(حديث الناكثين والقاسطين والمارقين)

إذا أمَر النبيُّ عليَّ بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فلماذا لم يقاتل أبا بكر وعمر، الذَيْن تزعمون أنهما نكَثا البيعة في الغدير؟

: فريق اللجنة العلمية

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}

أولاً: حديث أمْرِ رسول الله (ص) لأمير المؤمنين (ع) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، حديث مشهور جداً، رواه جمهور المسلمين في مصادرهم، بطرق وألفاظ متعددة.

منها مثلاً:

• من طرق الشيعة:

روى الصدوق في العلل: ج١ ب٥٤ ح٣ ص٨٩، بسند قوي، عن ابن عباس (رض)، عن رسول الله (ص)، أنه قال لأمِّ سلمة (رض) ضِمن حديث طويل: «اشهدي يا أمَّ سلمة واحفظي: إنه (ع) يقاتِل الناكثين والقاسطين والمارقين».

• من طرق السنة:

روى البزار في المسند: ج٣ ص٢٦ ح٧٧٤، بسند قوي، عن عن أمير المؤمنين (ع)، قال: «عهَد إليَّ رسولُ الله (ص)، في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين».

وقد حاول بعض السُّنة تضعيف طرق هذا الحديث منهم: الألباني في السلسلة الضعيفة: ج١٠ ص٥٥٧ ح٤٩٠٧، وغيره. لكن بعضهم مثل الشوكاني في الفتح الرباني: ج٢ ص٩٧٦، نصَّ أن هذا الحديث ثابت عن رسول الله (ص).

والحق مع الشوكاني، فإن الألباني لم يتعرَّض لرواية مسند البزار أصلاً، وهي رواية قوية السند واضحة الدلالة.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: ج١ ص٢٠١، «وهذا الخبر من دلائل نبوته (ص)، لأنه إخبار صريح بالغيب، لا يحتمِل التمويه والتدليس، كما تحتمِله الأخبار المجمَلة».

وحتى على فرض عدم صحة هذا الحديث عند السُّنة، فلا توجد مشكلة عند الشيعة، لأنه صحيح لديهم، ويعتبرونه حُجة بينهم وبين الله (تعالى).

ثانياً: ورد في بعض صِيَغ هذا الحديث، تحديد لهوية هؤلاء الناكثين والقاسطين والمارقين، الذين أمَر رسولُ الله (ص) أميرَ المؤمنين (ع) بقتالهم.

منها مثلاً:

١- روى الصدوق في المعاني: ص٣١٠ ح١، بسنده عن الإمام الصادق (ع)، عن جدِّه رسول الله (ص)، أنه قال لأمِّ سلمة (رض): «يا أمَّ سلمة، اسمعي واشهدي: هذا عليُّ بن أبي طالب، سيِّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغُرِّ المحجَّلين، وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين. قلتُ: يا رسول الله، مَن الناكثون؟ قال: الذين يبايعونه بالمدينة، وينكثونه بالبصرة. قلتُ: مَن القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه مِن أهل الشام. قلتُ: مَن المارقون؟ قال: أصحاب النهروان».

٢- روى الطبري في الدلائل: ص٢٦٠ ح١٩١-٢٧، بإسناده عن الإمام الصادق (ع)، عن جدِّه رسول الله (ص)، أنه قال: «ولقد عهد إليه (ع) النبيُّ (ص)، وقال: لابد من أن تقاتل الناكثين وهُم أهل البصرة، والقاسطين وهُم أهل الشام، والمارقين وهُم أهل النهروان. فقاتلهم عليٌّ (ع) جميعاً».

٣- روى الخوارزمي في المناقب: ج١ ص١٧٦ ح٢١٢، بسنده عن أمير المؤمنين (ع)، أنه قال: «عهد إليَّ رسولُ الله (ص) أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. فقيل له: يا أمير المؤمنين، مَن الناكثون؟ قال: الناكثون: أصحاب الجمل، والمارقون: الخوارج، والقاسطون: أهل الشام».

٤- روى الخطيب في تاريخ بغداد: ج١٥ ص٢٤٣ ح٤٤٥٧، بسنده عن أبي أيوب الأنصاري (رض)، قال: «إن رسول الله (ص) أمرنا بقتال ثلاثةٍ مع عليٍّ: بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين. فأما الناكثون: فقد قاتلناهم، أهل الجمل، طلحة والزبير. وأما القاسطون: فهذا منصرفنا من عندهم ـ يعني: معاوية وعَمْراً ـ وأما المارقون: فهم أهل الطَّرْفاوات، وأهل السُّعَيْفات، وأهل النُّخَيْلات، وأهل النَّهْرَوانات. والله ما أدري أين هم؟ ولكن لابد من قتالهم إن شاء الله!».

وبهذي الروايات أخذ الشيعة، فقال الصدوق في الخصال: ج١ ص١٤٥ ح١٧١، «الناكثون: أصحاب الجمل، والقاسطون: أهل الشام ومعاوية، والمارقون: أهل النهروان».

وشرح هذا الحديث بنفس المعنى الذي يقول به الشيعة، غير واحد من علماء الجمهور، مثل:

(١) الفضل بن دكين، أنساب الأشراف: ج٢ ص١٣٨ ح١٢٩.

(٢) ابن الملاحمي في الفائق في أصول الدين: ص٣٥٢.

(٣) الخوارزمي في المناقب: ج١ ص١٧٦ و١٩٠ و٢٨٥.

(٤) ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: ج١ ص٢٠١.

(٥) التفتازاني في شرح المقاصد: ج٥ ص٣٠٧.

