تفسيرِ قولِه تعالى: (عبسَ وتولّى)؟

ما هوَ السببُ الصحيحُ الذي أجمعَ عليهِ علماؤنا ومفسّرونا في تفسيرِ قولِه تعالى: (عبسَ وتولّى)؟

الجواب :

السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،

أجمعَ علماؤنا ومفسّرونا على أنّ قولَه تعالى (عبسَ وتولّى) ليسَ المعنيُّ بها النبيّ (ص) كما يذهبُ إلى ذلكَ جمهورُ علماءِ العامّة، وإنّما المعنيُّ بها شخصٌ آخر كانَ جالِساً في ذلكَ المكان، وهوَ الذي عبسَ لـمّا رأى ابنَ أمِّ مكتوم الأعمى يخاطبُ النبيَّ (ص)، فلذا نزلَت فيه هذهِ الآية، فقد نقلَ الشيخُ الطبرسيّ في مجمعِ البيان (ج10/ص438) عن السيّدِ علمِ الهُدى (ره) في كتابِه التنزيه (ص118) قولَه: أمّا ظاهرُ الآيةِ فغيرُ دالٍّ على توجّهِها إلى النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، ولا فيها ما يدلُّ على أنّها خطابٌ له ، بل هيَ خبرٌ محضٌ لم يُصرِّح بالمُخبَرِ عنه ، وفيها ما يدلُّ عند التأمّلِ على أنَّ المعنيَّ بها غيرُ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، لأنّهُ وصفَه بالعُبوس، وليسَ هذا مِن صفاتِ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله في قرآنٍ ولا خبرٍ معَ الأعداءِ المُباينينَ، فضلاً عن المؤمنينَ المُسترشدينَ ، ثمَّ وصفَه بأنّه يتصدّى للأغنياء، ويتلهّى عن الفقراء، وهذا ممّا لا يصفُ به نبيُّنا صلّى اللهُ عليه وآله مَن يعرفُه ، فليسَ هذا مُشابِهاً لأخلاقِه الواسعةِ وتحنّنِه إلى قومِه ، وتعطّفِه ، وكيفَ يقولُ له صلّى اللهُ عليهِ وآله : " وما عليكَ ألّا يزكى " وهوَ صلّى اللهُ عليهِ وآله مبعوثٌ للدّعاءِ والتنبيه؟ وكيفَ لا يكونُ ذلكَ عليهِ وكانَ هذا القولُ إغراءً بتركِ الحرصِ على إيمانِ قومِه ؟ وقد قيلَ : إنَّ هذه السورةَ نزلَت في رجلٍ مِن أصحابِ رسولِ الله صلّى اللهُ عليه وآله كانَ منهُ هذا الفعلُ المنعوتُ فيها ، ونحنُ وإن شكَكنا في عينِ مَن نزلَت فيه فلا ينبغي أن نشكَّ في أنّها لم يعنِ بها النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، وأيُّ تنفيرٍ أبلغُ منَ العبوسِ في وجوهِ المؤمنين ، والتلهّي عنهم ، والإقبالِ على الأغنياءِ الكافرين؟ وقد نزَّهَ اللهُ تعالى النبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآله عمّا دونَ هذا في التنفيرِ بكثيرٍ انتهى.

قلتُ: ومِـمّا يؤيّدُ ذلكَ أنَّ هناكَ كثيراً منَ الآياتِ في حقِّ الرّسولِ (ص) تمنعُ منَ التصديقِ بما أوردَه جمهورُ العامّةِ مِن أحاديثَ تزعمُ أنّها نزلَت في النبيّ (ص)، ومِن هذهِ الآياتِ: قولُه تعالى يصفُ فيها نبيّنا الأكرمَ (ص) بقولِه: ((بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيم )) (التوبةُ: 128). وكذلكَ قولُه تعالى: ((وإنّكَ لعُلى خُلقٍ عظيم)) (القلمُ:4)، وقولُه تعالى: ((واخفِض جناحكَ لمَن اتّبعكَ منَ المؤمنين)) (الشعراءُ:215)، وقولُه تعالى عن الرّسول: ((ولقد كانَ لكُم في رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنة )) (الأحزاب:21). وعليهِ: كيفَ سمحَ جمهورُ عُلماءِ العامّةِ لأنفسِهم بتصديقِ مثلِ الرواياتِ التي هيَ منَ الوضوحِ بمكانٍ أنّها مُخالفةٌ لآياتِ الكتابِ العزيز آنفاً، والظاهرُ أنّهم ما عرفوا حقَّ رسولَ الله (ص) ولا مكانتَه ولا صفاتِه كما يجب، إذ لو أنّهم عرفوا ذلكَ حقّاً خصوصاً فيما يتعلّقُ بصفاتِه العُليا التي مدحَه اللهُ تعالى بها ومنزلتهِ الساميةِ لاكتشفوا أنّ تلكم الرواياتِ التي تزعمُ صدورَ هذا الأمرَ المُنافيَ للأخلاقِ عنه (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) هيَ مِن تلفيقِ الكذّابين؟!! 

ثُمَّ هاهُنا أمرٌ ينبغي التنبيهُ عليه، وهوَ: أنَّ قسماً مِن كبارِ عُلماءِ السنّةِ ومُفسّريهم , لا يُسلّمُ أنَّ خطابَ (( عبسَ وتولّى )) متوجّهٌ إلى النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) , لأنّه ليسَ مِن صفاتِ النبي (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) العبوسةُ، ومِن هؤلاء :

1- المُفسّرُ الكبيرُ فخرُ الدينِ الرازي , المتوفّى 606 هـ , في كتابِه (عصمةُ الأنبياءِ ص 137 ـ ط دارُ الكُتبِ العلميّة ـ بيروت) .

2- القاضي عيّاض اليحصبي , المتوفّى 544 هـ , في كتابِه (الشفا بتعريفِ حقوقِ المُصطفى 2/161 ـ ط دارُ الفِكر ـ بيروت) .

3- الزركشي , المتوفّى 794 هـ , في كتابِه (البرهانُ في علومِ القُرآنِ 2/242 ـ ط دارُ إحياءِ الكتبِ العربيّة ـ القاهرة) .

4- الصالحي الشامي , المتوفّى 942 هـ , في كتابِه (سبلُ الهُدى والرشادِ 11/474 ـ ط دارُ الكُتبِ العلميّة ـ بيروت. ودمتُم سالِمين.