التَّوفِيقُ بينَ قَولِه تعالى: (لكُم دِينُكم ولِيَ دِينِ) وقَولِه تعالى: (ومَن يَبتَغِ غَيرَ الإسْلامِ دِيناً فلنْ يُقبَلَ منْه).

(لكُم دِينُكم ولِيَ دِينِ) (ومَن يَبتَغِ غَيرَ الإسْلامِ دِيناً فلنْ يُقبَلَ منْه)، كيفَ تُوافِقُ بينَ الآيتَيْنِ أعلَاه؟

: اللجنة العلمية

    الأخُ المحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبرَكاتُه.

     هَاتَيْنِ الآيتَيْنِ الكَريمَتيْنِ تُشِيرُ كلٌّ منْهما إلى مَعنىً يَختلِفُ عن الآخرِ، ولا يُوجَدُ تَنافٍ بَينهُما، فالآيةُ الأولَى - بحَسبِ سِيَاقِها مع بَقيةِ الآياتِ في السُّورةِ- تُشِيرُ إلى البَراءةِ ممَّا يَعبُدُه الكَافِرونَ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ «1» لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ «2» وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ «3» وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ «4» وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ «5» لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، أما الآيةُ الثَّانِيةُ فهي تُشِيرُ بوُضُوحٍ إلى أنَّ الدينَ الَّذي يَقبَلُه المَولَى سُبحانَه هو الإسْلامُ فقط، وكل ما عدَاه من دِيانَاتٍ واعْتِقادَاتٍ لا قِيمةَ له في سَاحةِ الحَقِّ.

     قد تَقُول: ألا يُستَفادُ منَ الآيةِ الأولَى أنَّ للإنسْانِ الحُرَّيةَ في أنْ يَختارَ أيَّ دِينٍ يَشاءُ، وبالتَّالِي عندَما حَصرَتْ الآيةُ الثَّانِيةُ الدينَ بالإسْلامِ فقط فهَذا يَكشِفُ عن المُنافَاةِ بَينَهما؟!!

     نَقُول: كما أوضَحْنا أنَّ الآيةَ الأولَى لا تَدلُّ على حُرِّيةِ التَّدينِ بأيِّ دِينٍ يَشاءُ الإنسَانُ، بمَعنَى أنَّها لَيستْ تَشرِيعاً في حُرِّيةِ التَّديُّنِ بما يَشاءُ الإنسْانُ.. وهاهُنا نَودُّ الإشارَةَ إلى تَوضِيحٍ ما:

     قد يَتصوَّرُ البَعضُ أنَّ بَعضَ الآياتِ تُشِيرُ إلى حُرِّيةِ التَّديُّنِ وسُلوكِ أيِّ طَرِيقٍ يَشاءُ في الإعتِقادِ نَحو قَولِه تعالى: (مَن شاءَ فَليُؤمِنْ ومَن شاءَ فَليَكفُرْ)، ونَحو: (لا إكرَاهَ في الدينِ) وغَيرِها. فَيتَصوَّرُونَ أنَّ هذا تَشرِيعٌ في حُرِّيةِ الإعتِقادِ، وبالتَّالِي تَكُون هُناك مُنافَاةٌ بينَ هذِه الآياتِ وبينَ قَولِه تعالى: (ومَن يَبتَغِ غَيرَ الإسْلامِ دِيناً فلنْ يُقبَلَ منه).. نَقُول: الأمرُ ليس كذلِك.. فهذِه الآياتُ تُشِيرُ إلى الحُرِّيةِ التَّكوِينِيةِ - التي هي أمرٌ مُشاعٌ لكلِّ إنسَانٍ - وليس إلى الحُرِّيةِ القَانُونيةِ أو التَّشرِيعيةِ، ولنُوضِّحَ هذا المَطلبَ بالمِثَالِ التَّالِي: لو أصدَرتْ الدَّولةُ قَراراً مثلاً وقَالتْ فيه: أنت مِن حَقِّك أنْ تَدرُسَ ما تَشاءُ، بل مِن حَقِّك أنْ لا تَدرُسَ أيَّ عِلمٍ تَشاءُ ولكنَّ الدُّخولَ إلى كُلِّيةِ الطِّبِّ لا يَكُون إلا لمَن يَحمِلُونَ مُعدَّلاتٍ عَالِيةٍ تُؤهِّلُهم للدُّخولِ إليْها.

     فهُنا في هذا القَرارِ للدَّولةِ نَجِدُ أمرَينِ: الأول: بَيانٌ للحُرِّيةِ التَّكوِينِيةِ بأنَّك حرٌّ في اخْتيَاراتِك تَكوِيناً، إنْ شِئتَ أنْ تَدرُسَ وإنْ شِئتَ لا تَدرُسْ، ولا أحدَ يَفرِضُ عليْك وُجوبَ الدِّراسَةِ بالقُوَّةِ، ولكنْ مِن النَّاحِيةِ القَانُونِيةِ تُوجَدُ ضَوابِطُ وقَوانِينُ في إدارَةِ شُؤونِ الدَّولةِ، ومنْها أنَّ الدُّخولَ إلى بَعضِ الكُلِّياتِ يَكُون وِفقَ ضَوابِطَ مُعيَّنةٍ، وهذا هو الأمرُ الثَّانِي.

     وهكَذا يَنبغِي فَهْمُ آياتِ القُرآنِ الكَريمِ، فَبَعضُ الآياتِ تُشِيرُ إلى الحُرِّيةِ التَّكوِينِيةِ فَتَكُون مُثبِتةً لها، وبَعضُها تُشِيرُ إلى الحُرِّيةِ القَانُونِيةِ وتَكُون نَافِيةً لها، فلا يُوجَدُ تَنافٍ بينَ الآياتِ الكَرِيمةِ لاخْتلَافِ المَورِديْنِ.

     ودُمتُم سَالِمينَ.