هل من الضروري أن يتناغم الدين مع الحياة؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجوابُ:

لا يمكنُ أن نفهمَ الدينَ إلّا بوصفِه أملَ الإنسانِ لحياةٍ أفضل، وأيُّ فهمٍ لا يُعزّزُ قيمةَ الحياة ولا يدفعُ الإنسانَ نحوَ إعمارِ الأرض على أساسِ قيمِ الحقِّ والفضيلة، هوَ فهمٌ لا علاقةَ له بالإسلام ولا يُمثّلُ ما أرادَه اللهُ مِن كرامةٍ للإنسان. أمّا ما عليهِ واقعُ المُسلمينَ مِن رجعيّةٍ وتخلّفٍ لا يمكنُ الدفاعُ عنه أو التبريرُ له، وما تقومُ بهِ التيّاراتُ اللادينيّة مِن تهريجٍ حولَ هذهِ الصّورِ السلبيّةِ فهيَ ليسَت إدانةً للإسلامِ بقدرِ ما هيَ إدانةٌ للإنسان سواءٌ كانَ مؤمناً أو مُلحداً لأنَّ الجميعَ يعيشُ في هذا التخلّفِ والانحطاط.

ولكي نقفَ على الصّورةِ المُشرقةِ للدّين لابدَّ أن نبحثَ عن البدايةِ التي تقودُنا إلى تحقيقِ ذلك، وقد أشارَ الإمامُ علي عليهِ السلام إلى تلكَ البدايةِ بقولِه: (أوّلُ الدينِ معرفتُه) فمعرفةُ الله هيَ التي تحقّقُ لنا فهماً حقيقيّاً للدين، وأيُّ خلطٍ في هذه المعرفةِ سوفَ ينعكسُ سلباً على معرفتِنا بالدين وبالحياةِ معاً، فالمعرفةُ النظريّةُ التصوريّةُ التي تظلُّ حبيسةَ الكُتبِ الكلاميّة هيَ المسؤولةُ عمّا وقعَ مِن إفراغٍ للدينِ مِن مُحتواه الأصيل.

فمنَ المؤكّدِ أنَّ هناكَ مساحةً فاصلةً بينَ معارفِ الإسلامِ وعقائدِه وبينَ واقعِ المُسلمين، ولا يمكنُ تقديمُ مُعالجاتٍ فاعلةٍ إلّا مِن خلالِ إعادةِ الوعي بتلكَ العقائد، ولا نقصدُ الوعيَ الذي يستحضرُ الأدلّةَ الإثباتيّةَ وإنّما الوعيَ الذي يستحضرُ المُحتوى القيميّ والثقافيّ لتلكَ العقائد، وقد عبّرَ القرآنُ عن هذا الوعي بالبصيرة، فالعقيدةُ ليسَت مُجرّدَ معرفةٍ للحقيقةِ وإنّما اتخاذُ موقفٍ يقومُ على تلكَ الحقيقة، فالهدفُ منَ المعرفةِ ليسَ مُجرّدَ التعرّفِ على الأشياء، وإنّما هوَ تحديدُ مسؤوليّةِ الإنسانِ تجاهَها، وعليهِ يمكنُ أن يكونَ الشيءُ معروفاً للمؤمنِ والكافر إلّا أنَّ المؤمنَ هوَ الذي يمتلكُ فيه البصيرةَ دونَ الكافر، ويبدو أنَّ كلمةَ البصيرةِ في القرآن هيَ التي تؤكّدُ على الجانبِ العمليّ للعقيدة، ومِن خلالِها نفهمُ المقصودَ مِن قولِه تعالى (وَيَجعَل لَّكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ)، وقولِه تعالى: (وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ)، وقولِه: (أَفَمَن يَمشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجهِهِ أَهدَىٰ أَمَّن يَمشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ)، وهذا لا يتحقّقُ بمُجرّدِ الاعتقادِ بوجودِ إلهٍ وإنّما بحضورِ هذا الاعتقادِ بشكلٍ ملموسٍ في حياةِ الإنسان، فالاعتقادُ باللهِ والتسليمُ له يعني التمرّدَ على كلِّ سلطةٍ أرضيّة، وبذلكَ يصبحُ الإنسانُ حُرّاً طليقاً لا تُقيّدُه شهوةٌ ولا يُرهِبُه طاغوت، قالَ تعالى: (وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلَالَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم) فالإنسانُ في الحياةِ إمّا أن يكونَ فاعِلاً فيها وإمّا أن يكونَ مُنفعِلاً بها، والاعتقادُ بالله وحدِه هوَ الذي يُحرّرُ الإنسانَ مِن أغلالِ الحياةِ وضغوطِها، وبذلكَ يُصبِحُ العقلُ هوَ المُتحكّمَ في خياراتِ الإنسان، وعندَها يكونُ الإنسانُ أكثرَ وعياً لمسؤوليّاتِه وأكثرَ قُدرةً على إعمارِ الأرض على أساسِ الحقِّ والفضيلة.

وعليهِ يجبُ البحثُ عن اللهِ الذي تجلّى عبرَ أسمائِه الحُسنى في الحياة، وتجلّى مرّةً أخرى في آياتِ كتابِه وأحكامِ شريعتِه، وحينَها سوفَ نرى الكونَ في الكتاب، ونرى الكتابَ في الكون؛ والإنسانُ هوَ الكائنُ الذي يُحدِثُ هذا التلاقي عندَما يتحوّلُ الكونُ عندَه كتاباً مقروءاً، ويتحوّلُ الكتابُ بينَ يديه كوناً مُتحرّكاً، والعقلُ هوَ الذي يقومُ بهذا الدورِ فعندَما يتدبّرُ في آياتِ الكون سوفَ يجدُها سُنناً وحِكماً، وعندَما يتدبّرُ في آياتِ الكتابِ سوفَ تتمثّلُ أمامَ ناظريه كوناً مُتحرّكاً.

وللتأصيلِ لهذا الأمرِ لابدَّ أن نبحثَ عن جذورِ الانحرافِ في الوعي الديني، والمؤثّراتِ التي جعلَت الدينَ صورةً جامدةً غيرَ مُتفاعلةٍ معَ طموحِ الإنسانِ وتطلّعاته، وربطِ كلِّ ذلكَ بمعرفةِ الله وما تسرّبَ في هذا الحقلِ من أفكارٍ جعلَت معرفةَ اللهِ مُجرّدَ قناعاتٍ ذهنيّةٍ مُنفصلةٍ عَن واقعِ الحياة، وبهذهِ الطريقةِ يمكنُ الكشفُ عن التصوّرِ المَعرفيّ الذي يستقيمُ معَ العلمِ والعقلِ ويُحقّقُ التفاعلَ الإيجابيَّ معَ الحياة، حيثُ لا يمكنُ أن نتصوّرَ أنَّ هنالكَ ديناً جاءَ مِن أجلِ الإنسانِ بوصفِه كائناً عاقلاً ثمَّ يأمرُه بمُخالفةِ العقل، فالدينُ الذي لا يُعطى فيه العقلُ حيّزاً محوريّاً لا يكونُ الإنسانُ هوَ المقصودَ باتّباعِه.

فإمّا أن نفهمَ الدينَ في الإطارِ الذي يُعزّزُ نقاطَ القوّةِ عندَ الإنسان، فيأمرُه بالعقلِ والعلم، ويُشجّعُه على تطويرِ القُدرات، ويأمرُه بالانفتاحِ على الحياةِ ببصيرةٍ واعية، وإمّا أن نفهمَه حِملاً ثقيلاً يمنعُ الإنسانَ مِن مُمارسةِ دورِه في الحياة، وعندَها يجبُ أن لا نُوجّهَ اللومَ إلى مَن يتخلّى عنه ويبحثُ عن غيرِه.

ويبدو أنَّ استبعادَ العقلِ عن الدين هوَ المسؤولُ عن وجودِ نوعٍ منَ التنافرِ بينَ الدينِ والحياة، وحتّى يعودَ ذلكَ التناغمُ لابدَّ مِن إعادةِ الاعتبارِ للعقلِ لكونِه الوسيلةَ الوحيدةَ القادرةَ على فهمِ الدينِ والحياةِ معاً، وبالتالي يجبُ التأكيدُ على أنَّ العقلَ هوَ البدايةُ لأيّ تأسيسٍ مَعرفيّ، حيثُ لا يمكنُ تشكيلُ وعيٍ حقيقي، يُعبّرُ عن مشروعِ الإسلامِ ودورِه الحضاريّ إذا استبعدَ العقل، أو على الأقلِّ لم يضَعه في الإطارِ الذي يجعلهُ مُنتِجاً، وعليهِ لا يمكنُ الاعترافُ بأيّ خطابٍ إسلاميّ يعملُ على عزلِ الدينِ عن الحياة.

