موقفُ أميرِ المؤمنينَ (ع) مِن فدك وتحريمِ المُتعةِ وسبِّ الثلاثة
لماذا في زمنِ خلافةِ عليّ (رضيَ اللهُ عنه) لم يغيّر شيئاً فيما قامَ به أو فعلَ الخلفاءُ الثلاثة. أليسَ هذا دليلاً على أنّه كانَ يوافقُهم؟ مثلاً لم يُجِز زواجَ المُتعة، ولم يُحرّم صلاةَ التراويح، ولم يُرجِع فدكاً إلى فاطمة ولم يسُبَّ الخلفاءَ الثلاثةَ كما تزعمونَ أنتم، وكانَ بإمكانِه القيامُ بذلك ولم يفعَل وأريدُ جواباً معَ المصدر؟
الجوابُ:
أخي العزيز، حقيقةُ الأمرِ خلافاً لِما تتصوّرُه تماماً، فإنَّ أميرَ المؤمنينَ عليهِ السلام قد أجازَ زواجَ المُتعة، وحرّمَ صلاةَ التراويح ونهى عنها، وأمّا سبُّ الخلفاءِ الثلاثة فلم يصدُر منه لأسبابٍ كثيرة، وكذا الكلامُ في إرجاعِ فدك.
أمّا بخصوصِ زواجِ المُتعة، فقد أجمعَ أهلُ القبلةِ على أنّه سبحانَهُ شرّعَ هذا النكاحَ في صدرِ الإسلام، ولا يشكُّ أحدٌ في أصلِ مشروعيّتِه، وإنّما وقعَ الكلامُ في نسخِه أو بقاءِ مشروعيّتِه.
والأصلُ في مشروعيّتِه قولهُ سبحانه : (وَحَلاَئِلُ أَبنَائِكُمُ الَّذِينَ مِن أَصلاَبِكُم وَأَن تَجمَعُواْ بَينَ الأُختَينِ إَلاَّ مَا قَد سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَالْمُحصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَت أَيمَانُكُم كِتَابَ اللّهِ عَلَيكُم وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُم أَن تَبتَغُواْ بِأَموَالِكُم مُّحصِنِينَ غَيرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استَمتَعتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيكُم فِيمَا تَرَاضَيتُم بِهِ مِن بَعدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً).
وقد ذكرَ أربابُ الحديثِ نزولَ هذهِ الآيةِ في زواجِ المُتعة، وينتهي نقلُ هؤلاءِ إلى أمثالِ ابنِ عبّاس ، وأبيّ بنِ كعب ، وعبدِ اللهِ بنِ مسعود ، وجابرِ بنِ عبدِ الله الأنصاريّ، وحبيبِ بنِ أبي ثابت ، وسعيدِ بنِ جبير ، إلى غيرِ ذلك مِن علماءِ الحديثِ الذينَ لا يمكنُ اتّهامُهم بالوضعِ والجَعل .
وقد ذكرَ نزولَها منَ المُفسّرينَ والمُحدّثين: إمامُ الحنابلةِ أحمدُ بنُ حنبل في مُسندِه، وأبو جعفرٍ الطبريّ في تفسيرِه، وأبو بكرٍ الجصّاصِ الحنفيّ في أحكامِ القرآنِ وأبو بكرٍ البيهقيّ في السّننِ الكُبرى، ومحمودُ بنُ عمر الزمخشريّ في الكشّاف، وأبو بكرِ بنُ سعدونَ القرطبيّ في تفسيرِ جامعِ أحكامِ القرآن، وفخرُ الدينِ الرّازي في مفاتيحِ الغيب.
وأمّا إنكارُه عليهِ السلام تحريمَ المُتعةِ فهذا ثابتٌ.
