الإلحادُ والعلم .... الادّعاءُ الكاذب !!
ينشرُ المُلحدونَ مقولةً: لن تجدَ مُلحداً أمّيّاً، ولكن تجدُ ملايينَ المؤمنينَ أمّيّين، وهذا دليلٌ على أنّ الإيمانَ لم يكُن يوماً بالمعرفةِ والعلم، بل بالوراثة.
الجوابُ:
لا أظنُّ أن هناكَ مَن يحترمُ عقلَه يتبنّى مثلَ هذا الاستدلال، فالعاقلُ عندَما يريدُ الاستدلالَ على قضيّةٍ ما فإنّهُ يستصحبُ دوماً العلاقةَ بينَ المُقدّماتِ والنتائج؛ وذلكَ لأنَّ منطقَ التفكيرِ السليم يشترطُ وجودَ علاقةٍ منطقيّةٍ بينَ المُقدّمةِ والنتيجة.
وكما هوَ واضحٌ يفتقدُ الكلامُ المنسوبُ للمُلحدينَ هذا الشرط المنطقيّ، فحتّى لو افترَضنا جدلاً صحّةَ المُقدّمةِ التي تقول: (لن تجِدَ مُلحداً أمّيّاً، ولكن تجدُ ملايينَ المؤمنين أمّيّين) فمعَ أنّها مُقدّمةٌ خاطئة إلّا أنّها مع فرضِ صحّتِها لا تُوصِلُ للنتيجةِ التي تقول: (هذا دليلٌ على أنّ الإيمانَ لم يكُن يوماً بالمعرفةِ والعلم، بل بالوراثة)، فما هيَ العلاقةُ بينَ وجودِ مؤمنينَ أمّيّينَ وبينَ أن يكونَ الإيمانُ لا ربطَ له بالمعرفةِ والعلم؟
أليسَ منَ المُمكنِ أن يشترطَ الإيمانُ العلمَ والمعرفة ؟ ولكنَّ البعضَ لم يلتزِم بهذا الشرطِ وأقامَ إيمانَهُ على التقليد؟
فالإسلامُ مثلاً يوجبُ الاعتقادَ والإيمانَ القائمَ على العلمِ والمعرفةِ ويحرّمُ التقليدَ في الأمورِ الاعتقاديّةِ والمعرفيّة؟
فهل منَ المنطقيّ بعدَ ذلك أن نقولَ إنَّ الإسلامَ لا يقومُ على العلمِ والمعرفةِ لوجودِ بعضِ المُسلمينَ الجُهلاء؟
ومِن ثمَّ مَن الذي يقولُ إنَّ كلَّ المُلحدينَ علماء؟ وبماذا نصنّفُ المُجتمعاتِ البدائيّةَ التي لا تؤمنُ بوجودِ إله؟
بل حتّى في المُجتمعاتِ المُتحضّرةِ ألم ينشأ أطفالٌ في أجواء إلحاديّةٍ وأصبحوا مُلحدينَ تبعاً لمجتمعاتِهم وآبائِهم؟
ومَن الذي يقولُ إنَّ الإلحادَ قائمٌ على العلمِ والمعرفة؟ وكيفَ نفهمُ تصريحاتِ كبارِ المُلحدين التي تُرجعُ إلحادَهم إلى أسبابِ نفسيّةٍ وليسَت علميّة؟
فالإلحادُ في الواقع لا يعدُّ موقفاً علميّاً بقدرِ ما يعدُّ حالةً نفسيّةً مُنحرفةً ومُتمرّدةً على الفطرة، ويبدو أنَّ حضورَ النفسِ وغلبةَ الهوى إشكاليّةٌ حقيقيّةٌ تلاحقُ الجميعَ بما فيهم العلماءُ المُحترفون.
ومِن هُنا كانَ مِن أهمِّ توصياتِ الأديانِ بشكلٍ عام والإسلامِ بشكلٍ خاص هوَ العملُ على تربيةِ النفسِ وتهذيبِها.
