الحرّيّةُ بينَ الإسلامِ والفلسفاتِ المادّيّةِ
الحرّيّةُ بينَ الإسلامِ والفلسفاتِ المادّيّةِ
ينظرُ الإسلامُ إلى الحُرّيّةِ بوصفِها موهبةً إلهيّةً أكرمَ اللهُ بها الإنسانَ وخصّهُ بها عَن جميعِ خلقِه حيثُ جعلَه عاقلاً ومُريداً لفعلِه، وعليهِ فإنَّ الحرّيّةَ في الإسلامِ ليسَت مُجرّدَ القُدرةِ على ترجيحِ أحدِ الخياراتِ وإنّما تعني كونَ الإنسانِ مسؤولاً عَن إختيارِ الأصلحِ، قالَ تعالى: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). والفلسفاتُ المادّيّةُ التي لا تؤمنُ بوجودِ إلهٍ خلقَ الإنسانَ لحِكمةٍ مُحدّدةٍ لا يمكنُها أن تُقاربَ الحُرّيّةَ بشكلٍ يمكنُ فهمُه وإدراكُه، حيثُ يؤولُ أمرُها إمّا أن تجعلَ الحُرّيّةَ مُجرّدَ إشباعِ الرّغباتِ من دونِ أيّ ضابطٍ يحجمُ جماحَها، وإمّا أن يؤولَ أمرُها إلى إنكارِ الحرّيّةِ كما هوَ حالُ بعضِ الفلسفاتِ الإلحاديّةِ، وقد صرّحَ بذلكَ أربابُ الإلحادِ الجُددُ أمثال سام هارس وقد خصّصَ لذلكَ كتابَه (الإرادةُ الحرّةُ) ليُصرّحَ فيهِ وبُكلِّ وضوحٍ بأنَّ الإرادةَ الحُرّةَ وهمٌ، وهوَ استنتاجٌ منطقيٌّ لِما تفرضُه معادلاتُ التّطوّرِ في المادّةِ، والإنسانُ ليسَ شيئاً خارجاً عَن هذهِ المُعادلةِ، لكونِه ليسَ أكثرَ مِن حلقةٍ تقعُ على مسارِ هذا التّطوّرِ. يقولُ سام هارس: "إختياراتي مُهمّةٌ، وهُناكَ طرقٌ لاِتّخاذِ قراراتٍ أكثرَ حكمةً، لكني لا أستطيعُ أن أختارَ ما أريدُ إختيارَه. وإذا ظهرَ أنّني قادرٌ على ذلكَ كالعودةِ مثلاً للوراءِ لاتّخاذِ أحدِ قراراتي فإنّني لا أختارُ ما أختارُ أن أختارَه، إنّهُ تسلسلٌ يُفضي بنا دوماً للظّلامِ" . وعليهِ فالإنسانُ في التّصوّرِ الإلحاديّ نتاجُ تطورٍّ طبيعيٍّ مُعقّدٍ، لا يمتلكُ فيه الإنسانُ إرادةَ التّغييرِ أو الإختيار، والسّلوكُ ليسَ شيئاً آخرَ خارجاً عَن معادلةِ الطّبيعةِ والمادّةِ، والإحساسُ بالحُرّيّةِ الذي يجدُه الإنسانُ في نفسِه يرجعُ إلى طبيعةِ الجهلِ بالأسبابِ كما يُعبّرُ مايكل شرمر في كتابِه (علمُ الخيرِ والشّرّ) بقولِه: "حجمُ تعقيداتِ العواملِ والمُحدّداتِ التي تتسبّبُ في إحداثِ إختياراتِنا، تقودُنا إلى الشّعورِ وكأنّنا نمارسُ أفعالَنا بحُرّيّةٍ ككائناتٍ مُتسبّبةٍ في أفعالِها دونَ أن تكونَ مُسبّبةً، معَ أنّنا في الحقيقةِ محدودي الأفعالِ سببيّاً. وبما أنّهُ ليسَ بالإمكانِ تحديدُ قائمةٍ كاملةٍ بالأسبابِ التي تُحدّدُ الفعلَ الإنسانيّ، فإنَّ الشّعورَ بالحُرّيّةِ ينشأُ بسببِ جهلِنا بالأسبابِ. إلى هذا الحدّٓ فإنّهُ بإمكانٓنا أن نعملَ وكأنَّ لدينا حرّيّةً فِعلاً" . فالحتميّةُ المادّيّةُ المُهيمنةُ على كلِّ الوجودِ لا يستطيعُ أن يخرُجَ الإنسانُ مِن قبضتِها لكونِه واحداً منها، والمخرجُ الوحيدُ الذي يفتحُ الطّريقَ أمامَ إنعتاقِ الإنسانِ مِن هيمنةِ المادّةِ هوَ اللهُ الذي أودعَ في الإنسانِ روحَ الإرادةِ والعلمِ والعقلِ، فكرّمهُ بذلكَ عَن بقيّةِ خلقِه، والذي يرفضُ هذا النّسقَ من التّفكيرِ لابُدَّ أن يقعَ في الحتميّةِ لا محالةَ، ومهما تستّرَ دعاةُ الإلحادِ عَن هذهِ الحتميّةِ بالدّعوةِ للحُرّيّةِ لا يكونُ مُجدياً حتّى وإن علا صوتُهم، فالضّجيجُ والصّخبُ لا يسترُ ما لا يمكنُ سترُه.
أمّا النّظريّةُ الإسلاميّةُ، فهيَ تؤكّدُ على مسؤوليّةِ الإنسانٓ، وحُرّيّتِه في كلِّ تصرُّفاتِه، فهوَ الذي يصنعُ مصيرَه بمسيرِه، فإن كانَ شرّاً أو خيراً فبما كسبَت يداهُ، وهوَ بما كسبَ رهينٌ: ﴿فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ وهذا يكشفُ لنا عظمةَ الإنسانِ في القرآنِ، عندَما يؤكّدُ على أنَّ إرادةَ الإنسانِ واختيارَه لا تُغيّرُ حياتَه فحسب، وإنّما تُغيّرُ الكونَ، فأيُّ مكانةٍ أشرفُ مِن أن يُمنحَ الإنسانُ ملكوتَ السّماواتِ والأرضِ؟ وقَد قالَ سُبحانَه وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنفُسِهِم﴾، أي أنَّ المقياسَ الأوّلَ لمُستوى حركةِ البشرِ، ونوعيّةِ مصيرِهم هوَ عملُهم في الحياةٓ، وليسَ هُناكَ مِن تقديرٍ إلهيٍّ جامدٍ يُحدِّدُ مصائرَهم. وهكذا يتحوّلُ الإيمانُ باللهِ إلى وقودٍ للتّكاملِ في ضميرِ البشرِ، ونبراسٍ للتّطلّعِ والتّقدّمِ والحركةِ والحيويّةِ والتّطوّرِ، بَل هوَ الأملُ في المُلكِ والهيمنةِ، والمُثلُ والأخلاقُ، والنموّ والرّفعةُ، والشّأنُ والقُدرةُ، والعزّةُ والكرامةُ..
ورغمَ مكانةِ الحُرّيّةِ في الإسلامِ نجدُ بعضَ التّيّاراتِ الليبراليّةِ في الوسطِ الإسلاميّ تزعمُ بأنَّ الدّينَ بشكلٍ عامٍ والإسلامَ بشكلٍ خاص يُقيّدُ الحُرّيّةَ ويفرضُ على الفردِ والمُجتمعِ نُظماً فوقيّةً تمنعُه مِن مُمارسةِ خياراتهِ بحُرّيّةٍ، الأمرُ الذي يدعونا إلى مُناقشةِ القضيّةِ مِن بُعدِها الفلسفيّ وليسَ السّياسيّ، لنتساءلَ عَن ماهيّةِ الحُرّيّةِ
وطبيعتِها الفلسفيّةِ، معَ أنَّ المقامَ لا يسمحُ بطرحِ الأمرِ في إطارِه الواسعِ الذي نستجمعُ فيه كلَّ ما قيلَ في الحُرّيّةِ، إلّا أنّهُ منَ الضّروريّ مُناقشةُ ما لهُ علاقةٌ مُباشرةٌ بالتّصادمِ الظّاهرِ على السّطحِ بينَ الإسلامِ والحُرّيّةِ.
لا خلافَ على كونِ الحرّيّةِ قيمةً أساسيّةً ومحوريّةً، كما أنّهُ ليسَ هُناكَ خلافٌ حولَ التّفسيرِ الوصفيّ للحرّيّةِ، بَل يمكنُنا القولُ أيضاً أنّهُ لا خلافَ حولَ حدودِ الحُرّيّةِ، ومعَ ذلكَ ما زالَت هُناكَ مساحاتٌ تحتاجُ إلى حوارٍ، الأمرُ الذي يقودُنا إلى التّساؤلِ عَن ماهيّةِ الحرّيّةِ وطبيعتِها الوجوديّةِ.
