لم خرج الامام الحسين (ع) بنفسه الى كربلاء؟

أو بمعنى آخر: لماذا خرج على حكم يزيد أو نظام حكمه بنفسه ولم يأمر اتباعه بأن يخرجوا من دونه ويبقى في المدينة ويتبعون أوامره، ونحن نعلم أنه كان لديه اتباعٌ وشيعةٌ ومحبُّون له ومخلصون؟ دمتم في رعاية الله وتوفيقه.

: سيد صلاح الحلو

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربِّ العالمين

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

هذا السؤال -في حقيقة الأمر -ينشعبُ إلى شقّين:

الأول: لماذا خرج الإمام الحسين -عليه السَّلام- بنفسه على حكم يزيد، وطبعاً السَّائل يُريد توضيحاً لسبب الخروج، لا الاعتراض على الخروج.

الثاني: لِمَ لَم يأمر الإمام -عليه السَّلام -اتباعه بالخروج دونه، مع انَّهم كانوا مُحبّين له ومخلصين.

وبمجموع جوابِ الشقين تتَّضح ألوان صورة النهضة الحسينيَّة وظلالُها، وترتسم معالمُ خريطة الثورة المُقدَّسة وتضاريسُها.

ولكن ينبغي أن نُلمع إلى نقطةٍ مهمةٍ قبل الجواب، وهي أن حِراك المعصوم -عليه السَّلام- يُعدُّ فعلاً له، وينبغي أن نتعامل مع هذا الفعل على أساس توضيح بيانات المعصوم نفسه، لا أن نتطلَّب له العلل رجماً بالغيب، ونلتمس له الأعذار عسفاً للدليل، وعند التفتيش عن سبب خروجه -عليه السَّلام -في نصوص محاوراته، والتنقير عن غايته في ثنايا أقواله نرى أن من ذلك طلبه -عليه السلام -للشهادة.

الشَّهادةُ توفيق:

ولا ريب أنَّ الشَّهادةَ توفيقٌ مِنَ الله تعالى لا تُنَالُ الا بالدُّعَاءِ الصّادقِ، ولا تُهدى إلَّا بالمَسألةِ الحثيثةِ؛ لذا وَرَدَ في اعمالِ ليالي شهرِ رمضانِ الدُّعاءُ بطلبِ الشهادةِ في قوله عليه السلام (وقتلاً في سبيلِكَ فوفِق لنا)1.

ولقد كان السلفُ الصَالحُ - رضوانُ اللهِ عليهم- يلحُّونَ على اللهِ أن يرزقَهم الشهادةِ وحسبك منهم عبد الله بن عفيف الازدي الذي ذهبت إحدى عينيه مع أمير المؤمنين -عليه السلام– في حرب الجمل، والأخرى معه يوم صفين، هذا البطل المغوار الذي تجرأ على ابن مرجانة الذي وصف الامام الحسين وأباه –عليهما السلام –وحاشا ساحة قدسيهما – بالكذب، في ذلك الموقف الر هيب الذي يلتهب بنار الخوف، ويتلظى بسعير الموت، فردَّ عليه قائلاً غير هيَّاب، متكلّماً غير وَجِل (إنَّ الكذاب أنت وأبوك) فلمَّا همَّ ابن زياد – عليه اللعنة – بقتله قال له: (إني كنتُ اسألُ اللهَ ربيَ أن يرزقني الشَّهادة... وأن يجعلها على يدي ألعن خلقه)2.

فإذا كان دأبُ الصالحين وديدنُ العارفين أن يسألوا الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فالإمام الحسين -عليه السَّلام- أجدر منهم بهذا الدأب، وأحرى منهم بهذا الإلحاح، مع إنه إمامٌ معصومٌ، وهو رأس الزهد والعبادة، والعلم والبصيرة؛ لذلك قال الشيخ المجلسيّ: (إن بعض الدرجات لا يمكن الوصول إليها إلَّا بالشهادة، فيمُنُ الله سبحانه وتعالى على من أحبَّ من عباده بها تعظيماً وتكريماً له)3.

فلولا شهادة الإمام الحسين عليه السلام في ثرى كربلاء لما وصل الى هذه المنزلة من رُبى الجنَّة.

وقد وردَ في اللهوف:" أنَّ الإمامَ الحُسين (ع) قالَ لأخيهِ محمّدٍ بنِ الحنفيّة: أتاني رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم بعدَ ما فارقتُك، فقالَ: يا حُسين أخرُج فإنَّ اللهَ قد شاءَ أن يراكَ قتيلاً"4.

وهذه الجملة الخبريَّةُ في مقام الإنشاء، تفاؤلاً بأن الأمر بالخروج حاصلٌ لا محالة، وأنَّ القتل في سبيل الله صار مفروغاً منه، وإلَّا -لو بقي الإمام الحسين- عليه السلام- في مكَّة المكرمة لقتله يزيدُ -عليه اللعنة - ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، كيف وقد قال والي يزيد على مكَّة المكرَّمة محمد بن سعيد الأشدق عندما بعث رجالاً من جلاوزته لقتل الإمام الحسين -عليه السلام- على كلِّ حال 5 فهو بذاك ينوي هتك الحرمات الثلاث، الدَّم الحرام، والبيت الحرام، والشهر الحرام؛ لأنَّه –عليه السَّلام– خرج في أيام الحجّ، وقد فعلوا بعد ذلك هتك حرمة البيت بقتل عبد الله بن الزّبير.