ثالثاً: زعم بعض المشاغبين: أن (أل) المعرِّفة في حديث: «الناكثين والقاسطين والمارقين»، هي الجِنْسِيَّة، بمعنى: أنها تشمل كلَّ الأفراد الذين نكثوا بيعة أمير المؤمنين (ع)، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وجماعة من الصحابة!

وحيث أن الإمام (ع) لم يقاتل الخلفاء وأتباعهم، فهو إما:

• عاصٍ لأمر رسول الله (ص)، والعياذ بالله.

• أو أنه (ع) لا يرى أن هؤلاء ناكثين للبيعة.

• أو أنه (ع) متناقض في مواقفه، وحاشاه.

• أو أن هذا الحديث مكذوب من الأساس.

وهذا خطأ فاحش، بل الدليل يخالفه، وأظن هذه مغالطة، يريد بها المُناظر التشويش، وإحراج خصمِه، وإثارة عاطفة السُّنة ضدَّ الشيعة، ليس إلا.

فإنه من الواضح أن (أل) المعرِّفة في الرواية هي العَهْدِيَّة، أي: التي تخصُّ أفراداً بأعيانهم، ونفراً بأشخاصهم.

بدليل: أن نفس هذا الحديث ـ ببعض رواياته ـ شرح رسولُ الله (ص) وأميرُ المؤمنين (ع) وبعضُ الصحابة، المراد من «الناكثين والقاسطين والمارقين»، وهم المذكورون أعلاه، فلا معنى لاستغراق جميع أفراد الجنس هنا أصلاً.

فالإمام (ع) مأمور بقتال فرقة محدَّدة من الصحابة، ليس عامة الصحابة، ممَّن نكث بيعته، أو ظلم حقه (ع).

رابعاً: الإمام (ع) نفسُه بيَّن موقفه بوضوح، من عدم قتاله الذين سبقوه، والتزامه الخيار السِّلمي لا الحربي معهم.

روى الرضي في نهج البلاغة: ج١ ص١٢٤ ح٧٤، عنه (ع) قال: «لقد علمتُم أني أحق الناس بها من غيري! ووالله لأسلمنَّ ما سلمتْ أمورُ المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زُخرُفه وزِبرجِه».

وفي شرح كلام الإمام (ع) هذا ..

[١] قال ابن ميثم البحراني في شرح النهج: ج٢ ص٢٠٥، «أي: لأتركنَّ المنافسة في هذا الأمر، مهما سلمتْ أمور المسلمين من الفتنة. وفيه إشارة إلى أن غرضه (ع) من المنافسة في هذا الأمر: هو صلاح حال المسلمين، واستقامة أمورهم، وسلامتهم عن الفتن. وقد كان لهم بمن سلف من الخلفاء قبله استقامة أمر، وإن كانت لا تبلغ عنده كمال استقامتها لو وليَ هو هذا الأمر. فلذلك أقسَم ليسلمنَّ ذلك الأمر، ولا ينازع فيه. إذ لو نازع فيه، لثارث الفتنة بين المسلمين، وانشقَّت عصا الإسلام، وذلك ضدُّ مطلوب الشارع. وإنما يتعيَّن عليه النزاع والقتال، عند خوف الفتنة وقيامها».

[٢] قال المجلسي في بحار الأنوار: ج٢٩ ص٦١٢ ح٢٧، «قوله (ع): أني أحق بها .. أي: بالخلافة والتفضيل، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان - الآية ١٥]. والجَور عليه (ع) خاصة: غصبُ حقه، وفيه دلالة على أن خلافة غيره جورٌ مطلقاً. والتسليم: ـ على التقدير المفروض، وهو سلامة أمور المسلمين، وإن لم يتحقق الفرض ـ لرعاية مصالح الإسلام والتقية».

[٣] قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج٦ ص١٦٦-١٦٧، «يقول (ع) لأهل الشورى: إنكم تعلمون أني أحق بالخلافة من غيري، وتعدِلون عني؟! ثم أقسَم، ليسلمنَّ وليتركنَّ المخالفة لهم، إذا كان في تسليمه، ونزوله عن حقه، سلامة أمور المسلمين، ولم يكن الجَوْر والحَيْف إلا عليه خاصة! وهذا كلام مثله (ع)، لأنه إذا علم ـ أو غلب على ظنه ـ أنه إن نازع وحارب، دخل على الإسلام وهنٌ وثَلم، لم يختر له المنازعة، وإن كان يطلب بالمنازعة ما هو حق. وإن علم ـ أو غلب على ظنه ـ بالإمساك عن طلب حقه، إنما يدخل الثَّلم والوَهن عليه خاصة، ويسلم الإسلام من الفتنة، وجب عليه أن يغضي ويصبر على ما أتوا إليه، من أخذ حقه، وكفِّ يده، حراسة للإسلام من الفتنة».

وهنا أشير إلى ضرورة قراءة الخطبة الشِّقْشِقيَّة الشريفة، التي رواها الرضي في نهج البلاغة: ج١ ص٣٠ ح٣، عن أمير المؤمنين (ع)، وضرورة الاطلاع على شروحها. فهي وثيقة تاريخية مهمة، وضَّح فيها الإمام (ع) موقفه من الخلفاء، وممَّن حاربوه في الجمل وصفين والنهروان.

الخلاصة:

• حديث «قتال: الناكثين، والقاسطين، والمارقين»، حديث مشهور ثابت.

• ورد ببعض صِيَغ الحديث، تحديد لهوية هؤلاء، وهم: أصحاب الجمل، وأصحاب صفين، وأصحاب النهروان.

• ما يزعمه بعض المشاغبين: أن (أل) في الحديث جنسية لا عهدية، غلط فاحش.

• أمير المؤمنين (ع) شرح موقفه بوضوح، من الخلفاء، وممَّن قاتلوه في حروبه.