روى الطبريُّ عن محمّدٍ بنِ المُثنّى قال، حدّثنا محمّدُ بنُ جعفر قالَ، حدّثنا شعبة، عن الحكم قالَ: سألتُه عن هذهِ الآية:" والمُحصناتُ منَ النساء إلّا ما ملكَت أيمانكم" إلى هذا الموضِع:" فما استمتَعتُم بهِ منهنَّ"، أمنسوخةٌ هي؟ قالَ: لا. قالَ الحكم: وقالَ عليٌّ رضيَ اللهُ عنه: لولا أنَّ عُمر رضيَ الله عنه نهى عن المتعةِ ما زنى إلّا شَقِيٌّ. تفسيرُ الطبري (8/ 178).
وروى الكلينيّ عن محمّدِ بنِ إسماعيل، عن الفضلِ بنِ شاذان، عن صفوانَ بنِ يحيى، عن ابنِ مسكان عن عبدِ الله بنِ سليمان قال: سمعتُ أبا جعفرٍ (ع) يقول: كانَ عليٌّ (ع) يقول: لولا ما سبقَني به ابنُ الخطّاب ما زنى إلّا شقيّ (الكافي الكُلينيّ (5/ 644).
ولا يشكُّ أحدٌ أنَّ عليّاً بنَ أبي طالب كانَ يجيزُ المُتعةَ أيّامَ خلافتِه وقبلَها وهاتانِ الروايتانِ وغيرَهما خيرُ دليلٍ على حليّةِ المُتعة وأنَّ تحريمَها ممّا لا أساسَ له في الدين.
وهذهِ سيرةُ أئمّةِ الهُدى عليهم السلام تعجُّ بعشراتِ الأحاديثِ المُجوّزةِ للمُتعة، وممّا لا شكَّ فيه أنّهم أخذوا هذا الحُكمَ عَن آبائِهم عَن عليٍّ عليهِ السلام عن رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله.
روى الكُلينيُّ رحمَه الله عن عليٍّ، عن أبيه، عن ابنِ أبي عُمير، عن عُمرَ بنِ أذينة، عن زرارةَ قال: جاءَ عبدُ الله بنُ عُمير الليثيّ إلى أبي جعفر ٍ(ع) فقالَ له: ما تقولُ في مُتعةِ النساء؟ فقالَ: أحلّها اللهُ في كتابِه وعلى لسانِ نبيّه صلّى اللهُ عليهِ وآله فهيَ حلالٌ إلى يومِ القيامة فقالَ: يا أبا جعفرٍ مثلُكَ يقولُ هذا و قد حرّمَها عُمر ونهى عَنها؟ ! فقالَ وإن كانَ فعل، قالَ: إنّي أعيذُكَ باللهِ مِن ذلك أن تُحلَّ شيئاً حرّمَه عمر، قالَ: فقالَ له: فأنتَ على قولِ صاحبِك وأنا على قولِ رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله فهلمَّ ألاعنَك أنَّ القولَ ما قالَ رسولُ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله وأنَّ الباطلَ ما قالَ صاحبُك، قالَ: فأقبلَ عبدُ اللهِ ابنُ عُمير فقال: يسرُّكَ أنَّ نساءَك وبناتَك وأخواتَك وبناتِ عمِّك يفعلنَ، قالَ: فأعرضَ عنهُ أبو جعفرٍ (ع) حينَ ذكرَ نساءَه وبناتِ عمّه. الكافي الكُليني (5/ 645).
وأمّا نهيُه عليهِ السلام عن صلاةِ التراويح فهذا ثابتٌ أيضاً.
قالَ المجلسيُّ: وَ قَد رُوِيَ أَنَّ أَمِيرَ المُؤمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ لَمَّا اجتَمَعُوا إِلَيهِ بِالكُوفَةِ فَسَأَلُوهُ أَن يَنصَبَ لَهُ إِمَاماً يُصَلِّي بِهِم نَافِلَةَ شَهرِ رَمَضَانَ، زَجَرَهُم وَ عَرَّفَهُم أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ، فَتَرَكُوهُ وَ اجتَمَعُوا لِأَنفُسِهِم وَ قَدَّمُوا بَعضَهُم، فَبَعَثَ إِلَيهِمُ الحَسَنَ عَلَيهِ السَّلَامُ، فَدَخَلَ عَلَيهِمُ المَسجِدَ وَ مَعَهُ الدِّرَّةُ، فَلَمَّا رَأَوهُ تَبَادَرُوا الأَبوَابَ وَ صَاحُوا وَا عُمَرَاهْ.