إخبارُ الإمام الحسين – عليه السلام- بمقتله:

ونبَّه الإمام الحسينُ – عليه السلام – على ذلك غير مرَّةٍ في مواقف عامَّةٍ ومجالس خاصَّة فمن الأول قوله – عليه السَّلام-"والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، ولو كنت في جحر هامة لاستخرجوني وقتلوني"6

وأصحر – عليه السَّلام – عن نيَّته في توطين نفسه على القتل، وأبان عن تصميم عزمه على الشهادة فقال:" كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفا وأجربه سغباً لا محيص عن يومٍ خط بالقلم" 7

فتأمَّل كلمة "لا محيص" وما بعدها لتعلم أنَّ ذلك كان حتماً مقضيَّاً وأمراً لازما.

ومن الثاني قوله لابن الزبير: إن أبي حدَّثني أنَّ بها كبشاً يستحِلُّ حرمتَها، فما أحبُّ أنْ أكونَ أنا ذلك الكبش!8

ومَن يتتبَّع النُّصوص الواردة أدنى تتبّع، ويتأمّلُ فيها أقلَّ تأمل يخرج بهذه النتيجة التي خرجنا بها، ويخلص إلى تلك النهاية التي خلصنا إليها.

لماذا لم يبقَ الإمام – عليه السلام – في المدينة؟

وأمَّا بقاؤه في المدينة فقد كان خطراً عليه، ولم يكن يزيد ليحترم المدينة وقد قام بوقعة الحرَّة بعد واقعة كربلا، وهو مَن كتب بعد هلاك معاوية إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبةَ بن أبي سفيان أن يأخذ الإمام الحسين – عليه السَّلام – بالبيعة له ولا يرخص له في التأخر عن ذلك، حتى جرت بين الإمام – عليه السلام – ومروان – وكان حاضراً ذلك المجلس – مناوشةٌ بالكلام، وكان قد أشار على الوليد أن لا يسمح للإمام الحسين – عليه السَّلام – بالخروج قائلاً:" والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى يكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه"9 فها أنت ترى أنَّهم خيَّروه – عليه السلام – بين السلّة – وهي القتل – والذلَّة – وهي البيعة، فخرج – عليه السلام – بعد يومين من مدينة جدّه – صلى الله عليه وآله – وهو يتلو قوله تعالى:"فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ"10 ليطابق لسانُ المقال لسانَ الحال.

جواب الشّق الثاني:

لقد أمر الإمام الحسين – عليه السلام – النَّاس أن يخرجوا معه لقتال يزيد، لا كما توهَّم السَّائل أنَّ ذلك لم يحدث، وبعث لذلك الرسُلَ والوفود لرؤساء القبائل من خاصَّة القوم، وللجماهير من عامَّة النَّاس، فبايعه من أهل الكوفة على يد مسلم بن عقيل – عليه السلام – ثمانية عشر ألفاً، وكتبوا له: أنَّما تقدم على جندٍ لك مجنَّدة11.

وقد علمتَ مما سلفَ، ودريت مما فرطَ أنَّه – عليه السَّلام – لا يُمكنه البقاء في المدينة المنوَّرة، أو المكوث في مكَّة المكرَّمة كونه عرضةً للقتل، غرضاً للموت، ويرى السيد الصدر – كما خطّر في البال - أنَّ النَّاسَ أقامَت الحُجَّة عليه بكتابتهم له، فصار لزاماً عليه القيام بتكليفه الشَّرعيّ وهو النَّهضة، وذكر الشيخ المطهري – كما يلوح في الخاطر – أن تحرّك الإمام – عليه السلام – كان قبل مكاتبة أهل الكوفة له، فكتابتهم ليست علَّةً لتحرّكه – عليه السَّلام – ويمكن إيقاع الصلح بينهما بأن السيد نظر لظواهر الأمور وهي مكاتبة النَّاس له – عليه السَّلام - بالقدوم، والشيخ نظر لبواطن الأمور وهي أمر الرسول – صلى الله عليه وآله – بالقتل.

على أنَّ الشيعة كانوا مغلوبين على أمرهم من عهد معاوية، وقد سلَّط عليهم من يستأصل شأفتهم، ويذيقهم الأمرَّين، وقد ضُيِّق عليهم وهُجّروا وأدخلوا السجون وعُرّضوا للقتل، ونُكِّل بهم.

على أن دعوى الحبّ والإخلاص وحدها لا تكفي، فالحبُّ والإخلاص مراتب أعلاها ما كان عند حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة والصفوة من أصحاب الإمام الحسين – عليه السلام – وأهل بيته، وهم القلَّة النَّادرة، وأقلَّها ما كان عند مَن وصفهم الفرزدق "قلوبُهم معك وسيوفهم عليك"12 وهم الكثرة الكاثرة؛ لذلك وجب على الإمام الحسين – عليه السلام – بعد أن عزَّ النَّاصر، وقلَّ المعين أن يقوم هو بنفسه، والصفوة من أهل بيته، والميامين من أصحابه – دون سائر النَّاس - ليسقوا شجرة الدين بريِّ دمائهم، ويرووا غرس الشريعة بسقي نزيفهم سلام الله عليهم ما غرَّد طائرٌ على فنن، وغنَّت حمامةٌ على غصن.

............................................................

المصادر.

1- إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس، الباب الثالث، فصل 14 فيما نذكره من الأدعية عند دخول شهر رمضان

2- انظر :إرشاد الشيخ المفيد 2/117، ومثير الأحزان لابن نما الحلي 72

3- بحار الأنوار 64/250 ، مرآة العقول9/322

4- اللهوف 40

5- بحار الأنوار 55/99، ينابيع المودة3/59

6- الإرشاد 2/76

7- بحار الأنوار 44/367

8- تاريخ الطبري 4/289

9- الإرشاد 2/33

10- القصص 21

11- روضة الواعظين 173

12- انظر :أنساب الأشراف للبلاذري3/164