فإشكاليّةُ العلمِ الحقيقيّة ليسَ في قصورِه أحياناً عن بلوغ الواقع وإدراكهِ كما هو، أو في محدوديّةِ الأدواتِ المُستخدمةِ في البحثِ والدراسة، وإنّما في تدخّلِ النفسِ وحرفِ مسارِ العلم عن إصابةِ الواقعِ الذي لا ينسجمُ معَ ميولِها وتوجّهاتِها، فكثيراً ما تكونُ الأيدلوجيّةُ هيَ المُتحكّمةُ في النتائج.
يقولُ عُمر شريف المُهتمُّ برصدِ الإلحاد: "العلمُ كثيراً ما يتبعُ الأيديولوجيّةَ وليسَ العكس، ذلكَ أنَّ العقلَ المُحايدَ تماماً في حُكمِ المُستحيلات، فهذا عالمُ المناعةِ جورج كلين، يصارِحُنا بأنَّ إلحادَهُ ليسَ مُنطلِقاً منَ العلم، بل كانَ إيماناً مُسبقاً اكتسبَهُ في صِباه.
ويؤكّدُ نفسَ المعنى عالمُ الوراثةِ ريتشارد ليونتن في حديثهِ عن صديقهِ كارل ساجان فيقول: منَ الواضحِ تماماً أنَّ القناعاتِ المادّيّةَ لساجان كانَت عقيدةً مُسبقةً، شكّلَت نظرتَهُ للعِلم.
ويتبنّى ريتشارد ليونيت نفسَ القناعةِ التي نسبَها لساجان، ويقولُ: إنَّ المادّيّةَ هيَ المُطلَق، ولن نسمحَ للألوهيّةِ أن تقتربَ منَ الباب"
وفي كتابِه "سيكولوجيّةُ الإلحاد"؛ يقولُ فيتز "بالنظرِ إلى خِبرتي الخاصّة فقد صارَ منَ الواضحِ بالنّسبةِ إلى أنَّ الأسبابَ التي جعلَتني مُلحداً ومُتشكّكاً عندَما كانَ عُمري 18 إلى 38 سنة كانَت أسباباً سطحيّةً، وغيرَ منطقيّة، وبلا نزاهةٍ فكريّةٍ أو أخلاقيّة، وأنا مقتنعٌ أنَّ الأسبابَ نفسَها هيَ الشائعةُ الآن بينَ المُفكّرين"
ويقولُ الباحِث إسماعيل عرفة المُحرّرُ في قسمِ رواق من موقعِ الجزيرة "ويغلبُ على ظنِّ الكثيرينَ أنَّ ظاهرةَ الإلحادِ ترجعُ إلى أسبابٍ علميّةٍ محضة، لكن بالتحقيقِ يبدو أنَّ ذلكَ مجانبٌ للصّواب، فعلى سبيلِ المثال، قامَت الجمعيّةُ العلميّة "سيجما إكس آي" باستطلاعِ رأيٍّ في أميركا الشماليّة، خلصُت فيه إلى أنَّ مستوى دخلِ الفرد عندَما يصلُ إلى 50 ألف دولار سنويّاً فإنَّ نسبةَ الإلحادِ تزيدُ مع كلِّ زيادةٍ في دخلِ الفرد.
ويؤكّدِ ذلكَ إدوارد لارسون في بحثٍ له منشورٍ في مجلّةِ "الطبيعة" (Nature) المشهورة؛ حيثُ استقرأ أنَّ الأفرادَ الذينَ يزيدُ دخلُهم عَن 150 ألفِ دولار سنويّاً ينتشرُ بينَهم الإلحادُ بشكلٍ كبير.
منَ الواضحِ إذن أنَّ العاملَ الاقتصاديّ رافدٌ أساسيٌّ مِن روافدِ ظاهرةِ الإلحاد"
ومنَ الواضحِ أنَّ الدوافعَ النفسيّةَ ليسَت واحدةً عندَ الجميع، فما يكونُ دافعاً عندَ البعضِ لا يكونُ دافعاً عندَ البعضِ الآخر.
ومعَ ذلكَ يمكنُ إرجاعُ الأسبابِ في طابعِها العامِّ إلى الذاتيّةِ التي تؤثّرُ فيها عواملُ البيئةِ والمحيط السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ مُضافاً لعواملِ التربيةِ والتعليم.
