هل يحتكر الدين الأخلاق أم أنها مفهوم أوسع من الأديان؟ مقال للرد على فكرة أن الأخلاق أقدم من الدين وهو ليس المصدر الوحيد للأخلاق
هناكَ أزمةٌ يعيشُها الإلحادُ في إيجادِ تبريراتٍ للأخلاقِ بعيداً عن الإيمانِ بالله، ولذا نجدُه يسعى جاهداً للتشكيكِ في مصدريّةِ الأديانِ للأخلاق، إلّا أنَّ كلَّ ذلكَ يعدُّ محاولاتٍ يائسةً لا تخرجُه مِن ورطةِ المادّيّةِ العمياء، فالقيمُ الأخلاقيّةُ لا تنتمي إلى الطبيعةِ وعالمِ المادّة، فالحقُّ، والخيرُ، والعدلُ، والإحسانُ، والرحمةُ... وغيرُها منُ القيم ليسَت صفاتٍ موجودةً في المادّة، بل غير موجودةٍ حتّى في الإنسانِ بوصفِه مادّةً تحرّكُه أعصابٌ غيرُ واعيةٍ، فمع تحكّمِ هذهِ النظرةِ كيفَ يمكنُ أن نوجدَ تفسيراً مختبريّاً وتشريحيّاً لهذهِ القيمِ الأخلاقيّة عندَ الإنسان؟
فمنَ المُستحيلِ ثبوتاً وإثباتاً أن يكونَ هناكُ قيمٌ أخلاقيّةٌ تتّصفُ بالإطلاقِ دونَ الإيمانِ بوجودِ إلهٍ يكونُ مصدراً لهذا الإطلاق، وهذا ما تنبّهَ إليهِ الكثيرُ مِن فلاسفةِ الإلحاد، "وقد أدركَ الفيلسوفُ الوجوديُّ الملحدُ والشرس، (جون بول سارتر)، مبلغَ الإحراجِ الفِكري في مسألةِ أصلِ التمييزِ الأخلاقيّ بينَ الخيرِ والشر، ولذلكَ قال: يجدُ الوجوديُّ حرجاً بالغاً في ألّا يكونَ اللهُ موجودًا، لأنّه بعدمِ وجودِه تنعدمُ كلُّ إمكانيّةٍ للعثورِ على قيمٍ في عالمٍ واضح. لا يمكنُ أن يكونَ هناكَ خيرٌ بدهيّ لأنّه لا يوجدُ وعيٌ لانهائيُّ وكاملُ منَ الممكنِ التفكيرُ فيه. لم يُكتَب في أيّ مكانٍ أنَّ الخيرَ موجود، ولا أنَّ على المرءِ أن يكونَ صادقاً أو ألّا يكذب".
ومِن هُنا نجدُ أن ريتشارد دوكنز يتّسقُ مع إلحادِه ويلتزمُ بمآلاتِه، فيرفضُ صبغَ الوجودِ ككلٍّ بأيّ صفةٍ قيميّةٍ على الإطلاق، فيقولُ مُقرّاً بمشكلةِ النسبيّةِ الأخلاقيّة: "في هذا العالمِ لا يوجدُ شرٌّ ولا يوجدُ خيرٌ، لا يوجدُ سوى لامبالاةٍ عمياءَ وعديمةِ الرّحمة". ويقولُ أيضاً: إنّه منَ العسيرِ جدّاً الدفاعُ عن الأخلاقِ المُطلقةِ على أسسٍ غيرِ دينيّة".
أمّا الباحثُ الأميركيّ اللا أدري ديفيد برلنسكي فيوضّحُ مقولةَ دوستويفسكي: "إذا كانَ الإلهُ غيرَ موجودٍ فكلُّ شيءٍ مباح" يقولُ شارحاً: "فإذا لم تكُن الواجباتُ الأخلاقيّةُ مأمورةً بإرادةِ الله، ولم تكُن في الوقتِ ذاتهِ مطلقةً، فإنَّ (ما ينبغي أن يكون) هوُ ببساطةٍ ما يقرّرُه الرجالُ والنّساء. لا يوجدُ مصدرٌ آخرُ للحُكم. هل هذهِ إلا طريقةٌ أخرى للقولِ بأنّه طالما أنَّ الإلهَ غيرَ موجود، فكلُّ شيءٍ مباح؟".
وقد أشادَ داروين نفسَهُ بالدورِ الفعّالِ للإيمانِ بالمعبودِ حيثُ يقول: "وبالنسبةِ للأعراقِ الأكثر تمدّناً، فإنَّ الإيمانَ الراسخَ بالوجودِ الخاصِّ بمعبودٍ، مُطّلعٍ على كلِّ شيءٍ قد كانَ له تأثيرٌ فعّال، على التقدّمِ الخاصِّ بالأخلاق"
ومِن جهةٍ أخرى فإنَّ الاكتفاءَ برصدِ هذهِ القيمِ الأخلاقيّة مِن واقعِ الحياةِ الاجتماعيّة، يتضمّنُ اعترافاً بوجودِ بُعدٍ غيرِ مادّي يتطّلعُ له الاجتماعُ الإنساني؛ لبداهةِ وجودِ هذه القيمِ الأخلاقيّةِ عندَ الإنسانِ والمُجتمع، ولبداهةِ كونِها غيرَ مادّيّةٍ، وهذا ما لا يمكنُ أن ينسجمَ معُ التفكيرِ الإلحادي.
وقانونُ الانتخابِ الاجتماعيّ الذي جاءَ على وزنِ قانونِ الانتخابِ الطبيعيّ لا يشكّلُ حلّاً بقدرِ ما يشكّلُ خدعةً وتحايلاً، فالتطوّرُ الذي يحدثُ في الكائناتِ الحيّةِ بحسبِ النظريّةِ الداروينيّة يقومُ على بقاءِ الأجدرِ والأقوى والأصلح، وهوَ طرحٌ يمكنُ تفهّمُه ضمنَ إطارِ المادّةِ غيرِ الواعية، ولكن كيفَ يمكنُ فهمُهُ واستيعابُهُ ضمنَ الحياةِ العاقلةِ والمُريدة؟ وحركةُ الإنسانِ والمُجتمعِ حركةٌ واعيةٌ تقومُ على التطلّعِ نحوَ الكمالِ الذي قد يكونُ فيه التضحيّةُ بالذاتِ مِن أجلِ العدلِ والحُرّيّةِ والكرامة، الأمرُ الذي يجعلُها تقعُ على العكسِ تماماً منَ الأنانيّةِ المحضةِ التي يقومُ عليها الانتخابُ الطبيعي.
فالاستجاباتُ العصبيّةُ، والسلوكيّاتُ الغرائزيّة، عمليّةٌ غيرُ واعية، قد نجدُها في بعضِ السلوكيّاتِ التي يمارسُها الإنسانُ كما يمارسُها الحيوان، أمّا السلوكُ الحرُّ القائمُ على الوعي والإرادةِ والقدرةِ على الاختيارِ والتمييزِ فهوَ حتماً مختلفٌ عن الحالةِ الغرائزيّة.
والعملُ على تطبيقِ قانونِ البقاءِ للأصلحِ اجتماعيّاً سوفَ يؤدّي إلى آثارٍ مدمّرةٍ للوجودِ الإنساني، فتمييزُ البشرِ بحسبِ الجيناتِ الوراثيّة يفتحُ الطريقَ أمامَ صراعٍ عرقيٍّ تنقلبُ معهُ كلُّ المفاهيمِ الأخلاقيّةِ إلى مفاهيمَ لا أخلاقية، فيصبحُ الخيرُ شرّاً، والعنصريّةُ فضيلةً، والعدلُ ضعفاً، والظلمُ قوّةً، والإنصافُ سُخفاً، والرحمةُ جهلاً، وهكذا تكونُ الحقوقُ فقط للأقوى والأكثر صموداً.
والنتيجةُ المُتحصّلةُ مِن هذا التمايزِ العِرقي؛ هوَ منحُ العرقِ المُتحضّرِ مِنها الحقَّ في القضاءِ على العرقِ الهمجي، ضمنَ قانونِ البقاءِ للأصلحِ والانتقاءِ الطبيعي، حيثُ يقولُ فيه: "في مرحلةٍ مستقبليّةٍ معيّنة، ليسَت ببعيدةٍ، سوفَ تقومُ الأعراقُ البشريّةُ المُتحضّرةُ على الأغلبِ بالقضاءِ على الأعراقِ
الهمجيّةِ واستبدالِها في شتّى أنحاءِ العالم." ولهذا النمطِ منَ التفكيرِ نجدُ عالمَ التاريخِ الأمريكيّ توماس ناب thomas knapp من جامعةِ لويال يقول: " كانَ الناسُ ينتظرونَ الحربَ قبلَ عام 1914م بمُنتهى الشغف، وكانوا يتمنّونَ قيامَ الحرب، وكانَ الدافعُ لسيطرةِ هذا الفرحِ عليهم هوَ سيطرةُ الدّاروينيّةِ الاجتماعيّة على الناسِ في تلكَ الفترةِ حيثُ طُبّقَت في مدارسِ أوربـا، فهيَ ترى الحربَ دافعـاً للرّقيّ للأقوى ودافعاً للنّشاط"
وفي المُحصّلةِ لا يمكنُ للإلحادِ بحسبِ فلسفتِه المادّيّةِ أن يتحدّثَ عن الأخلاقِ والطريقُ الحصريُّ لفهمِ الأخلاقِ كحقيقةٍ لها وجودٌ في حياةِ الإنسانِ هوَ الإيمانُ باللهِ بوصفِه مصدرَ كلِّ كمالٍ وجمال.
اترك تعليق