رحمَ اللهُ امرأ عرفَ مِن أينَ وفي أين وإلى أين

(ما صحّةُ هذا الحديثِ الذي يُنسَبُ إلى أميرِ المؤمنين (ع): (رحمَ اللهُ امرأ عرفَ مِن أينَ وفي أين وإلى أين)

الجواب :

السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،

هذا الخبرُ المشهورُ وإن لم يروَ في المصادرِ الحديثيّةِ المعروفة، ولكنّهُ مرويٌّ في الكُتبِ التي تُعنى بالجانبِ الفلسفيّ للأخبارِ والتي مِنها هذا الخبر، إذ رواهُ الشيخُ صدرُ المُتألّهينَ في الأسفارِ الأربعة : (ج 8 /ص355) ، وكذلكَ الشيخُ مُحمّد الريشهري، في موسوعةِ العقائدِ الإسلاميّة، (ج ٢/ص ٣٠١)، وغيرُهما.

وقد علّقَ على هذا الخبرِ غيرُ واحدٍ مِن أهلِ العِلم، مِنهم:

1 – المُفسّرُ الكبيرُ مُحمّد جواد مُغنية، في كتابِه النافعُ (التفسيرُ الكاشف، (ج7/ص477) عند تفسيرِ قولِه تعالى: (هَل أَتى عَلَى الإِنسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهرِ لَم يَكُن شَيئاً مَذكُوراً ) . إذ يقولُ: هذهِ الآيةُ في صورةِ الاستفهامِ ومعناها التأكيدُ والتحقيقُ ، والغرضُ مِنها أن يُفكّرَ الإنسانُ ويرجعَ إلى عقلِه ويسألُه عن القُدرةِ التي أتَت بهِ منَ العدم ، ومِن أيّ شيءٍ أوجدَته ؟ وكيفَ انتقلَت به مِن طورٍ إلى طور ؟ وإلى أينَ المصير ؟ وفي هذا يقولُ الإمامُ علي ( ع ) : رحمَ اللَّه امرأ عرفَ مِن أين ، وفي أين ، وإلى أين ، هذا هوَ الغرضُ الذي تهدفُ إليهِ الآيةُ ، وفيما يلي نعرضُ بإيجازٍ إلى ما أشارَت إليهِ هذهِ الآيةُ وما بعدَها مِن مراحلِ التطوّرِ لوجودِ الإنسان ، أمّا في أين وإلى أين فقد سبقَ الكلامُ عَنهما عندَ تفسيرِ آياتِ الدّنيا والآخرة :

2- الأستاذُ السيّدُ جعفَر السجّادي في كتابِه قاموسُ المُصطلحاتِ الفلسفيّة عندَ صدرِ المُتألّهين، (ص ٤٨١)، إذ يقولُ: وقولُه ( تعالى ) : قالَ اهبِطُوا بَعضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ وَلَكُم فِي الأَرضِ مُستَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ، وفي الحديثِ النبوي : " الناسُ معادنُ كمعادنِ الذهبِ والفِضّة " ، إشارةٌ إلى تقدّمِ وجودِها في معادنِ ذواتِها منَ العقولِ المُفارقةِ التي هيَ خزائنُ علمِ الله . وفي كلامِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السلام : " رحمَ اللهُ امرأ عرفَ مِن أينَ وفي أين وإلى أين " ، فالأولى إشارةٌ إلى حالِ النفسِ قبلَ الكون، والوسطُ إلى ما معَ الكونِ ، والآخرُ إلى ما بعدَ الكون.

3- السيّدُ حسَن القبانجي في كتابِه (شرحُ رسالةِ الحقوق، الإمامُ زينُ العابدين ( ع )، ص ٨٨)، إذ يقولُ: وحريٌّ بمَن أذعنَ بإبقاءِ النفوسِ الناطقةِ المُتصرّفةِ بالبدنِ واتّصالِها بالعالمِ الأعلى على ما هيَ عليهِ مِن دونِ تجدّدٍ وإيجاد ، أن يُذعنَ بمسألتِنا ، لأنَّ حالَ الإعادةِ كحالِ الابتداءِ في صعوبةِ الدركِ وسهولتِه ، فإذا صحَّ أحدُهما صحَّ الآخرُ ويمكنُ الإشارةُ إلى هذهِ المُقايسةِ بقولِه تعالى : ( كما بدأنا أوّلَ خلقٍ نعيدُه ) وقولُه تعالى : ( كما بدأناكُم تعودونَ فريقاً هدى وفريقاً حقَّ عليهم الضلالة ) وقولُه : ( هوَ الذي يبدأ الخلقَ ثمَّ يعيدُه ) . ومَن تتبّعَ الكتبَ الأساسيّةَ لسيرِ الحِكمةِ يجدُها مُشبعةً بما ذكرناهُ مِن أنَّ للنّفسِ الناطقةِ كينونةً قبلَ البدنِ ووجوداً في العالمِ الأعلى وهبوطاً منهُ إلى عالمِ الطبيعةِ . ويمكنُ الإشارةُ إلى ذلكَ بقولِه تعالى : ( إهبطوا بعضُكم لبعضٍ عدو ولكُم في الأرضِ مُستقرٌّ ومتاعٌ إلى حين ) . وبالأحاديثِ النبويّةِ مِنها قولُه (ص): ( كنتُ نبيّاً وآدمُ بينَ الماءِ والطين ) وقولُه : ( نحنُ السابقونَ اللاحقون ) وقولُه : (إنَّ اللهَ خلقَ الأرواحَ قبلَ الأجسادِ بألفي عام ) .

ويقولُ سيّدُ الوصيّينَ عليٌّ بنُ أبي طالب ( ع ) : ( رحمَ اللهُ امرأً عرفَ مِن أينَ وفي أين وإلى أين ) فإنَّ قولَه : ( مِن أين ) إشارةٌ إلى حالِ النفسِ قبلَ عالمِ الجسم. وغيرُ هؤلاءِ عرضَ لهذا الخبرِ بغيرِ نكير.

فيظهرُ مِن ذلكَ أنّهُ لا إشكالَ في نسبةِ الخبرِ إلى أميرِ المؤمنينَ عليهِ السلام خصوصاً أنّه لم يطعَن فيهِ أحدٌ مِن أهلِ العلم. ودمتُم سالِمين