ومنَ الواضحِ أنَّ المُسلمَ المُعاصِر لم يُساهِم في إنتاجِ تصوّرِه الخاصِّ بالإسلام، فمُعظَمُ فهمِه عبارةٌ عن موروثِ تاريخيٍّ تمَّ إنتاجُه بعيداً عن شروطِ الواقعِ الراهن، ومِن هُنا ليسَ منَ السهلِ مُقاربةُ الإسلامِ اليوم بعيداً عن عُمقِه التاريخيّ الذي تشكّلَ فيه.

ويبدو أنَّ المسافةَ التي تفصلُ بينَ المُسلمِ اليوم وبينَ مُتطلّباتِ الحاضِر، والتي ساعدَت في تحجيمِ تفاعلِه معَ ضروراتِ العصر، ترجعُ بشكلٍ أساسيٍّ إلى الرؤيةِ الثقافيّةِ التي وقعَت رهينةً للتاريخ، فالتفكيرُ الذي لا يكونُ إلّا بالرّجوعِ الدائمِ إلى الوراء، أو الذي يحاكمُ الواقعَ بمعايير الماضي، سيكونُ عقبةً أمامَ حركةِ الإنسانِ وصيرورتِه.

ولا نتجاهلُ بهذا الوصفِ المحاولاتِ الاجتهاديّةَ المُعاصرة التي سعَت إلى جعلِ الإسلامِ أكثرَ انسجاماً وواقعيّةً، إلّا أنّها جهودٌ محدودةٌ لم تتحوَّل إلى خيارٍ تتبنّاهُ كلُّ الأمّة؛ بل قد تكونُ مرفوضةً منَ الإسلامِ الكلاسيكيّ الذي يُمثّلُ التيّارَ العريضَ منَ الأمّة، فالوصفُ الذي نرى أنّه أكثرُ موضوعيّةً وواقعيّةً هوَ الوصفُ الذي يعترفُ بالحضورِ التاريخي أكثرَ مِن حضورِ الواقع، ولا ينحصرُ ذلكَ فيما يتعلّقُ بحجمِ التراثِ فحسب، وإنّما فيما نجدُه مِن نمطٍ تفكيريّ لا يستطيعُ مُقاربةَ الواقعِ إلّا بشروطٍ تاريخيّة.

وهذا الحضورُ التاريخيّ هوَ المسؤولُ عن تلكَ الانقساماتِ والتبايناتِ بينَ أبناءِ الأمّة، كما أنّهُ مسؤولٌ أيضاً عن التراجعِ الحضاريّ لمُعظمِ المُجتمعاتِ الإسلاميّة، الأمرُ الذي يجعلُ إيجادَ مُقاربةٍ للعلاقةِ بينَ الحاضرِ والتراث مِن أهمِّ المسؤوليّاتِ التي تواجهُ المُسلمَ المُعاصر.

والتاريخُ وإن كانَ محطّةً سابقةً تجاوزَها قطارُ الزمن، إلّا أنَّ ظِلالَه لا تنفكُّ تلاحقُ الإنسانَ في كلِّ المحطّاتِ التي تأتي لاحقاً، ومِن هُنا كانَ إهمالُ التاريخِ بالمُطلَق واستبعادُه بالمرّةِ يعدُّ خياراً غيرَ مُستوعبٍ لحقيقةِ الإنسان الذي لا يمكنُ فصلهُ عن ماضيه، وبخاصّةٍ فيما يتعلّقُ بالإسلامِ الذي كانَت تجربتُه الأولى تجربةً تاريخيّة، ومعَ ذلكَ فإنَّ الجمودَ على الماضي وإهمالَ الواقعِ الراهن يؤدّي إلى ضياعِ حاضرِ الإنسانِ ومُستقبلِه.

فهناكَ فاصلٌ معرفيٌّ بينَ المُسلمِ اليومَ والمُسلمِ الأوّل، وهوَ فاصلٌ تفرضُه طبيعةُ الإنسان، وطبيعةُ الواقعِ المُتغيّر، الأمرُ الذي يؤدّي إلى اختلافٍ في البُنيةِ الثقافيّةِ بينَهما، وإهمالُ هذه الخصوصيّاتِ شبيهٌ بإعدامِ الواقعِ الرّاهن وتجاوزِ كلِّ مكوّناتِه.