بحارُ الأنوار (115/ 2).
أمّا عدمُ إرجاعِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السلام لفدك أيّامَ خلافتِه فللأسبابِ التالية.
السّببُ الأوّل: أنّه عليهِ السلام تسلّمَ الخلافةَ بعدَ أن ذهبَ الغاصبُ والمغصوبُ منه إلى ربّهما الملكِ الجبّار فعوقبَ الغاصبُ وأثيبَ المظلومُ عليها السلام.
فكرهَ أميرُ الموحّدينَ عليهِ السلام أن يسترجعَ شيئاً قد عاقبَ اللهُ عليه فاعله.
روى الصّدوقُ عليهِ الرّحمة ما هذا لفظُه: (عن أبي بصيرٍ عن أبي عبدِ الله " ع " قال: قلتُ له لِمَ لم يأخُذ أميرُ المؤمنينَ " ع " فدكاً لمّا وليَ الناسَ ولأيّ علّةٍ تركَها؟ فقال: لأنَّ الظالمَ والمظلومَ كانا قدِما على اللهِ عزَّ وجل، وأثابَ اللهُ المظلومَ، وعاقبَ الظالم. فكرهَ أن يسترجعَ شيئاً قد عاقبَ اللهُ عليه غاصبَه وأثابَ عليهِ المغصوب. عللُ الشرايع للشيخِ الصّدوق (1/ 227).
السببُ الثاني: أنّه عليهِ السلام كرهَ إرجاعَ ما أُخذَ منهُ ظُلماً تأسّياً برسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله، فقد روى الصدوقُ طيّبَ اللهُ ثراه عن إبراهيمَ الكرخي قالَ: سألتُ أبا عبدِ الله " ع " فقلتُ له لأيّ علّةٍ تركَ عليُّ بنُ أبي طالب " ع " فدكاً لمّا وليَ الناس فقالَ: للاقتداءِ برسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله لمّا فتحَ مكّةَ وقد باعَ عقيلُ بنُ أبي طالب دارَه فقيلَ له يا رسولَ الله ألا ترجعُ إلى دارِك؟ فقالَ صلّى اللهُ عليه وآله وهل تركَ عقيلٌ لنا داراً إنّا أهلُ بيتٍ لا نسترجعُ شيئاً يؤخذُ منّا ظلماً. فلذلكَ لم يسترجِع فدكاً لمّا ولي. (عللُ الشرايع للشيخ الصّدوق 1/ 227).
السببُ الثالث: أنَّ أميرَ المؤمنين عليهِ السلام وليُّ المؤمنين يحكمُ لهُم ويأخذُ لهم حقوقُهم ممَّن ظلمَهم ولا يأخذُ حقَّه ممَّن ظلمَه؛ لعلمِه بأنَّ اللهَ جلَّ وعلا هوَ مَن يأخذُ بحقِّه وينصرُه، وقد روى الصدوقُ رحمَه الله ما هذا لفظُه (عن أحمدَ بنِ سعيدٍ الهمدانيّ قالَ حدّثنا عليٌّ بنُ الحسنِ بنِ عليٍّ بنِ فضال عن أبيهِ عن أبي الحسنِ " ع " قالَ: سألتُه عن أميرِ المؤمنينَ لِمَ لم يسترجِع فدكاً لمّا وليَ الناس؟ فقالَ: لأنّا أهلُ بيتٍ لا نأخذُ حقوقَنا ممَّن ظلمَنا إلّا هوَ (مرادُه عليهِ السلام اللهُ تعالى) ونحنُ أولياءُ المؤمنين إنّما نحكمُ لهم ونأخذُ حقوقَهم ممَّن ظلمَهم ولا نأخذُ لأنفسِنا). (عللُ الشرايع للشيخِ الصّدوق 1/ 227).
ودمتُم في حفظِ الله وحُسنِ رعايتِه.
اترك تعليق