِ اللهِ تعالى، بجميعِ أصنافِهم ومراتبِهم، فابتدأ الدعاءُ بهذهِ الصّفةِ التي هيَ أوسعُ الصّفاتِ وأشملُها، وجعلَها وسيلةً إلى طلبِ غُفرانِ الذنوب، ومنَ المعلومِ أنّ غفرانَ الذنوبِ وسترَ العيوبِ وغيرَها هيَ مِن تجليّاتِ الرحمةِ الإلهيّةِ ومظاهرِها. والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق