أضواءٌ على آيةِ المباهلة

لماذا قال النبي (صلى الله عليه وآله) نساءنا كما ذكر في آية المباهلة مع العلم أنه أتى بفاطمة (عليها السلام) لوحدها؟ وما معنى قوله وأنفسنا وأنفسكم؟

: سيد صلاح الحلو

الجواب:

أشرقت آيةُ المباهلةِ على أفقِ القرانِ مشَّعةً بخصالٍ محمَّدٍ وآله، تصدعُ شفاهُها بعلّوِ مقامِهم، وتصدحُ ترانيمُها بعظيمِ مناقبهم، وقد دلعَ اللهُ لسانَ القرآنِ بتراتيلِ مدحهم، وغرَّدَ طائرُ الآفاقِ بصيت فضلهم.

فبخٍ بخٍ يالها من فضيلةٍ جسيمةٍ دونَ سماءِ علاها كواكبُ الفضائل، ويالها من مكرمةٍ عظيمةٍ دونَ سُرادِقِ شأوها سِماكُ المحامد.

وقد روى هذه الفضيلةَ الجسيمةَ، والمنقبةَ الكريمةَ أعيانُ المصنِّفينَ في عيونِ المُصَنَّفات من علماء الفريقينِ وأعلامِ الطائفتين، فطرَّزوا بوشيها سطورَ طواميرهم، وعطَّروا بحروفِها اسطارَ قراطيسهم حتى غدا مصباحُها انورَ من الشمسِ في رابعةِ النَّهار، وأقمرَ من البدر في ليالي السّرار، وصار حديثُها اشهرَ من علمٍ في رأسهِ نار {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.

تحليل السؤال.

والسؤال هاهنا عن أمرين:

لِم جاء القرآن الكريم بلفظ "نسائنا" مع أنَّه – صلى الله عليه وآله- أخرج للمباهلة السيدة الزهراء دون سائر النّساء؟

وما معنى قوله تعالى "وأنفسنا وأنفسكم"

واليك الجواب.

لفظ "نسائنا"

تُطلق لفظة "النّساء" ويُراد بها البنات في لسان العرب كما في قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}1 يعني بناتٍ، وقوله تعالى{وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ}2 هذا حتى لا يُقال إنَّ العربيَّ لا يُطلق لفظ النّساء على البنات كما زعم محمد رشيد رضا في تفسيره المنار عند تفسيره هذه الآية تقوّلاً من غير دليل، وزعماً من دون برهان.

أتراه تدبَّرَ ذيلَ ما ساقه ابنُ كثير عن دلائل البيهقي بعد حديث طويل أنه صلى الله عليه وآله ـ (أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة)3 فلو تدَّبره جيداً لعلم أن المراد بالنساء -ها هنا- فاطمة فمع انه كان له عدَّةُ نسوةٍ لكنه لم يُخرج إلَّا الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهرا للملاعنه للياقتها لذلك ؛لأن نفس الصدّيقة الطاهرة نفسٌ نورانيٌّ من سنخ نفوس الأنبياء بل أعظم، بخلاف بعض نفوس نسائه المشوبة بالكدرة والظلمانية.

وإلى هذا المعنى أشار السيد السبزواريُّ في المواهب قائلاً ( والمباهلة من الأنبياء إظهارٌ لاتصال نفوسهم القدسية بروح القدس وبيان لتأييداته تعالى لهم ، وإشارة إلى انفعال عالم الشهادة وتأثره بعالم الغيب . والمباهلة لا تصدر إلَّامن النفوس الملكوتية؛ ولذا كان لها التأثير الكبير على النفوس غير الكاملة وانفعالها كما انفعلت نفوس النصارى من نفس الرسول –صلى الله عليه وآله-فتنازلوا منها بعد قبولها لما استشعرت انفسهم الخوف ، وأحجمت عنها وطلبت المواعدة والمعاهدة خوفاً من اللعنة وما يلحقهم من الوزر والوبال كما نصحهم رهبانهم في ذلك الحين )4.

ثم إن هاهنا نكتةٌ تُستفادُ من كلمات تهذيب اللغة في ذيل مادة (نسي ) قال: (والنِسوة بكسر النون لجماعة المرأة من غير لفظها ، والنساء اذا كثرن).

فانه تعالى في الآية الكريمة أتى بلفظة النساء وأراد بها فاطمة فحسب كما يشهد له النقل الصحيح والحق الصريح، ولاريب أنه تعالى نزَّلها منزلة جماعة النساء إذا كثرن ففيها من الخير والكفاية بأن تقوم بهذه المهمة مقام نساء الأمة، كيف لا وهي لوحدها أمة شأنها شأن أبيها إبراهيم –عليه السلام – (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)5 بل هي أجلُّ شأنا وأعظم عند المعايرة وزنا؟

وهذا نظير قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) فإنه تعالى جاء بلفظ "النَّاس" وأراد به شخص الرسول الأعظم -صلى الله عليه وآله- كما بيَّنته عائشة في تفسيرها القرآن الكريم برواية البخاري في "كتاب التفسير" ومسلم في كتاب "الحج" باب "في الوقوف.." قالت: (وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الاسلام امر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ان يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)

وزعم آخرون أن المراد بالنَّاس آدم، أو إبراهيم عليهما السلام كما في عمدة القاري, وفي بعض مروياتنا أنهما إبراهيم وإسماعيل –عليهما السلام- جميعاً.

