لماذا اتبع النبي محمد (ص) ملة أبراهيم على الرغم من وجود ملتي اليهود و النصارى ؟

:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخي السّائلُ الكريم، ليسَ المُرادُ منَ الاتّباع، التبعيّةُ المُطلقة، وفي كلِّ شيء، وإنَّ الديانةَ الإسلاميّةَ مأخوذةٌ منَ الديانةِ الإبراهيميّةِ لخليلِ الرّحمن عليهِ السلام. بل المرادُ منَ الإتّباع، الإتباعُ في الاستقامةِ والخلوّ مِن كلِّ تناقضٍ وتحريفٍ وكذب. فالدينُ الإسلاميّ يتّبعُ الدينَ الذي جاءَ به نبيُّ الله إبراهيم عليهِ السلام، مِن حيثُ أنّه دينٌ صافٍ وخالصٌ عن كلِّ بدعةٍ وتحريفٍ وتناقض. وإلّا فالدياناتُ السّماويّةُ مِن حيثُ المبدأ واحدةٌ في أصولِها، (التوحيدُ والعدلُ والنبوّةُ والإمامةُ والمعاد)، فالدياناتُ بما هيَ أصولٌ وثوابتُ واحدة، مع وجودِ الاختلافِ الجُزئي في الشرائعِ ببعضِ فروعها، والذي يُمثّلُ بالحقيقةِ حالةً منَ التحوّلِ الارتقائي الذي لا يثلمُ وحدةَ الدين. فلأجلِ أنَّ الدينَ الإبراهيميّ لم يُحرَّف بأصولِه وأساسيّاتِه، أَمِرنا باتّباعِه (كدينٍ وليسَ كشريعة)، وإلّا فلو سلمَت الديانةُ اليهوديّةُ أو الديانةُ المسيحيّةُ منَ التحريفِ لأمِرنا باتّباعِهما أيضاً بلا فرقٍ بينَهما وبينَ الديانةِ الإبراهيميّة. لوحدةِ الدياناتِ السماويّة في أصولِها كما قُلت. ولكنَّ التحريفَ الذي طالَ الديانتين (اليهوديّةِ والمسيحيّة) في أصولِها وفروعِها ( أي كدينٍ وكشريعة) شكّلَ مانعاً مِن إتّباعهما. فهُما دينانٍ قد أدخلَ عليهِ أتباعُه النفعيّون تحريفاً كثيراً. قالَ الطوسي رحمَه الله: (بل ملّةَ إبراهيمَ حنيفاً" حُجّةٌ على وجوبِ إتّباعِ ملّة ابراهيم إذ كانَت سليمةً منَ التناقض. وكانَ في اليهوديّةِ والنصرانيّةِ تناقضٌ، وذلكَ لا يكونُ مِن عندِ الله فصارَت ملّةُ إبراهيمَ أحقُّ بالاتّباعِ مِن غيرها. والتناقضُ في اليهوديّةِ مثلَ منعِهم مِن جوازِ النسخِ ممّا في التوراةِ ممّا يدلُّ على جوازِ ذلك وامتناعِهم منَ العملِ بما تقدّمَت به البشارةُ في التوراةِ مِن اتّباعِ النبيّ الأمّي معَ إظهارِهم التمسّكَ بها، وامتناعِهم منَ الإذعانِ لِما دلّت عليهِ المُعجزة: مِن نبوّةِ عيسى، ونبوّةِ محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وآله معَ إقرارِهم بنبوّةِ موسى مِن أجلِ المُعجزةِ إلى غيرِ ذلكَ مِن أنواعِ التناقضِ. وأمّا النّصارى أبٌ وابنٌ وروحُ قدسٍ إلهٌ واحدٌ معَ زعمِهم أنَّ الأبَ ليسَ هوَ الابنُ وأنَّ الأبَ إلهٌ والابنُ إلهٌ وروحُ القُدس إله. فإذا قيلَ لهم قولوا ثلاثة آلهةٍ امتنعوا مِن ذلك).                                                              التبيانُ في تفسيرِ القرآن - الشيخُ الطوسي (ج1/ص478) قالَ تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَو نَصَارَى تَهتَدُوا قُل بَل مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ) (البقرة/136) فنحنُ مأمورونَ باتّباعِ ملّةِ إبراهيم عليهِ السّلام الذي وصفَه اللهُ تعالى بهذهِ الآيةِ بأنّهُ (حنيفاً). والحنيفُ وصفٌ، مأخوذٌ مِن حَنَفَ، والحَنَفُ هوَ الميلُ عن الضلالِ إلى الاستقامةِ، وخلافُه الجَنَف: وهوَ الميلُ عن الاستقامةِ إلى الضلال، والحنيفُ هو المائلُ إلى الاستقامة.                                                         مُفرداتُ ألفاظِ القرآن ـ للرّاغبِ الأصفهاني (ج1/ص269) بتصرّف. فالحنيفيّةُ تعني الدينَ المائلَ إلى الصّوابِ والحقِّ وهوَ دينُ الفِطرة الخالي مِن كلِّ ما يُكدّرُه، وهوَ دينٌ واحدٌ جاءَ به كلُّ الأنبياءِ والمُرسلين عليهم السلام منذُ آدمَ عليهِ السلام ونوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى عليهم السلام، إلى رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله. ولذلكَ نرى تظافرَ الآياتِ الأمرةَ بالتمسّكِ بملّةِ إبراهيم عليهِ السلام، لا لشيءٍ سِوى خلوصِه وخلوَّه منَ التحريف. قالَ تعالى: (وما جعلَ عليكم في الدينِ مِن حرجٍ ملّةَ أبيكم إبراهيم، هوَ سمّاكُم المُسلمينَ مِن قبل )   (الحجّ/78). وقالَ تعالى: (ومَن أحسنُ ديناً ممَّن أسلمَ وجهَه للهِ وهوَ مُحسِنٌ واتّبعَ ملّةَ إبراهيمَ حنيفاً ) (النساء:125). وقالَ سُبحانَه: (قُل صدقَ الله فاتّبعوا ملّةَ إبراهيم حنيفاً) (آلُ عِمران:95). إلى غيرِها منَ الآياتِ الكثيرةِ الداعيةِ إلى إتّباعِ ملّةِ إبراهيم عليهِ السلام. بل هنالكَ آياتٌ تُصرّحُ بأنَّ النبيَّ الأعظمَ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) شخصيّاً كانَ مأموراً أيضاً باتّباعِ ملّةِ إبراهيم عليهِ السلام قالَ تعالى: (ثمَّ أوحينا إليكَ أن اتّبِع ملّةَ إبراهيم حنيفاً وما كانَ منَ المُشركين ) (النحل:121). وقالَ تباركَ وتعالى: (قُل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ)             (الأنعام:161).وما ذاكَ إلّا لاستقامةِ دينِ إبراهيم الخليل وخلوصِه عن كلِّ تناقضٍ، وهوَ دينُ الفِطرة التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها. وقد تظافرَت الرواياتُ على تسميةِ الديانةِ الحنيفيّةِ بدينِ الفِطرة. فقد روى الكُليني رحمَه اللهُ عن زُرارةَ عن أبي جعفرٍ عليهِ السلام قالَ: سألتُه عن قولِ اللهِ عزّ وجل: " حُنفاءَ للهِ غيرَ مُشركين به "؟ قالَ: الحنيفيّةُ منَ الفطرةِ التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها، لا تبديلَ لخلقِ الله، قالَ: فطرَهم على المعرفةِ به.الكافي الكُليني (ج2/ص19)وروى الكُلينيّ أيضاً عن أبي جعفرٍ (ع) قالَ: كانَت شريعةُ نوح (ع) أن يعبدَ اللهَ بالتوحيدِ والإخلاصِ وخلعِ الأنداد وهيَ الفِطرةُ التي فطرَ الناسَ عليها وأخذَ مِيثَاقَهُ عَلَى نُوحٍ ع وَالنَّبِيِّينَ أَن يَعبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشرِكُوا بِهِ شَيئاً ... الحديث.                                                                                       الكافي الكُليني (ج8/ص230) ومنَ المعلومِ أنَّ نبيَّ اللهِ نوح عليهِ السلام مُتقدّمٌ على نبيّ اللهِ إبراهيم عليهِ السلام. وروى مُسلمٌ عَن عِيَاضِ بنِ حِمَارٍ المُجَاشِعِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ ... إِنِّي خَلَقتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُم وَإِنَّهُم أَتَتهُم الشَّيَاطِينُ فَاجتَالَتهُم عَن دِينِهِم وَحَرَّمَت عَلَيهِم مَا أَحلَلتُ لَهُم وَأَمَرَتهُم أَن يُشرِكُوا بِي مَا لَم أُنزِل بِهِ سُلطَانًا).                                                                                       صحيحُ مُسلم (ج14/ص24) ومُقتضى هذه الرواياتِ أنَّ الحنيفيّةَ هيَ الأصلُ الذي ينتمي إليهِ نبيُّ اللهِ إبراهيمُ الخليل، والتي ينتمي إليها أيضاً جميعُ الأنبياءِ والمُرسَلين. إلى هُنا أصبحَ الجوابُ واضِحاً للأخِ السائلِ الكريم أنَّ المُرادَ مِن إتّباعِ ملّةِ إبراهيم، هوَ الإتّباعُ في الاستقامةِ والخلوصُ مِن كلِّ خرافةٍ وتناقض، وليسَ المرادُ مِنها أنَّ الدينَ الإسلامي مُستنسَخٌ عن الديانةِ الإبراهيميّةِ وأنَّ النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله يتّبعُ نبيَّ اللهِ وخليلَه إبراهيم عليهِ السلام، في شريعتِه، فهذا غيرُ صحيحٍ لأنَّ النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله صاحبُ شريعةٍ خاتمةٍ يجبُ على الناسِ اتّباعُه. بل في بعضِ الرواياتِ أنَّ النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله نبيٌّ قبلَ نبيّ اللهِ آدم عليهِ السلام. فقد روى الحاكمُ وأحمدُ والترمذيّ وغيرُهم: (عن ميسرةَ الفخر، قالَ: قلتُ لرسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم : متى كُنتَ نبيّاً ؟ قالَ : « وآدمُ بينَ الروحِ والجسد)                                                               المُستدرَكُ على الصّحيحين للحاكِم (ج9/ ص485) وهذا الحديثُ أخرجَه جُملةٌ مِن عُلمائِهم مِنهم (ابنُ سعدٍ، وأحمدُ بنُ حنبل، والبُخاري في التاريخ، والبغوي، وابنُ السكن، والطبرانيّ، وأبو نعيمٍ في الحليةِ والدلائل، وصحّحَه الحاكم، والترمذيُّ حسّنَه وصحّحَه، وابنُ حبّان في صحيحِه، وابنُ عساكر، وابنُ قانع، والدارمي في السّنن)  ودمتُم في رعايةِ الله.