الحُرّيّةُ كمفهومٍ ذهنيٍّ مُجرّدٍ يحملِ في طيّاتِه مفهوماً طارِداً للقيودِ، والموانعِ، والحدودِ، والحظرِ، فهيَ حالةٌ منَ الحركةِ المُتّسعةِ باتّساعِ الوجودِ، والحُرّيّةُ بهذا المعنى هيَ مُطلَقُ التّرجيحِ بينَ الخياراتِ المُتعدّدةِ من دونِ أن يحملَ أيُّ خيارٍ مِن بينِ الخياراتِ سُلطةً إلزاميّةً.
والحرّيّةُ بهذا المفهومِ لا تعترفُ بالمرجّحاتِ الموضوعيّةِ لأنّها تمارسُ تأثيراً خارجَ حدودِ الذّاتِ، وبالتّالي هيَ حُرّيّةٌ لامعياريّةٌ لأنَّ المفهومَ المُجرّدَ للحُرّيّةِ لا يمكنُه أن يستقيمَ معَ وجودِ معياريّةٍ ترجيحيّةٍ.
إلّا أنَّ الإشكاليّةَ الكُبرى والتي يغفلُ عنها الكثيرُ هيَ أنَّ الحُرّيّةَ المُجرّدةَ لا وجودَ لها البتّة، وكلُّ ما هوَ متاحٌ وموجودٌ هوَ الإنسانُ الحُرُّ، والفرقُ كبيرٌ جدّاً بينَ المَعنيين؛ فالحرّيّةُ المُجرّدةُ التي تسبحُ في الفراغِ والتي لا تواجهُها موانعُ ولا حدود قد لا تكونُ موجودةً حتّى في عالمِ المُجرّداتِ، وما يقعُ فيهِ بعضُ المُندفعينَ نحوَ الحُرّيّةِ هوَ الإنطلاقُ منَ المَفهومِ المُجرّدِ ليُسقطَه على الواقعِ دونَ أن يكترثَ لوجودِ مساحةٍ فاصلةٍ بينَ الحرّيّةِ كمفهومٍ وبينَ الحُرّيّةِ كواقعيّةٍ إنسانيّةٍ.
ومِن هُنا نحتاجُ قبلَ التّطرّقِ لحدودِ الحُرّيّةِ والمساحةِ التي يجبُ أن تتحرّكَ فيها، التّعرفَ أوّلاً على الإنسانِ كفردٍ والإنسانِ كمُجتمعٍ ثمَّ نرسمُ حدودَ الحُرّيّةِ بحسبِ الواقعيّةِ المُمكنةِ، وهذهِ الواقعيّةُ تُرسمُ معالمَها بحسبِ الموقفِ الجمعيّ للعُقلاءِ. وبهذا الشّكلِ تصبحُ الحُرّيّةُ ذاتَ قيمةٍ لأنّها توجدُ ضمنَ سياقاتٍ قيميّةٍ تُراعي قيمةَ الإنسانِ الوجوديّةَ، كما تُراعي طموحاتِه ضمنَ التّصوّرِ العُقلائيّ الذي يرصدُ غاياتِ تلكَ الطّموحاتِ، كما تُراعي أيضاً قيمةَ الفعلِ ضمنَ الرّؤيةِ الكونيّةِ.
