ما هوَ معنى الحديثِ المشهورِ (وهل الدينُ إلّا الحبّ)؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
الحبُّ هو المُحرّكُ لكلِّ خياراتِ الإنسانِ الحياتيّة، بحيثُ لا يمكنُ أن نتصوّرَ إقدامَ الإنسانِ على شيءٍ دونَ أن يكونَ الحبُّ هوَ المُحرّكَ له، وعلى ذلكَ فإنَّ جميعَ خياراتِ الإنسانِ تُبنى على أحدِ أمرين، إمّا حبُّه لذاتِه، وإمّا حبُّه لله، وقد عبّرَ القرآنُ عن حبِّ الذاتِ بـ(هوى النّفس) وقد جعلهُ العقبةَ الكُبرى التي تقفُ بينَ الإنسانِ وبينَ إتّباعِه للحق، ومِن هُنا كانَ ابتلاءُ الإنسانِ الحقيقيّ في هذهِ الحياةِ هوَ في مقدارِ مُخالفتِه لهواه، وبمعنىً آخر كيفَ يمكنُه أن يستبدلَ محبّتَه لذاتِه بمحبّتِه للهِ تعالى، والفرقُ بينَ حبِّ النفسِ وحبّ الله، هوَ ذاتُه الفرقُ بينَ حبِّ الرغباتِ والشهوات وبينَ حبّ القيمِ والفضائل، وكما أنّ الإنسانَ بطبعِه وغريزتِه ميّالٌ إلى حبِّ الشهوات، نجدُه في قبالِ ذلكَ أيضاً مفطورٌ على حبّ الكمال، فيعشقُ القيمَ ويحبُّ المناقبَ والفضائل، وضمنَ هذهِ المُعادلةِ التي يعيشُها الإنسانُ في داخلِ وجودِه وكيانِه، يأتي الدينُ كمُعزّزٍ ومُذكّرٍ ومُنبّهٍ لجانبِ الكمالِ فيه، بحيثُ ينهاهُ عن الهوى والشهوات، ويأمرُه بالحقِّ وبكلِّ ما يمثّلُ كمالاً حقيقيّاً له، وقد لخّصَ القرآنُ هذهِ المُعادلةَ بقولِه: (وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَىٰ.. فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى) بمعنى أنّ هناكَ علاقةً عكسيّةً بينَ حبِّ النفسِ وحبّ الله، فمتى ما تمكّنَ أحدُهما مِن قلبِ الإنسانِ ذهبَ الآخرُ، قالَ تعالى: (أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، وعلى ذلكَ فالإنسانُ بينَ خيارينِ بينَ أن يعبدَ هواهُ وبينَ أن يعبدَ ربّه، وإذا كانَ حبُّ النفسِ عبادةً للنفسِ بالضرورة، فإنَّ عبادةَ اللهِ هيَ محبّتهُ بالضرورةِ أيضاً.
وعليهِ يمكنُنا أن نؤكّدَ أنَّ عشقَ الإنسانِ للقيمِ وتطلّعَه للكمالِ نابعٌ من إيمانِ الإنسانِ باللهِ وبأسمائِه الحُسنى، ومِن هُنا كانَ كمالُ الإنسانِ عن طريقِ الاتّصالِ باللهِ ومِن ثمَّ التخلّق بأخلاقِه، فأعظمُ ما يتطلّعُ لهُ الإنسانُ هو تجاوزُ الأنانيّاتِ الضيّقةِ والتحوّلُ إلى حالةٍ أسمى وأرفع، وذلكَ لا يكونُ إلّا بعدَ الإيمانِ باللهِ وبأسمائِه الحُسنى، فمحدوديّةُ الإنسانِ مِن جهةٍ وكونُ القيمِ مُطلقةً مِن جهةٍ أخرى تفرضُ عليهِ تجاوزَ الذاتِ والمادّةِ للبحثِ عن مصدرِ هذا الإطلاق، وبهذا يمكنُنا تفسيرُ حالةِ التجاوزِ والتسامي الموجودةِ عندَ الإنسان، وإلّا كيفَ نفهمُ تضحيةَ الإنسانِ بنفسِه مِن أجلِ الحقّ؟ فالإنسانُ الذي لا يشعرُ بالقيمِ لا يمكنُه النزوعُ إلى مثلٍ أعلى ولا يهوى المُقدّسَ والمُتعالى، فالشعورُ بالقيمِ هوَ الذي يجعلُ الإنسانَ يتجاوزُ ذاتَه للوصولِ إلى ما هوَ أعلى.
وبالتالي الإيمانُ باللهِ في حقيقتِه تحديدٌ لمسارِ الإنسانِ، فبدلَ أن يكونَ مسارُ الإنسانِ قائماً على حبِّ الذاتِ يكونُ مسارُه قائماً على حبِّ الله، ومنَ المؤكّدِ أنَّ القيمةَ الحقيقيّةَ للإنسانِ هيَ بقيمةِ الهدفِ الذي يسعى إليه، والفرقُ كبيرٌ بينَ أن تكونَ قيمةُ الإنسانِ في الشهواتِ والرغباتِ، وبينَ أن تكونَ قيمتُه في الأخلاقِ والمُثلِ الفاضلة، ومِن هُنا تنحصرُ حياةُ الإنسانِ بينَ حبِّه للهِ وحبّه لهواه، أي بينَ أن تكونَ حياتُه لها قيمةٌ وبينَ أن تكونَ القيمةُ هيَ الأنا والشهوة، قالَ تعالى: (وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ وَلَا تَعدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَلَا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا).
وعليه إذا كانَ الإنسانُ مفطوراً على حبِّ الكمالِ فهوَ مفطورٌ قبلَ ذلكَ على حبِّ اللهِ تعالى، والإيمانُ باللهِ ليسَ إلّا استحضاراً لهذا الحبِّ في القلبِ، وبذلكَ نفهمُ حديثَ الإمامِ الصّادقِ (عليهِ السلام): هل الدينُ إلّا الحب؟! وكذلكَ نفهمُ أنَّ محبّةَ اللهِ هيَ التي تحرّكُ الإنسانَ نحوَ الالتزامِ بدينِه، قالَ تعالى: (قُل إن كنتُم تحبّونَ اللهَ فاتّبعوني يحبِبكُم الله). وكذلكَ قرنَت الآياتُ الارتدادَ عن الدينِ بعدمِ محبّةِ الله، وقالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ)، وقالَ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلهِ)
وفي المُحصّلةِ فإنَّ الحبَّ هو جوهرُ الحياةِ وسرُّ بقائِها، والمعرفةُ التي لا يكونُ أساسُها الحبُّ تكونُ وبالاً على الإنسانِ، قالَ تعالى: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوثَانًا مَّوَدَّةَ بَينِكُم فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا ثُمَّ يَومَ القِيَامَةِ يَكفُرُ بَعضُكُم بِبَعضٍ وَيَلعَنُ بَعضُكُم بَعضًا وَمَأوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ). ومِن حبِّ الإنسانِ للهِ يتفرّعُ حبُّه لمخلوقاتِه التي هيَ مظهرٌ لقُدرةِ اللهِ وجمالِه، وبذلكَ نفهمُ كلَّ الأخلاقِ الفاضلةِ والتعاليمِ السّاميةِ التي أمرَ بها الإسلامُ أتباعَه، وكلُّ ذلكَ لا يمكنُ أن يكونَ لو لم يكُن الدّينُ هوَ الحبّ.
اترك تعليق