والذي يدعونا إلى ترجيحِ هذا التحليلِ وبخاصّةٍ في عالمِنا العربيّ، هوَ عدمُ وجودِ مقارباتٍ موضوعيّةٍ للإسلام مِن قِبلِ المُلحدينَ العرب، وفي مقابلِ هذا التعدّي غير المُبرّرِ على الإسلامِ لم نرَ إبداعاً لهذهِ العقليّةِ المُلحدة، ولم تُنتِج لنا رؤيةً فلسفيّةً تعبّرُ عن خيارِهم المعرفيّ الذي ارتضوهُ وجعلوهُ بديلاً للإسلام.
وهذهِ الدوافعُ الذاتيّةُ ليسَت خاصّةً بالخطابِ الإلحاديّ في العالمِ العربي، وإنّما نجدُ تمظهراتِها الواضحةَ في الإلحادِ الغربيّ، "على سبيلِ المثال، ثمّةَ دراسةٌ بعنوان "النمطِ النفسيّ للمُلحد" شملَت 320 ملحدًا منَ الذكورِ الأميركيّين، كشفَت الدراسةُ أنَّ نصفَ مَن تبنّوا الإلحادَ كخيارٍ فقدوا أحدَ والديهم قبلَ سنِّ العشرين، وأنَّ عددًا كبيرًا مِنهم عانى كثيراً في طفولتِه وصباه، ما دفعَ أحدَ الباحثينَ المُشاركينَ في الدراسةِ إلى التوصيةِ بضرورةِ دراسةِ ظروفِ نشأةِ وتربيةِ المُلحدين عندَ رصدِ ظاهرةِ الإلحاد. و المُلفتُ أنّه يمكنُ تطبيقُ تلكَ التوصيةِ على ملاحدةٍ أو لاأدريّين أو حتّى ربوبيّينَ كبار مثلَ آرثر شوبنهاور، وبرتنارد راسل، وجان بول سارتر، وفولتير، وبارون دي هولباخ، الذينَ عانوا جميعاً مِن ظروفٍ أسريّةٍ صعبة اختلَّ فيها التوازنُ الأسريّ بشكلٍ كبيرٍ فارتدَّ ذلكَ عندَ هؤلاءِ لا إلى صورةِ الأسرةِ فحسب؛ وإنّما إلى مفهومِ الإله كذلك.
في ذاتِ السياقِ الذي نؤكّدُ فيهِ على مركزيّةِ العاملِ النفسيّ في ظاهرةِ الإلحاد، يؤكّدُ ستيفن هوكينغ على أنَّ علماءَ الفلكِ ينفرونَ "غريزيّاً" مِن فكرةِ أن يكونَ للزمانِ بدايةٌ أو نهاية، ما يجعلُ ساحاتِ العلم ميداناً للتحيّزاتِ النفسيّةِ والاختياراتِ الأيديولوجيّة مثلُها مثل أيّ ميدانٍ في المجالِ العامِّ تمامًا، كالسّياسةِ والاقتصادِ والاجتماع.
أمّا لورنس كراوس، أستاذُ الفيزياء الأميركيّ والملحدُ ذائعُ الصيت، فإنّه يقرُّ بأنّه "يحتفلُ" بغيابِ أدلّةٍ لوجودِ الله؛ ممّا يوضّحُ أنّه ليسَ لا يؤمنُ بعدمِ وجودِ الله فحسب؛ بل إنّه لا يريدُ أن يكونَ هناكَ إلهٌ أصلًا"
وفي محاضرةٍ للبروفيسور وعالمِ النفسِ (بول فيتز) في جامعةِ كولومبيا بعنوانِ علمِ نفسِ الإلحاد، والتي تمَّ ترجمتُها ونقلُها في موقعِ ساس الإلكتروني، يقولُ فيها: "إذا دقّقنا النظرَ في مُعظمِ المُلحدينُ البارزينَ عبرَ التاريخ سنجدُ كراهيةً شديدةً تجاهَ آبائِهم، فولتير – الذي رفضَ فكرةَ الإله – أنكرَ بشدّةٍ وجودَ والدِه إلى درجةِ أنّه اختارَ لنفسِه لقباً غيرَ اسمِ والده، دنيس ديدرو كذلكَ قالَ ذاتَ مرّة “لو أنَّ الطفلَ يملكُ قوّةَ رجلٍ بالثلاثين لقتلَ والدَه ليضاجعَ والدته”.