وما أحسن ما أفاده الشيخ المفيد بقوله: (ُثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)، إنّ الناس هاهنا واحد ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، نزلت في واحدٍ بعينه نادى النبي -صلَّى اللَّه عليه وآله- فقال : يا محمدُ! إنّ مدحي زين ، وإنّ شتمي شين .

وقد جنى مخالفونا في هذا الباب على أنفسهم جنايةً واضحةً ، وذلك قولهم إنّ المعنيّ بقوله : (والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِه أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) نزلت في واحدٍ بعينه وهو أبو بكر بن أبي قحافة ،-على قولهم - فكيف جاز أن يعبّر عن أبي بكر بلفظ الجمع وفسد أن يعبّر عن أمير المؤمنين عليه السّلام بذلك لولا الخزي والخذلان ؟ نعوذ باللَّه من عدم التوفيق)!

وفي الكافي الشريف باب "الناس وأشباه الناس والنسناس" ح339 من تفسير الإمام الحسين –عليه السلام – للآية (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ ) فَرَسُولُ اللَّه ص الَّذِي أَفَاضَ بِالنَّاسِ.

ومن سنن العرب – وقد وقع في لسانهم وجرت عليه مخاطباتهم- مخاطبةُ الواحد بلفظ الجميع، فيقال للرجل العظيم: انظروا في أمري وهو واحد ( الصاحبي في فقه اللغة ج1ص54).

وقال أبو ذؤيب الهذلي: لو كان مدحةُ حيٍّ منشراً أحدا ... أحيا أباكُنَّ يا ليلى الأماديح (شرح أشعار الهذليين ج 1ص127- ضرائر الشعر ص 276 ). والشاهد فيه: (أباكن) حيث خاطب الواحد ليلى بلفظ الجمع أباكن يا ليلى.

وقد ذكر أبو المظفر السمعاني (المتوفى: 489 ه) في تفسيره أنَّ وقوع الواحد بلفظ الجمع على طريق التفخيم والتعظيم كثيرٌ في القرآن (تفسير السمعاني ج3ص489 ).وَلَفْظَةُ: (نسائنا) وَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلْجَمْعِ فَغَيْرَ مُمْتَنِعٍ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي اَلْوَاحِدِ لِلتَّعْظِيمِ كما خوطبت فاطمة بذلك ودلت السنة، وهذا من موارد إطلاق العامّ وإرادة الخاصّ وهو في كلام العرب كثيرٌ من غير نكير.

ثم إنه تعالى لم يكتف ببيان هذه الكثرة، فمن الكثرة غثٌ، ومن الكثرة سمين، بل أراد أن يبيّن لنا ماهي فقال: إنها كثرةٌ عظيمةٌ وشريفةٌ فأشار إلى عظمتها بالإتيان ـ وهي واحدة ـ بضمير الجمع للمتكلمين، وأبان شر فها بنسبتها إلى سيد المرسلين "نساءنا".

لفظ "وأنفسنا"

وأمَّا بالنّسبة للسؤال الثاني يجيبُ عنه أبو حفص في لبابة قائلاً ( ـ وانفسنا ـ عنى نفسه وعلياً ,والعرب تسمي ابن العم نفساً كما قال تعالى { وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ }يريد اخوانكم، وقول جابر (وانفسنا وانفسكم ـ رسول الله وعلي بن ابي طالب )6 وبذا يندفع ماراه الثعلبي من انه أراد نفوسهم7 وما افاده النحاس في معانيه من ان المراد بالأنفس هاهنا أهل دينهم كما قال تعالى { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} وقال تعالى { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }8 هذا كله فراراً من أن يكون المراد بها علياً صلوات الله وسلامه عليه .

كيف لا؟ وهو المتفق عليه بين أرباب الحديث وطبقات الرواة حتى عللَّ بعضُ أعاظم المفسرين أن سكوت بعض الرواة عن ذكر الإمام عليٍّ -عليه السّلام- في جملة المباهلين أنما هو لمعلومية دخوله فيهم حتى لم يحتاجوا إلى ذكره 9.

وهو إن كان حملَهُ عليه حسنُ الاعتقاد بهم ولكنَّهُ بمعزلٍ عن الحق؛ فإنَّ الذي الجأهم إلى عدم ذكره هو بغضُهم له فما غرَّدتْ به شفاهُ يراعتِهِ غيرُ مسموع.

أي أن الوصيَّ –عليه السلام- هو بمنزلة النّبيّ صلى الله عليه وآله، ومساوي الأفضل أفضل وبذا يكون الإمام عليٌّ –عليه السلام- أفضل من كلّ الأنبياء والمرسلين عدا رسول الله –صلى الله عليه وآله فإنَّه يخصمه بالنبوَّة الخاتمة.

=================================

المصادر

1-النساء آية 11

2-النساء آية 7

3-تفسير ابن كثير 1/362

4-مواهب الرحمن 6/6

5- النحل آية 120

6-محاسن التأويل 2/329

7-تفسير الثعلبي 2/74

8-معاني القرآن للنَّحاس 1/414

9-مواهب الرحمن6/29