ومِن ذلكَ يبدو أنَّ الإنسانَ المُسلمَ بينَ ثلاثِ خيارات، الخيارُ الأوّل: هوَ أن يتبنّى تديّناً عقلانيّاً يجمعُ بينَ النصِّ والعقل، بمعنى أن يعيشَ الحياةَ كمُسلمٍ مُتديّنٍ ضمنَ ظرفِ الواقعِ الراهن، فيُحقّقُ بذلكَ وعياً إسلاميّاً أصيلاً يُوجِدُ مِن خلالِه الانسجامَ التامَّ بينَ الدينِ والحياة.

والخيارُ الثاني: أن يكفُرَ بالإسلامِ بوصفِه فِكراً تاريخيّاً لا يتماشى معَ الحياةِ المُعاصرةِ للإنسان، وهوَ بالتأكيدِ خيارٌ باطلٌ لأنَّ الكُفرَ بالإسلامِ هوَ كُفرٌ بوجودِ قيمةٍ للحياةِ منَ الأساس.

والخيارُ الثالث: هوَ الانتصارُ للإسلامِ التاريخي ضمنَ الرؤيةِ السلفيّةِ التي لا تسمحُ بالتواصلِ العقليّ معَ مُتطلّباتِ الحياةِ العَصرية، ويبدو أنَّ ذلكَ الخيار هوَ المسؤولُ عن عدمِ التناغمِ بينَ الدينِ والحياة، ومعَ ذلكَ فإنّهُ خيارٌ تقفُ خلفَه مؤسّساتٌ لها إمكاناتُها الضّخمة.

وعليهِ فمنَ الضروريّ التأكيدُ على أنَّ الخطابَ الإسلامي المُعاصر، بحاجةٍ ماسّةٍ لتفعيلِ دورِ العقل، وجعلِه أكثرَ حضوراً في تشكيلِ وعينا الراهنِ بالإسلام، وضرورةُ العقلِ ليسَت فقط مِن أجلِ الوعي بالمرحلةِ وعناوينِها المصيريّة، وإنّما أيضاً ضرورةٌ لفهمِ الإسلامِ ضمنَ عناوينِه الكُلّيّة.

وفي المُحصّلةِ لا بدَّ أن نعترفَ بوجودِ أزمةٍ على مُستوى الخطابِ الإسلاميّ بشكلٍ عام، وبالتالي لابدَّ مِن تفكيكِ الإسلامِ التاريخي بمنهجيّةٍ واقعيّة، وبعقليّةٍ منطقيّة، وبروحيّةٍ عِلميّة، حتّى نتمكّنَ مِن بناءِ رؤيةٍ إسلاميّةٍ تجعلُ الإسلامَ أكثرَ حضوراً في الحياة، فالتكاملُ بينَ الوحي والعقلِ هوَ الضمانُ لتحقيقِ فهمٍ إسلاميّ مُستوعِبٍ لكلِّ قيمِ الدينِ وحِكمِه، وبالتالي ينضبطُ العقلُ بهذه الحِكم، ويسترشدُ بهذهِ القيمِ في مُلاحقتِه للواقع، فمِن دون الوحي المُذكّرِ بهذه القيمِ تغيبُ الضوابطُ التي تُحدّدُ مسارَ العقل، ومن دون العقلِ تصبحُ هذه القيمُ حالةً مثاليّةً ليسَ لها علاقةٌ بالواقع؛ لأنَّ العقلَ هو الذي يكتشفُ الواقعَ المُتغيّر، وهوَ نفسُه الذي يقومُ بإرجاعِ تلكَ المُتغيّراتِ إلى القيمِ التي يُذكّرُ بها الوحي.

هذهِ التكامليّةُ هيَ التي تمنحُ الدينَ حالةَ الاستمرار، بحيثُ يصبحُ في حالةٍ منَ الانسجامِ الدائمِ معَ تطوّراتِ الحياة، ومِن هُنا لا يكونُ الفهمُ الحيويُّ للإسلامِ ضرورةً تفرضُها الظروف؛ وإنّما ضرورةٌ تفرضُها طبيعةُ الرسالة، ولكن ليسَ بوصفِها طبيعةً تاريخيّةً، وإنّما بوصفِها طبيعةً ارتبطَت بالعقلِ في أوّلِ لحظةِ التكوّن.