فرويد نفسُه لاحظَ بأنَّ الشبابَ يميلونَ إلى فقدانِ إيمانِهم إذا فقدَ آباؤهم سلطتَهم الأبويّةَ عليهم، وهذا قد يحدثُ بأكثرَ مِن طريقةٍ منها:
1- الأبُ موجودٌ لكنّهُ ضعيفٌ وجبانٌ ولا يستحقُّ الاحترامَ مِن قِبَلِ الابن.
2- الأبُ موجودٌ لكنّه يعتدي على أبنائِه جسديّاً أو جنسيّاً.
3- الأبُ غائبٌ إمّا للموتِ أو بسببِ هَجرهِ للأسرة.
إذا نظَرنا لوالدِ سيجموند فرويد، جاكوب فرويد كانَ شخصاً ضعيفاً لا يستطيعُ أن يوفّرَ الأمانَ لأسرتِه وكتبَ عنهُ فرويد أيضاً بأنّهُ كانَ مُنحرفاً جنسيّاً.
نيتشه ماتَ والدُه حينَ كانَ في الرابعةِ مِن عُمره.
فيورباخ هجرَهُ والدُه عندَما كانَ صغيراً وتزوّجَ مِن امرأةٍ أخرى وعاشَ في نفسِ المدينةِ وحينَما ماتَت عادَ لأسرتِه حينَ كانَ فيورباخ في العشرينِ مِن عُمره.
أيضًا مؤسِّسةُ مُنظّمةِ المُلحدينَ الأمريكيّين مادلين موراي أوهير كانَت دائمةَ الشجارِ معَ والدِها حينَما كانَت صغيرةً، وحاولَت قتلَهُ ذاتَ مرّة، وغيرهم الكثيرونَ منَ المُلحدينَ الذينَ نشأت بينَهم وبينَ آبائِهم مشاكلُ في الصّغر.
كما تطرّقَ عبدُ الوهابِ المسيري أيضًا لهذهِ الدوافعِ النفسيّةِ وهوَ يحكي تجربتَهُ الشخصيّة قائلاً: وكنتُ قد بدأتُ ألاحظُ أنَّ السّلوكَ الشخصيّ للرّفاقِ (الملاحدة) كانَ مُتناقضاً معَ أيّ نوعٍ مِن أنواعِ المثاليّاتِ الدينيّةِ أو الإنسانيّة، وأنَّ كميّةَ النرجسيّةِ عندَ بعضِهم كانَت ضخمةً للغايةِ والحرّيّاتُ الخُلقيّةُ التي كانوا يسمحونَ بها لأنفسِهم كانَت بالفعلِ كاملة، أي في واقعِ الأمرِ كانوا شخصيّاتٍ نيتشوية داروينيّةٍ لا علاقةَ لها بأيّةِ منظومةٍ أخلاقيّة، خاصّةً أنَّ ماركسيّةَ بعضِهم كانَت تنبعُ مِن حقدٍ طبقيٍّ أعمى وليسَ مِن إيمانٍ بضرورةِ إقامةِ العدلِ في الأرض بل كثيراً ما كنتُ أشعرُ أنَّ بعضَهم كانَ ماركسيّاً بحكمِ وضعِه الطبقيّ وحسب، وأنّه لو سنحَت الفرصةُ أمامَهُ للفرارِ مِن طبقتِه والانضمامِ للطبقاتِ المُستغلّةِ الظالمةِ لفعلَ دونَ تردّدٍ ولطلّقَ ماركسيّتَه طلاقـاً بائِنـاً لكلِّ هذا قدّمتُ استقالتِي وطلبتُ أن أُعدَّ مِن أصدقاءِ الحزبِ لا مِن أعضائِه"
وعليهِ: فإنَّ علاقةَ الإلحادِ بالعلمِ ليسَ إلّا ادّعاءً كاذباً.
اترك تعليق