ما هوَ واجبُنا في هذهِ الدّنيا هل اللهُ خلقنا فقط لنعبدَ أم لأعمالٍ غيرها ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إنَّ هذا السّؤالَ في حقيقتِه يبحثُ عن فلسفةِ خلقِ الإنسان، وهل هيَ مُختصرةٌ في العبوديّةِ أم هناكَ وظيفةٌ أخرى غير العبادة؟ ويبدو أنَّ الدّاعي لهذا السّؤالِ هو أنَّ العبادةَ في تصوّرِ البعضِ قد تكونُ مُختصرةً في بعضِ الشعائرِ العباديّة، وهيَ بالتأكيدِ لا تستوعبُ كلَّ النشاطِ الإنساني في هذه الحياة، الأمرُ الذي يقودُ البعضَ للسّؤالِ عن الحِكمةِ مِن جعلِ العبادةِ محورَ وجودِ الإنسانِ وفلسفةَ خلقِه، معَ أنَّ استمرارَ الحياةِ وتقدّمَها يحتاجُ إلى الكثيرِ منَ المجهوداتِ العلميّةِ والحضاريّة، فمثلاً لو نظَرنا لمُساهمةِ الإنسانِ المُسلِم في بناءِ الحياةِ بكلِّ ما فيها مِن تفاصيلَ وتعقيداتٍ نجدُ أنَّ مُساهمتَه جدّاً محدودة، وهوَ بذلكَ قد يرى نفسَه ليس مُكلّفاً بأكثرَ مِن أداءِ شعائرِه العباديّة، ومِن هُنا يأتي السّؤالُ هل كلّفنا اللهُ بالأعمالِ الأخرى أم فقط أرادَ مِنّا تلكَ الشعائرَ العباديّة؟ وبمعنىً آخر هل خلقَ اللهُ الإنسانَ للصّلاةِ والصّومِ والزكاةِ والحجِّ وبقيّةِ العبادات؟ بحيثُ لو قامَ الإنسانُ بذلكَ سقطَت عنهُ المسؤوليّاتُ الأخرى؟ بهذا المعنى يبدو أنَّ ما طرحَهُ السّائلُ وجيهاً، (هل اللهُ خلقنا لعبادتِه فقط أم هناكَ وظائفُ أخرى؟) أمّا إذا فهِمنا العبادةَ بالشكلِ الذي يستوعبُ كلَّ نشاطٍ يقومُ به الإنسانُ حينَها لا يكونُ لهذا السّؤالِ معنى؛ لأنَّ حينَها كلُّ ما يقومُ به الإنسانُ سيكونُ نحواً مِن أنحاءِ العبادة، فإمّا تكونُ عبادةً للهِ وإمّا أن تكونَ عبادةً لغيرِه؛ وذلكَ لأنَّ العملَ والنشاطَ الذي يقومُ به الإنسانُ لا يُفهمُ إلّا مِن خلالِ الدافعِ الذي يقفُ خلفَه، فإذا كانَ دافعُه هوَ اللهُ كانَ فعلهُ عبادةً للهِ تعالى، وإذا كانَ دافعُه غيرَ اللهِ كانَ فعلهُ عبادةً لغيرِ اللهِ تعالى، ففي الأولى يتحقّقُ قولهُ تعالى: (قُل إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)، وفي الثانيةِ يتحقّقُ قولهُ تعالى: ( أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ). وقد تحدّثنا سابقاً في إجابةٍ مُفصّلةٍ عن مفهومِ العبادة، وبينّا هناكَ أنَّ العبادةَ تعني تكاملَ الإنسانِ في بُعديهِ المعنويّ والمادّيّ، ونستشفُّ هذا الأمرَ مِن قولِه تعالى: (وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ)، فالآيةُ مُضافاً إلى أنّها إجابةٌ مباشرةٌ عن السّؤالِ لماذا خلقَ اللهُ الإنسان؟ تكشفُ أيضاً عن معنى العبادةِ وفلسفتِها، وذلكَ مِن خلالِ المُقابلةِ بينَ معنى كلمةِ الخلقِ ومعنى كلمةِ العبادة، وقد فصّلنا هذا الأمرَ في الإجابةِ السّابقةِ وخلَصنا إلى الإنسانِ المخلوقِ هو الموجودُ القابلُ للنموّ والتكامل، فتصبحُ حقيقةُ العبادةِ: تكاملَ الإنسانِ والعروجَ به في مدارجِ الكمال، فإذا كانَ الإنسانُ يُمثّلُ محورَ الخلق، وكانَ تكاملُ الخلقِ مِن أجلِ الإنسان، فلا بدَّ أن يكونَ للإنسانِ تكاملٌ خاصّ، وهذا سرُّ دعاءِ الأنبياءِ والرّسلِ للعبادة، لأنّها الطريقُ الذي يُحقّقُ للإنسانِ تكاملَه، بعدَ ربطِه باللهِ مصدرِ كلِّ كمال. فمعرفةُ اللهِ سُبحانَه تعني معرفةَ الأسماءِ التي هيَ عناوينُ الكمال، فمِن اسمِ العليمِ تتحقّقُ قيمةُ العلم، ومِن اسمِ القديرِ تتحقّقُ قيمةُ القُدرة، ومِن اسمِ الرحيمِ تتحقّقُ قيمةُ الرّحمة، ومِن اسمِ الكريمِ تتحقّقُ قيمةُ الكرم ... وهكذا، كما أنَّ هذه الأسماءَ هيَ ذاتُها الطريقُ الذي يُحقّقُ العبادةَ: (وَللهِ الأَسماءُ الحُسنى فَادعُوهُ بِها). وبذلكَ، تُصبحُ غايةُ العبادةِ هيَ التكاملُ، الذي يسعى إليهِ الإنسان، فإذا كانَت فلسفةُ الإسلامِ هيَ العبادة، وفلسفةُ العبادةِ هيَ التكامل، فتكونُ فلسفةُ الإسلامِ هي التكامل، وهُنا تنسجمُ فلسفةُ الرّسالةِ الدّاعيةِ للعبادةِ معَ فلسفةِ الخلقِ الدّاعيةِ للتكامل؛ لأنَّ العبادةَ هيَ التعبيرُ الآخرُ عن التكامل. وبذلكَ يصبحُ كلُّ نشاطٍ يقومُ به الإنسانُ عبادةً طالما حقّقَ له ذلكَ تكاملاً روحيّاً ومادّيّاً، وبهذا المعنى تستوعبُ العبادةُ كلَّ عملٍ ووظيفةٍ يقومُ بها الإنسانُ في حياتِه.
اترك تعليق