وعليهِ فإنَّ اللّيبراليّةَ التي تُنادي بالحُرّيّةِ اللامعياريّة، واللاموضوعيّة، واللاعُقلائيّة، شبيهةٌ بحالِ الأبِ المُهملِ الذي يُوفّرُ لإبنِه الحرّيّةَ المُطلقةَ في إلتِهامِ كلِّ أنواعِ الحلويّاتِ والمأكولاتِ والمشروباتِ وكلِّ التّصرّفاتِ التي يحبُّ أو يرغبُ فيها، فكما أنَّ الأبَ بذلكَ التّصرّفِ قَد حكمَ على إبنِه بالإنتحارِ، كذلكَ مَن يُنادي بالحُرّيّةِ المُطلقةِ يكونُ قد حكمَ على كلِّ الإنسانيّةِ بالإنتحارِ. صحيحٌ أنَّ الطّفلَ لهُ الحقُّ في ما يرغَب، ولكِن ليسَ منَ الصّحيحِ أن ينظُرَ الأبُ لطفلِه بوصفِه مُجرّدَ موجودٍ لهُ رغبةٌ، وإنّما هناكَ جوانبُ أخرى يجبُ رؤيتُها في الطّفلِ غيرَ الرّغبةِ الشّخصيّةِ، ومِن هُنا يكونُ منَ الضّروريّ وضعُ كوابحَ لهذهِ الرّغبةِ مِن غيرِ كبتِها ومصادرتِها، فعندَما يمارسُ الأبُ سيطرتَه على الطّفلِ ويُقيّدُ حُرّيّتَه بمجموعةٍ منَ الضّوابطِ هذا لا يعني أنَّ الحُرّيّةَ أصبحَت محدودةً، بَل ما زالَت مُطلقةً لكِن ضمنَ شروطِها العُقلائيّةِ، وهذا هوَ الفرقُ بينَ النّظرِ للحُرّيّةِ كمفهومٍ لا واقعيّةَ لهُ، وبينَ النّظرِ للحُرّيّةِ ضمنَ الإمكانيّةِ الواقعيّةِ، وهكذا الحالُ في الإنسانِ والمُجتمعِ لابُدَّ مِن دراسةِ الحُرّيّةِ ضمنَ الواقعيّةِ الإنسانيّةِ والمُجتمعيّةِ، وهذهِ الواقعيّةُ تُستمَدُّ منَ النّظرةِ الشّاملةِ للإنسانِ والمُجتمعِ وليسَت النّظرةَ الجُزئيّةَ التي ترصدُ بعضَ الحقائقِ وتهملُ الحقائقَ الأُخرى.
والمهمُّ الآنَ كفكرةٍ أوّليّةٍ أنَّ الضّوابطَ العُقلائيّةَ ليسَت شيئاً خارجاً عَن طبيعةِ الحُرّيّةِ وماهيّتِها، فعندَما أقولُ مثلاً الإنسانُ لهُ قدرةٌ مُطلقةٌ في المشي والحركةِ لا أكونُ قاصِداً القُدرةَ والحركةَ كمفهومٍ مُجرّدٍ ثمَّ أسقطُه على الإنسانِ، لأنَّ القُدرةَ المُطلقةَ هيَ القُدرةُ على كلِّ الشّيءِ وهذا لا واقعيّةَ إنسانيّةَ لهُ، وكذلكَ الحالُ في الحركةِ المُطلقةِ التي لا يمكنُ قياسُها بأيّ مقياسٍ للحركةِ، وبالتّالي الإنسانُ لهُ قدرةٌ مُطلقةٌ على المشي والحركةِ ولكِن ضمنَ الإمكانيّةِ الواقعيّةِ، وكذلكَ لهُ حُرّيّةٌ مُطلقَةٌ ضمنَ الإمكانيّةِ الإنسانيّةِ.
واللّحظةُ التي يُسلّمُ بها اللّيبراليُّ بضرورةِ إدخالِ ضوابطَ على الحُرّيّةِ، هيَ ذاتها اللّحظةُ التي ينفتحُ فيها النّقاشُ واسِعاً أمامَ كلِّ المُرجّحاتِ والضّوابطِ بما فيها الدّينيّةُ، ولا يحقُّ لهُ حينَها الإعتراضُ طالما الدّينُ أيضاً يشترطُ القبولَ العُقلائيّ لخياراتِه السّلوكيّةِ.
وفي المُحصّلةِ تصبحُ الحُرّيّةُ في التّصوّرِ الإسلاميّ هيَ المسؤوليّةَ، أي بمعنى أنّها ليسَت مُجرّدَ التّرجيحِ بينَ الخياراتِ، وإنّما هيَ مسؤوليّةُ ترجيحِ الأصلحِ والأولى بالتّرجيحِ، وهذهِ المسؤوليّةُ تمتدُّ في كلِّ جوانبِ الحياةِ والوجودِ، أي أنَّ الإنسانَ مسؤولٌ أمامَ نفسِه، ومسؤولٌ تجاهَ الآخرينَ، كما أنّهُ مسؤولٌ عنِ الكونِ، وهذهِ المسؤوليّةُ تُفهَمُ ضمنَ الإطارِ الذي يستوعبُ كلَّ السّلوكِ الإنسانيّ صغيراً كانَ أو كبيراً، لأنَّ الإنسانَ ليسَ مُجرّدَ كائنٍ حُرٍّ وحسب وإنّما عاقلٌ أيضاً، ودورُ العقلِ في الحُرّيّةِ هوَ تحديدُ الخياراتِ الجيّدةِ التي يجبُ أن يختارَها، وبالتّالي فتح الطّريقِ أمامَ الإنسانِ ليُمارسَ إختياراتِه العقلانيّةَ في الحياةِ ضمنَ الخُطّةِ التي تخدمُ غايتَه العُليا، وهذهِ الخياراتُ العقلانيّةُ مُرتكزَةٌ على مجموعةِ حقائقَ منها فطريّةٌ، وعقليّةٌ، وأخلاقيّةٌ، ودينيّةٌ، وعلميّةٌ، وبهذا الشّكلِ ينتقلُ الإنسانُ مِن كونِه كائناً أنانيّاً وشهوانيّاً يتحرّكُ من دونِ بصيرةٍ حياتيّةٍ، إلى مخلوقٍ عاقلٍ ومُنضبطٍ بمنظومةٍ منَ القيمِ الأخلاقيّةِ ومُتسامٍ عَن رغباتِه الدّونيّةِ.
والنّظرةُ الشّاملةُ للإنسانِ والمُجتمعِ تقودُنا إلى وجودِ قيمٍ أُخرى يهتمُّ بها الإنسانُ والمجتمعُ غير قيمةِ الحُرّيّةِ، مثلَ قيمةِ، العدلِ، العلمِ، والقُدرةِ، والرّحمةِ، والتّسامحِ، والكرامةِ، والطّهارةِ، والعزّةِ، والشّرفِ...
وسلسلةٍ طويلةٍ منَ القيمِ المُقدّرةِ عندَ البشرِ جميعاً، وبالتّالي عندَما نُقاربُ الحُرّيّةَ كقيمةٍ إجتماعيّةٍ لابُدَّ مِن مُلاحظةِ بقيّةِ المنظومةِ القيميّةِ، ومراعاةِ التّداخلِ الذي قد يحدثُ بينَ هذهِ القيمِ، الأمرُ الذي يحوجُنا إلى دراسةِ القيمِ الإنسانيّةِ وترتيبِها ضمنَ قانونِ المُهمِّ والأهمِّ، ومنَ الأخطاءِ التي وقعَت فيها اللّيبراليّةُ أنّها إنطلقَت مِن ظرفٍ تاريخيٍّ كانَت فيهِ الحُرّيّةُ قيمةً ذاتَ أولويّةٍ مُلحّةٍ، ولكنَّها توقّفَت عندَ هذهِ القيمةِ مِن غيرِ أن تُراعي القيمَ الأخرى التي يحتاجُها أيضاً الإنسانُ والمُجتمعُ، أو على الأقلِّ جعلَتها القيمةَ المحوريّةَ التي تدورُ حولَها بقيّةُ القيمِ، وهذا غيرُ مُسلّمٍ به، لوجودِ ظروفٍ تتأخّرُ فيها قيمةُ الحُرّيّةِ لتتقدّمَ قيمٌ أُخرى، وخاصّةً عندَ تعارضِ القيمِ في بعضِ الظّروفِ الخاصّةِ، فلو تعارضَتِ الحُرّيّةُ معَ الأمنِ مثلاً أيُّهما نُقدّمُ؟ قَد يكونُ الأمنُ لدى الإنسانِ أكثرَ أولويّةً منَ الحُرّيّةِ، أو لو تعارضَت حُرّيّةُ مُجتمعٍ مُعيّنٍ معَ فرضِ التّعليمِ عليهم، فأيُّهما أولى قيمةً الحُرّيّةُ أم قيمةُ العلمِ؟ وهكذا لابدَّ مِن رصدٍ شاملٍ للقيمِ ومُراعاتِها كحقائقَ موضوعيّةٍ بعيداً عنَ تأثيراتِ الظّرفِ الزّمانيّ والمُجتمعيّ، وهذا هوَ البابُ الذي يُمثّلُ فيهِ الدّينُ ضرورةً للإنسانِ، لكونِه نظرةً شاملةً وموضوعيّةً للإنسانِ أكثرَ مِن نظرةِ الإنسانِ إلى نفسِه؛ لأنَّ نظرةَ الإنسانِ مُتأثّرةٌ بالظّرفِ الذي يعيشُ فيه، ومِن هُنا نجدُ أنَّ كلَّ الفلسفاتِ البشريّةِ قَد أثّرَ فيها الظّرفُ التّاريخيّ، والمُجتمعيّ، والإقتصاديّ، والسّياسيّ، والشّخصي، بشكلٍ واضحٍ وكبيرٍ.
اترك تعليق